• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لوحات لا تبهت ألوانها مهما مرّ العمر

لوحات لا تبهت ألوانها مهما مرّ العمر
◄وجوه: مرّ العمر كالمنام، ومروا هم كحلم في منام، كأنهم لم يقاسمونا تفاصيل العمر يوماً. كأنهم لم يضحكوا معنا، لم يبكوا، لم يفرحوا، لم يحزنوا، لم يحلموا، لم يقلقوا، كأنهم لم يقاسمونا الزاد، ولا ناموا تحت سقف واحد معنا، ولا ساروا في الطرقات العتيقة بصحبتنا. مروا كأنهم لم يشاركونا سهرات الليل ولا أحاديث المساء، كأنهم لم يتذمروا معنا من حرارة الصيف، ولا فرحوا معنا بأمطار الشتاء. مروا كأنهم لم يدللوا طفولتنا. كأنهم ما قبّلوا وجوهنا الصغيرة بلهفة، ولا مسحوا فوق رؤوسنا برحمة، ولا قلّموا أظفارنا، ولا مشطوا شعورنا، ولا أقاموا الليل بالذكر والدعاء لنا. مروا كأنهم لم ينتظروا هلال رمضان معنا، ولا جلسوا فوق سفرة الإفطار في انتظار المدفع والأذان. رحلوا كأنهم لم يرافقونا إلى صلاة العيد. رحلوا كأننا لم نختلف يوماً معهم، لم نتخاصم، لم نعتب عليهم، لم نغضب منهم. مروا سريعاً  كما تمر الأشياء الجميلة، كعمر في منام، ومنام في عمر.   حكاية: في زمن الوهن، أبحث عن حكاية حب لا تخضع للحروف والأرقام. حكاية لا تتوقف فيها الساعة، ولا يدق فيها الجرس. حكاية أوراقها خضراء. حكاية ضاحكة غير قابلة للألم. حكاية جدرانها قوية لا تخذلني عند التعب. حكاية أسوارها عالية لا يتسلقها الكلاب والذئاب. حكاية لا يهجرها أبطالها ولا يعشش فيها الغربان. حكاية لا يتسرب الخذلان عبر نوافذها ولا يحرق الحسد أطرافها. حكاية غير قابلة للتحول إلى علكة في أفواه نسوة المدينة. حكاية لا تدنسها الذنوب، ولا يحرقها سوء الظن.. حكاية لا يتشرد فيها الحلم كيتيم الأبوين، ولا يتغرب فيها الوفاء كمنفي عن وطن. حكاية معتقة بعطر جدتي. حكاية تشبه فرحة طفولتي ليلة العيد. حكاية نقية كجدي، صابرة كأبي، كريمة كأخي، حنونة كعمي. حكاية أحبها بطهر كما أحببت بطلي الأوّل، وأسترها بقلق كما سترتُ رسالتي الأولى. حكاية أنتقي أسماء أطفالها، وأطلي جدرانها بوجوه أحبتي. حكايتي أسير في طرقاتها حافية القدمين، وأغني في ممراتها أغنياتي المفضلة. حكاية أحمل فيها جيتاري كل مساء، وأعزف للعشاق، لليل، للحلم، للحنين. حكاية أنتظر فيها المطر بفارغ الصبر كي أكتشف "أي حزن يبعثه المطر". حكاية لا تذيقني أحداثها عذاب التتار، ولا أضطر فيها إلى السباحة عكس التيار.   طفولة: افتح يا سمسم.. نحن رفاقك القدامى، نحن الصغار الذين كنا نستقبلك عبر شاشات التلفاز بفرح. نحن الذين كنا نحفظ أغانيك أكثر من دروسنا المدرسية. نحن الذين كنا نردد معك بإصرار (ح.. حا.. حاف.. حافل.. حافلة.. نعم إنها حافلة). افتح يا سمسم.. فما زلنا هنا، كأنّ الزمان وقف بنا أمامك. كأننا لم نغادرك. كأننا لم نكبر. كان عمرنا لم يتناقص. كأنّ هذه الحياة لم تسلبنا براءة قلوبنا. كأن أحلامنا مازالت خضراء. كأن قلوبنا مازالت بيضاء نقية. كأننا مازلنا نقطن المنازل القديمة، المنازل التي كانت لنا أماً.. ووطناً.   هاتف: ليت هواتفنا القديمة احتفظ بأصواتهم كما احتفظت بأرقامهم و"مسجاتهم". فالحروف تبقى والأنفاس تغيب. الألم يبقى والأصوات تغيب. تغيب أصواتهم كغياب عمر جميل، فنحنُّ إلى نبرات أصوات نادتنا يوماً بأحب الأسماء إلينا، وسردت علينا تفاصيل حكايات عمر بأكمل. نحنُّ إلى أحبة نسجنا معهم عبر الهواتف حكايات ظنناها ستدوم بامتداد العمر، وامتد العمر من دونهم. أحبة شيدنا معهم القصور، وحلمنا بالأطفال، وانتقينا الأسماء، ثمّ استيقظنا على واقع يخلو منهم ومن الأمنيات والقصور والأطفال والأصوات، وبقيت الأجهزة باردة كقطعة ثلج، كجسد عزيز فارقته الحياة. فمن منا لا يحتفظ بهاتف قديم.. خبأ به أجزاء من حكاية وعمر وعاطفة؟►

ارسال التعليق

Top