• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مبدأ التقابل في القرآن الكريم

أسرة

مبدأ التقابل في القرآن الكريم

ثمّة إشارة ضمنيّة في الكتاب الكريم يُستفاد منها أنّه كتاب التقابل الحياتي بامتياز، تلك هي صفة (المثاني)، التي نستدلُّ من بعض معانيها ومدلولاتها على مبدأ التقابل في القرآن الكريم.
والمُراد بالتقابل القرآني هو ما يطرحه كتاب المسلمين الأوّل من صور حيّة للعلاقة بين نموذجين إنسانيين متنافرين، أو بين موقفين متضادّين متضاربين، يقف أحدهما بقوّة في مواجهة الآخر. فالتّقابل هو علاقةٌ بين متحرِّكين (يقتربان) سويّة من نقطة أو نقاط مشتركة، أو قد يفترقان افتراقاً كلِّيّاً حيث لا اشتراك، أي أنّ النماذج المُتقابلة في القرآن قد تكون متجانسة، بمعنى أنّها من جنسٍ واحد، وقد تكون متعاكسة كلٌّ يضربُ في اتِّجاه.
والغايةُ من التقابل في القرآن تربويّة بالدرجة الأولى، أي أنّ الله سبحانه وتعالى يُجلِّي من خلاله أصالة الإيجابي في مقابل زيف السّلبي، لننشد الأوّل وننشدّ إليه، ونبارح الثاني ونقرف منه. وهذا يعني أنّ أسلوب التقابل أو المتقابلات القرآنيّة هو أسلوب (المقايسة) و(المقارنة)، وهو أسلوبٌ تربويٌّ رائد في التّوجيه والتأهيل وبناء الشخصيّة والإعتبار بالنماذج الحياتيّة الشاخصة على مفترقات الطرق.
إنّه أسلوب: (الضدّ يُظهر حسنه الضدّ) وأسلوب (بأضدادِها تُعرفُ الأشياء). فإذا أرادَ القرآن طرح أنموذج إنساني إيجابي طرح إلى جانبه أو في قباله أنموذجاً إنسانيّاً سلبيّاً منحرفاً لتتشخّص القيمة من خلال المقارنة، ويتبيّن الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من معادن الناس، وعلى ذلك يكون التقابل وسيلة إيضاح قرآنية تندرج – بلا إقحام – في سياق البحوث المقارنة.
يقول الإمام علي (ع): "إعملوا أنّكم لن تعرفوا الرُّشدَ حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاقِ الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه"!

إنّ قيمة التقابل التربوية تظهر من خلال هذه النقلة من الفكرة المجردة أو المفهوم المنسلخ عن مصاديقه، إلى الشواهد التي تقرأها في القرآن وتطالعها في الميدان، فتتعمّق الفكرة ويترسّخ المفهوم، ويرتفع الغبش عن الصورة فتبدو في مرآة التقابل صارخة الوضوح، بيِّنة الرّمز، واضحة المرمى.
غيرَ أنّ مبدأ التقابل في القرآن يقتضينا – ضمناً – أن ندرس بعض القوانين المُتعلِّقة به، فهو يرتبط بـ:
- (قانون التداعي): أي أنّ النموذج الآخر يأتي بالتعاقب أو التوالي بعد أن تكون ريشة القرآن قد فرغت من رسم صورة النموذج الأوّل الموافق أو المخالف، أو أنّه يندفع إلى واجهة الذاكرة بمجرد عرض مقابله، لتنعقد المقارنة الذِّهنية والواقعيّة بين النموذجين المُتقابلين.
- (قانون الإقتران): حيث أنّ النماذج الإيجابية تعطفُ إلى قريناتها كتوائم أو أتراب، متشابهات أو متقاربات في الكيفية والتناسب، كونها تشترك في المواصفات أو العناصر الأساسية، الأمر الذي يجعل اقترانها أو ائتلافها عامل قوّة وتعضيد للإيجابي هنا، أو للسلبي هناك.
- (قانون المُتشابه): بمعنى أنّ هناك قواسم مشتركة بين العيِّنات الإيجابية أو السلبية، تجعلها في إطارٍ واحدٍ وربّما موحّد، وكلما تعدّد النموذج في القرآن – سلباً أو إيجاباً – زاد ذلك في وضوح معالم صورته التي بدلاً من أن يتحدّث عنها شاهدٌ واحد، يكثر المُتحدِّثون عنها، أو المُجسِّدون له.
إنّه ليس تشابه التطابق والمثليّة التامّة، ولكنّها تشابه المقابلة، فيمكن – مثلاً – أن نُقابل بين خروج يوسف (ع) على البيئة المنحرفة، وبين (آسية بنت مزاحم) زوجة فرعون في تعاليها على البيئة الفاسدة المنحرفة، كما يمكن أن نُقابل بين نموذج آسية ونموذج مؤمن آل فرعون في التسامي على تلك البيئة الغارقة في الفساد، وهكذا.
- (قانون التّضاد): الذي يكشف عن حالة التباين والتقابل التام، والضِّدّان – كما هو معلوم – لا يجتمعان في شيءٍ واحد، ولذلك كان النِّفاقُ حالة شذوذ وليس قاعدة يُقاسُ عليها، أو نماذج يُقتدى بها؛ كونه جامعاً لظاهر الإيمان وباطن الكفر.
- (قانون التفاعل): أي أنّ النماذج القرآنية ليست ذات بُعد واحد، بل يمكن توظيفها في أكثر من مفهوم، بحسب القدرة المُعطاة لها، وعلى ضوء حركتها التي رسمها القرآن لها. فإمرأة العزيز (زليخا) ليست فقط نموذجاً للمرأة المنحرفة أو الخائنة فقط، بل هي نموذج أيضاً للمرأة الجريئة المُعترفة بخطأها أيضاً، ممّا يُساعدنا على أن نعتبرها مصداقاً للتقابل مع إخوة (يوسف) في اعترافهم بأنّهم كانوا خاطئين.

بناءً على ذلك، يمكن أن نُقسِّم التقابل – بشكل عام – إلى أربعة أقسام:
1- تقابل (السلب والإيجاب): كشعور المحسن بفقر الفقير، وعدم شعور البخيل بذلك.
2- تقابل (المُتضايفين): مثل الأبوّة والبنوّة للعلاقة التلازميّة بينهما. فمعنى البنوّة يتأكّد بوجود الأبوّة، ووجود الأبوّة يتحقّق بوجود البنوّة. (إبراهيم وإسماعيل كنموذج، ونوح وكنعان كنموذج متقابل).
3- تقابل (الضِّدّين): كتقابل السواد والبياض، كتقابل وجوه المؤمنين البيضاء ووجوه الكافرين السوداء في الآخرة.
4- تقابل (المَلَكة) أو (العَدَم): مثل العمى والبصر، كما في مثل الذي يمشي مُكِبّاً والذي يمشي سوّياً.
أمّا حينما ندرس التقابل في القرآن الكريم، فيمكن – إضافةً إلى ذلك – أن نُصنِّفه إلى صنفين أساسين، يتفرّع كلٌّ منهما إلى ثلاثة أقسام:

الصِّنف الأوّل: التقابل من حيث طبيعة العيِّنات الفكرية، وينقسم إلى ثلاثة أقسام، هي:
1- التقابل التجريديّ: (كولاية الله وولاية الطاغوت).
2- التقابل الحيّ: بين رموز قرآنية قد تُذكر بالرسم تارةً بالرّمز تارة، (كتفاؤل يعقوب (ع) في رؤية يوسف (ع)، وتفاؤل يونس (ع) بأنّ رحمة الله واسعة يمكن أن تطاله حتى بطن الحوت).
3- التقابل المُتصيِّد: ونعني به التقابل الذي يجمع بين مُتقابلين لم يُشِر القرآن إليهما بسبّابته، أو لم يضعهما على منصّة المقايسة أو المقارنة المباشرة، (كحسد قابيل لأخيه هابيل، وحسد إخوة يوسف لأخيهم يوسف (ع))، وبمعنى آخر، فإنّ القراءة التفاعلية للنماذج التي تتحرك على مسرح القرآن، لا تتيح الفصل الموضوعي في المفصولات موضعيّاً، خاصّة وأنّ القرآن يُفسِّرُ بعضهُ بعضاً، وأنّه – لأغراض تربوية معينة – قد يعود بذهن القارئ إلى لوحة مماثلة أو قريبة للّوحة التي يُطالعها الآن، ومعرض القرآن حافلٌ بالثنائيّات المُتقابلة، سواء كانت بينهما علاقة مجاورة وارتباط عضويّ، أو لم يكن.
فعفاف يوسف (ع) الذي شاهدناه في قصر العزيز، يمكن أن نُقابله بعفاف موسى (ع) الذي شاهدناه في مَدين)، كتقابل إيجابي، وعفاف بنات شُعيب – في مَدين ذاتها – يمكن أن نُقابله بتهتّك (زليخا) في مراودتها ليوسف (ع).

الصِّنف الثاني: التقابل من حيث إيجابية وسلبية العيّنات، وينقسم إلى ثلاثة أقسام أيضاً:
1- تقابل إيجابي: (أي مقابلة عيِّنة إيجابيّة بأخرى إيجابيّة)، وهي علاقة تناظر وتماثل، كإقبال الملكة بلقيس على التوحيد، وإقبال السيِّدة الأولى في مصر (آسية بنت مزاحم) على الإيمان بالله والإنقطاع إليه.
2- تقابل سلبيّ: (أي مقابلة عيِّنة سلبية بعيِّنة سلبية أخرى)، وهو تقابل تماثل أيضاً، كتشبيه التاركين للعمل بالكتاب بالحمار يحمل أسفاراً، وتشبيه المنسلخ عن آيات الله بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
3- تقابل إيجابي سلبي: (أي تقابل عيِّنة إيجابيّة مع أخرى سلبيّة)، وهو تقابل تضاد وتنافر، كالنماذج العديدة التي يسوقها القرآن لمثل المؤمن ومثل الكافر.
ولابدّ لنا ونحنّ نتحدّث عن مبدأ التقابل في القرآن الكريم، من الإشارة إلى بعض الملاحظات الإستكماليّة ذات العلاقة بالتقابل:
1- إنّ سبب النزول – إن كان هناك سبب نزول لبعض الآيات – ليس حصريّاً، أي أنّ المورد لا يحدِّد ولا يخصِّص الوارد، فتاركو العمل بالكتاب السماوي هم ليسوا اليهود أو بني إسرائيل فقط، بل كلّ أهل كتاب تركوا كتابهم وراء ظهورهم، هم كالحمار يحمل أسفاراً.
2- لا يصحّ الأخذ بالإعتبار الجنسي للنماذج القرآنيّة، إلا في حدود خصوصيّة العامل الجنسي المؤثِّر في طبيعة ودور وتأثير العيِّنة في أبناء أو بنات جنسها. وإلا فهي من حيث رسالتها التربوية، نماذج شاملة للجنسين، فبنات شُعيب – مثلاً – يقمنَ بواجب كفالة الأسرة المالية في حال عجز المُعيل أو الأب عن القيام بهذه المهمّة، الأمر الذي يمكن أن ينطبق على الشبان في الأسرة أيضاً، فهما نموذج المُعيل لأسرته المحتاجة إلى الإعالة بحسب المُتاح من أحد الجنسين.
أمّا اعتزالهنّ للرعاة أثناء السقي، فيوصل إلى بنات جنسهنّ رسالة مفادها أنّ العفّة والحشمة يجب أن تُراعى من قِبَلهنّ حتى وهنّ يزاولنَ أعمالاً غير منزليّة.
3- ضرورة ملاحظة أمثال هذه العيِّنات والنماذج في الحياة العامّة، فهذه المتقابلات حيّة لم تمت، حتى وإن ماتَ بعض مَن مثّلوها، ممّا يدفع بها – دائماً – إلى أن تتجسّد في شخصيات معاشة تقف في هذا الصف أو الصف المُضاد.
4- وقد لا تكون المتقابلات القرآنية ثنائية دائماً، فقد نلتقي بثلاثة نماذج متقابلة أو أكثر، كما سيتضح ذلك من خلال عرضنا لبعض المتقابلات بإذن الله.
5- ولأنّ بعض المتقابلات هي أمثلة قرآنية، إرتئينا أن نُثبِّت هنا قيمة المثل في القرآن الكريم، بحسب ما ورد في بعض كتب التفسير:
أ- المثال يجعل المسائل محسوسة:

فالإنسان – بطبيعته – يأنس بالمحسوسات أكثر من المعقولات، ولمّا كانت بعض الحقائق العلميّة معقدة فهي بعيدة المنال، ولذلك تلعب الأمثال دور تقريب الفواصل، وجعل الحقائق المعنويّة محسوسة، وإدراكها يسيراً ولذيذاً.
ب- المثال يُقرِّب المعنى:
فحتى مع الأدلّة التي تثبت المسائل المنطقية أو العقلية، تبقى هناك نقاط مهمّة تحتاج إلى توضيح. وإيراد المثل الواضح المنسجم مع الغاية يُقرِّب المعنى، ويُعزِّز الأدلة، ويُقلِّل من كثرتها.
ت- المثال يعمِّم المفاهيم:
الكثير من البحوث العلمية يفهمها الخواص أو النخبة فقط، ولا يستفيد منها عامّة الناس، ولكن عندما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر والثقافة.
ج- المثال يُخرِس المُعاندين:
كثيراً ما لا تنفع الأدلّة العقلية والمنطقية لإسكات الشخص المُعاند، حيث يبقى مُصرّاً على عناده، ولكن عندما نصبّ الحديث في قالب المثال، نغلق أو نقطع الطريق عليه، بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لاختلاق الأعذار.

ارسال التعليق

Top