• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

محبة الخير للناس

محبة الخير للناس
 ◄الهداية إلى الإيمان هي أعظم نِعَم الله تبارك وتعالى على عباده؛ فهي سببُ السعادة الأبدية في جنّة الله ورضوانه، وهي الباعثُ على كلِّ عملٍ طيبٍ كريمٍ، والحاجزُ عن كلِّ شرٍّ ومعصية.

والمسلمُ، وهو يستشعرُ قَدْرَ هذه النعمة الجليلة عليه شاكراً ربَّهُ على ما أنعم به عليه يحرصُ كذلك أن يحافظ على هذا الإيمان، ويبذل جهده لتقويته وتمكينه؛ فتزيدهُ الأيام قوةً ورسوخاً في النفس وإشراقاً في القلب. وفي سبيل تحقيق ذلك يستعينُ بهدي الكتاب المبين وبسنّة نبيّه الأمين (ص) ليقوّي إيمانه ويعزّز يقينه.

وبين أيدينا حديثٌ نبويّ شريف يرشد إلى خصلةٍ من خصال الخير تشكِّل لَبِنَةً منيعةً في صرح بنيان الإيمان في قلب المسلم.

عن النبي (ص) قال: "لا يؤمنُ أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[1]. يبين الحديث الشريف أنّ المرء لا يبلغُ كمال الإيمان إذا إذا كان يحبُّ لأخيه المسلم من الخير ما يحبّه لنفسه.

ويُفهم منه أنّ من لم يتخلّق بهذا الخُلُق الكريم إن كان مؤمناً فإنه لم يصل إلى الإيمان الكامل، وإذا كان لم يصل إلى الإيمان الكامل فيكون إيمانه ناقصاً. فالإيمان يشبه ملجأً منيعاً يبنى بحجر على حجر، والإيمان كذلك يُبنى خصلةً طيّبةً على خصلةٍ طيبةٍ حتى يُستَكملَ البناءُ.

فهذه الخصلة، وهي محبةُ الخيرِ للناس، لبنةٌ في صرح البناء وليست البناء كلّه؟ وهذا يعني أنّها بذاتها لا تشكِّل إيماناً كاملاً كما يُفهم من النص الكريم.

هذه الخصلة الكريمة تعني أن يُحبّ المرء لغيره من الخير ما يُحبُّ لنفسه. وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن الخير، وهي كلمةٌ جامعةٌ لكلّ ما ينفع الإنسان مادياً كان أو معنوياً سواء كان يقتصر نفعه على الدنيا أو يتعلّق بالآخرة مثل الطاعات والمباحات. ومحبّةُ الخير للناس، هي أن يريدَ المرء لغيره ما يعتقده خيراً.

إنّ الفطرة الإنسانية تدعو المرء إلى أن يبحث عن كلِّ ما يعودُ عليه من نفع، ويُبعد عن نفسه كلّ ما يعود عليها بالضرر، وهذا الاتجاه الفطري لازمٌ لبقاء النفس واستمرار وجودها. وقد جاء الإسلام لا لينفي أو يلغي هذه الفطرة، وإنما ليهذّبها وينظّمها لتؤدّي واجبها في الحياة على أحسن وجه. فوجّه الإنسان في هذه الناحية إلى أن لا يسعى في جلب الخير إلى نفسه وإبعاد الضرر عنها بالإضرار بالآخرين، وإنما بأن يأخذ ما له ويدع ما عليه، وأن لا يجعل الحياة تدورُ حول النفس وأنانيتها. فإنّ الحفاظ على النفس الإنسانية ليس هدفاً وإنما هو وسيلة ليتمكن بها المرءُ من تحقيق واجبه في هذه الحياة.

ومن الضوابط التي أرشد إليها الإسلام لتهذيب الفطرة في هذا السبيل أن لا يقصر همُّه على جلب الخير لنفسه وإبعاد الضرر عنها؛ وإنما ليوسّع دائرة اهتمامه هذه لتشمل سائر إخوانه المسلمين. فإذا كان كلّ فردٍ من أفراد المجتمع يسعى لبذل الخير لغيره، فإنّ الخير ينتشرُ ويعُمُّ لا محالة.

إنّ ما يصيبُ المرء من خيرٍ دنيوياً كان كالمال والولد، أو دينياً كالإيمان والتقوى، مادياً كان كالنقود، أو معنوياً كالصحة وسلامة العرض والخشية كلّها من الله تبارك وتعالى مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل/ 53). شاءت إرادةُ الله عزّ وجلّ أن يخصّ به عبداً من عباده، والله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يعمِّمَ فضله من كلّ أنواع الخيرات على سائر العباد لا يُقلل خيره ولا ينضب عطاؤه كما أشار إليه الحديث القدسي الشريف: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيت كلّ إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أُدخل البحر".

ويوقن المسلم  أنّ ما ينزلُ عليه من الخير ابتلاءً، كما أنّ ما يُصيبه من الشر ابتلاءً؛ والمطلوب أن ينجح المؤمن في ذلك، وهو ما يعبَّرُ عنه بشكرِ النعمة والصبر عند البلاء. ومن شُكر النعمة أن يُقرّ لله تعالى وحده بالمنّة والفضل فيها، ولا ينسب لنفسه جهداً أو فضلاً، وأن يستخدم هذه النعمة في طاعة الله تبارك وتعالى، وأن يجعل من هذه النعمة جزءاً يستعمله صدقةً على المحتاجين إليها، وأن يتمنّى أن يتفضّل الله تبارك وتعالى على سائر المسلمين أنعَمَ به عليه وما خصّه به من الفضل.

إنّ حرص المسلم وتمنّيه الخير لغيره يدخلُ في باب التواضع الذي أمر به الدين، وحضّ عليه وحذّر من ضدّه، وهو الكبرُ، وحذّر منه لأنّ الإنسان إذا كان متواضعاً فهو لا يرى لنفسه مزيةً أو فضلاً على غيره. فإذا نزلت عليه نعمةٌ لم يَرَ نفسه مستحقّاً لها دون الخَلْقِ؛ بل يراها من محض فضل الله عزّ وجلّ عليه. فيسأل الله تعالى أن يعمِّم فضله على سائر المسلمين، وبهذا يكون داخلاً في عموم الموعودين في قول الله تبارك وتعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83).

والذين لا يريدون في الأرض العلوّ والفساد، ولا يسعون في نشره؛ هم أولئك الذين سعوا في تطهير بواطنهم من الأخلاق الذميمة كالغِلّ والحسد والغشّ والكِبَرِ والتّعالي، وملأوها بمكارم الأخلاق كحبِّ الناس والرحمة بهم والعطف عليهم والتواضع لهم وبذل الخير لهم. فمن كان من هذا الصنف فهو ممّن زكت نفسه، وارتقت همّته، وعلت منزلته عند ربّه. ►


[1]- 13 فتح الباري، 75/1.

ارسال التعليق

Top