• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

محمد (ص).. أكمل الكائنات عرفاناً وخلقاً

محمد رضا أمين

محمد (ص).. أكمل الكائنات عرفاناً وخلقاً
◄نفتتح مقالنا هذا بكلام للإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين (ع) إذ يقول:

"الحمد لله الأوّل بلا أوّل كانَ قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قَصُرَت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً واخترعهم على مشيئته اختراعاً، ثمّ سلك بهم طريق إرادته وبعثهم في سبيل محبته، لا يملكون تأخيراً عما قدّمهم ولا يستطيعون تقدّماً إلى ما أخّرهم عنه.."[1].

إنّ عالم الوجود بما يتضمن هو من فعل الله تعالى، والله هو العلة وهو مفيض الموجودات، والموجودات هي الفيض وهي المعلول.

علاقة العلّة بالمعلول والمفيض بالفيض هي علاقة وجودية، ولهذا فوجود المعلول وجود مفتقر، وهو – أي وجود المعلول – عين الفقر والحاجة، وليس وجوداً تعتبر الحاجة والفقر من صفاته. وبما أنّ وجود "فاعل" الوجود هو عين الغنى والاكتفاء فإنّ وجود المخلوقات مرتبط بكليته بالله تعالى، ويسير في الدرب والاتجاه اللذين حددهما له الموجد. وطبقاً لهذه القاعدة فإنّ الفاعل هو المحبّ والفعل هو المحبوب. والفاعل يريد أن يرجع إليه فعله (ولذا فتوجُّه الفعل سيكون باتجاه الفاعل وما دام مبدأ الفعل هو أيضاً الفاعل فسيكون الفعل منه وإليه). والموجودات – التي هي فعل الله تعالى، ابتدعها بقدرته واخترعها بمشيئته وبعثها في درب محبته – تنقسم إلى نوعين:

1- نوع يعتبر "محبوب الله" بدون واسطة.

2- نوع هو "محبوب الله" بالواسطة.

فالموجود الذي خلق بدون واسطة هو محبوب لله، وهو أيضاً محبوب له سبحانه بدون واسطة. أما الموجودات المخلوقة بواسطة الفيض فهي "محبوب الله" بواسطة. ويحدثنا أمير المؤمنين (ع) فيقول:

"كان الله ولا شيء معه. فأوّل ما خلق نور حبيبه محمد (ص)... والحقّ تبارك وتعالى ينظر إليه ويقول: يا عبدي أنت المراد والمُريدُ وأنت خيرتي من خلقي، وعزتي وجلالي لولاك لما خلقت الأفلاك، مَن أحبك أحببت..."[2].

والفعل – لكونه فعلاً – تلازمه الحاجة. فهو لا يستطيع التخلّف عن فاعله وإرادته، لأنّ الفاعل وصاحب القرار هو الربّ، والمربوب والمخلوق يخضع بكامل وجوده لسلطة الربّ والخالق. وإذا كان بإمكاننا أن نطلق هنا كلمة (ميثاق) فعلينا القول: إنّ تسليم الوجود الممكن للوجود والكمال المطلق/ على أساس الفرضية القائلة بأنّ "الممكن" وجود مستقل قبالة الوجود المطلق/ يشكل الميثاق التكويني بين الفعل والفاعل وهو بحدّ ذاته "فعل" كما في:

لا يملكون تأخيراً عما قدمهم إليه ولا يستطيعون تقدماً إلى ما أخّرهم عنه[3]. وعلى هذا الأساس فإنّ جميع الموجودات خاضعة لإرادة الله ومسبّحة بحمده:

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44).

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) (الحشر/ 1).

والتسبيح، تنزيه، ونفي لأي نقص أو حاجة عن ساحة القدس والكمال الإلهي[4]. فالممكنات التي تسبّح لله تعالى تبرّئه من أي نقص أو عيب أو حاجة. وتحسّ أنّ النقص هو في وجودها المرتبط عينياً بوجود الخالق، وعليه فهي بتسبيحها وحمدها ترتقي سلالم الكمال لتنهل من الفيض. وتستغرق في التفكّر بالجمال الأزلي من نافذة العشق والمحبة، وتتولّه في التأمل بالجمال الأبدي إذ ليس لها من معشوق سوى المبدأ الأعلى، ولا من محبوب إلا العلة الأولى... وأصحاب البصيرة يرون أن كل مفيض هو مطلوب حقيقي للمُفاض، وكلّ علة هي محبوب ذاتي للمعلول. ولهذا تطلب السفليات العلويات، وتطلب الكائنات الإبداعات، والكل حسب فطرته وجبلته يطلب الخير المطلق والمبدأ الأعلى[5].

على أي حال فإنّ العلاقة الوجودية بين العلّة والمعلول والمفيض المُفاض وتسبيح المخلوق والمربوب للخالق والرب تختلف باختلاف مراتب وجود الموجودات، ومراتب الوجود تخضع لقرب وبعد الموجودات عن المبدأ الأعلى. فأبعد الموجودات علاقته أضعف، وأقربها علاقتُه أكمل وأقوى بالله تعالى. ومن هنا فإنّ أوّل ارتباط وأوّل ميثاق وأوّل تسبيح هو لأوّل مخلوق أي/ الأقرب إلى الله والأكمل بين الموجودات في عالم الامكان/ وهذا هو وجود العقل الأوّل أي نور نبي الإسلام محمد (ص) كما تبين.

إنّ النبي الكريم (ص) أقرّ قبل أي مر الموجودات المحلية والأنبياء العظام بربوبية الله تعالى، وكان أوّل من أعطى الميثاق كما جاء في الروايات ومنها:

عن أبي عبدالله (ع): "إنّ بعض قريش قالوا لرسول الله (ص) بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت آخرهم وخاتمتهم؟ فقال إني كنت أوّل من آمن بربي وأوّل من أجابَ حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدَهُم على أنفسهم: ألَسْتُ بربكم قالوا بلى، فكنت أوّل نبي قال بل فسبقتهم بالإقرار بالله"[6].

عن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن قول الله عزّ وجلّ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ... قَالُوا بَلَى) (الأعراف/ 172)، "قال كان محمد (ص) أوّل من قال بلى... فأثبت المعرفة في قلوبهم ونسوا ذلك الميثاق وسيَذْكرونه بعدُ ولولا ذلك لم يدْرِ أحد مَن خالقه ولا رازقه[7].

إنّ الشهادة هي الحضور والمشاهدة والتيقن، وليس سماعاً ورؤية بالواسطة، أو رؤية بالآيات والعلائم الدالة على الحقٍِّ/ بل توصلاً حضورياً إلى الحقيقة. فالشهادة تنطوي على الشعور والعقل والمعرفة، وهي تعني المعرفة المصحوبة بالمشاهدة والحضور. فالإنسان الذي يشهد بوجود الباري تعالى يجب أن يكون على معرفة حضورية بوجوده الذاتي. والآية الشريفة (أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الأعراف/ 172)، تؤكد حقيقة أنّ الإنسان يجب أن يعرف نفسه معرفة حضورية، وأن لا يكون مجهولاً أمام ذاته. والذي يتوصل إلى معرفة نفسه يجد أن وجوده مرتبط بأكمله بشكل لا يقبل أيّة استقلالية. وفي هذه الحالة يتلمس العلاقة بينه "كمفاض" وبين الله "كمفيض" فينأى عن نفسه ويستغرق في التأمل بالحقِّ الأعلى إلى أن يحقق معرفة حضورية به[8]. وهنا تحصل المعاينة[9]، ويسأل المفيضُ والرب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف/ 172)، فيجيب المفاض: بل شهدنا. والشهادة هنا هي إقرار بأنّ الله هو صاحب الخيار والقرار نحن عبيد ومملوكون، وأنّ الله غني بذاته ونحن فقراء بذاتنا. ومن المسلّم به أنّ المعرفة الاكتسابية إن دلت على شيء فإنّها تدل على الفقر إلى واجد الوجود الغني بالذات. وهذه المعرفة لا تكفي للشهادة إذْ أنّ الشهادة لا تتحقق مصاديقها إلا إذا كان المشهود حاضراً أمام شاهده حضوراً عينياً.

إنّ للعلاقة الوجودية درجات ومراتب فكلما كانت هذه العلاقة أقوى كانت المشاهدة والحضور أكثر بروزاً. والوجود الذي يفوق باقي الموجوات "معرفة حضورية" هو الوجود الأقرب للمبدأ الواجب. ومن هنا يتقدم غيره من الموجودات في الإقرار بالربوبية. وهذا الوجود هو القبس الطاهر للنبي الكريم (ص) لأنّه استغرق في الحمد والتسبيح قبل غيره من المخلوقات.

نقل عن أمير المؤمنين (ع):

"فلما خلقَ الله نور نبينا محمد (ص) بقي ألف عام بين يدي الله سبحانه وتعالى واقفاً يسبحه ويحمده والحقّ تبارك وتعالى ينظر إليه"[10].

إنّ موجوداً عنده هذه الرؤية وهذا الحضور لا يتخلف عن طاعة الله سبحانه فكما أن نوره هو فوق الأنوار فإنّ عقله أيضاً هو فوق العقول، ومع أنّ العقل والنور يختلفان من حيث المفهوم إلا أنهما حقيقة واحدة، والله عند خلق العقل – وهو أوّل خلق قال له:

"أقبِلْ فأقْبَلَ ثمّ قال له أدْبر فأدبر".

في مسألة "إقبال وإدبار" العقل هناك احتمالات بيّنها المرحوم العلامة المجلسي في كتابه "مرآة العقول" فيقول: إذا كان المراد في العقل "أوّل ما خلق الله" فهذا يعني أنّه نور النبي محمد (ص)، فهذا الاحتمال يتطابق مع قولنا بأنّ المراد من الإقبال "الإقبال نحو الدنيا والخلق" والمراد من الإدبار "العودة إلى عالم القدس"[11] ولقد جاء في الروايات: "إياك آمر وإياك أنهى وإياك أُعاقب وإياك أُثيب"[12]. وفي روايات أخرى استبدلت كلمة "إياك" بكلمة "بك"[13]. وفي هذا دلالة عن تنزل العقل من عالم القدس إلى عالم الدنيا لأنّ الأمر والنهي والعقاب والثواب يدل على وجود التكليف، وهذا ليس موجوداً في "سماء القرب" أو عالم القدس الذي لا يوجد فيه إلا "فعلية" محضة، والعقل يكلّف عن طريق التنزّل بتأدية دور وتحقيق تقرب من خلال إطاعة الأوامر واجتناب النواهي ليتأهل إلى الادبار من جديد نحو عالم القدس.

يقول صدر المتألهين في شرح أصول الكافي:

وقوله: "ثمّ قال له أقبل فأقبل ثمّ قال له أدبر فأدبر" هذا حال روحه (ص) إذ قال له أقبل إلى الدنيا واهبط إلى الأرض، ورحمة للعالمين، فأقبل فكان نوره مع كلّ شيء باطناً ومع شخصه المبعوث ظاهراً... ثمّ قال له أدبر أي ارجع إلى ربك فأدبر عن الدنيا ورجع إلى ربه ليلة المعراج وعند المفارقة عن دار الدنيا، ثمّ قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك وهذا حاله (ص) لأنّه كان حبيب الله وأحب الخلق إليه[14].

إنّ الدنيا هي دار التكليف والنبي (ص) انطلاقاً من الآية (أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الكهف/ 110)، مكلّف بإطاعة الأوامر والابتعاد عما نُهي عنه، وإذا كان المخاطب هو العقل فلأن علة تكليف الإنسان هي "عقله". وفي الحقيقة والبدء وبالذات يكلّف العقل لأنّه الوسيلة التي يتحقق من خلالها إدراك الخير والشر والصحيح والخطأ. ولهذا فإنّ الإنسان المجنون العاجز عن الإدراك لا يعتبر مكلفاً.

ولكن في العالم الماورائي – حيث تتجلى حقيقة محمد (ص) كأوّل خلق الله وأقرب وجود إلى الله – لا يوجد مكلّف بالمعنى الدنيوي لأنّ هناك لا شيء سوى الثواب والخير المحض، ومن يضع قدميه في ذلك العالم لا يتخلف ولا يعصي كي يواجه النهي والعقاب وهو ينأى عن ذاته ويذوب في مشاهدة جمال وجلال الحقّ الأعلى. والانفصال عن الذات وما هو حولها يؤدي إلى التفرغ للمحبوب وحده ليس لأحد سواه. ولقد جاء في حديث المعراج: "ما أن ناداني الحقّ يا محمّد حتى تملكتني الرعشة وغبت عن ذاتي فجاءني نداء آخر من الملكوت قال يا "أحمد" أجبت: لبيك ربي وسعديك أنا عبدك ووقفت نفسي لعبادتك فكان النداء: إنّ الله يبلغك السلام فقلت إنّ الله هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام.."[15].

نخلص إلى القول بأنّ النبي (ص) كأوّل ما خلق الله هو أوّل موجود أبرم ميثاق التكوين، وهو أوّل إنسان كامل وأوّل نبي ورسول[16] وأوّل مخلوق أبرم مع الله الميثاق التشريعي.►

 

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 11 و12 لسنة 1989


[1]- الدعاء الأوّل في الصحيفة السجادية.

[2]- بحار الأنوار، المجلد 15، ص27.

[3]- الدعاء الأوّل في الصحيفة السجادية.

[4]- الميزان، المجلد 19، ص164، وتفسير سورة الجمعة، ص128، عند صدر المتألهين.

[5]- الأنوار الجلية للملا عبدالله مدرّس زنوزي، ص178.

[6]- الكافي (المجلد 1، ص441، الرواية 6).

[7]- إثبات الهداة، المجلد 1، ص68، الرواية 46 والعياشي، المجلد 1، ص39.

[8]- بك عرفتك وأنت دللتني عليك.

[9]- قلت كانت رؤية معاينة.

[10]- بحار الأنوار، المجلد 5، ص199، الرواية 145.

[11]- مرآة العقول، المجلد 1، ص30.

[12]- بحار الأنوار، المجلد 1، ص97، الرواية 4.

[13]- بحار الأنوار، المجلد 1، ص97، الرواية 5 و9.

[14]- شرح أصول الكافي/ ص17.

[15]- الأنوار الجلية للملا عبدالله زنوزي، ص262.

[16]- كنت نبياً وآدم (ع) منخول في طينته (بحار الأنوار، المجلد 16، ص402).

ارسال التعليق

Top