• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

معاني وأهداف جليلة في فريضة الحج

عمار كاظم

معاني وأهداف جليلة في فريضة الحج

يقول تعالى: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران/ 97). الحج هو دورة تربوية تعبوية يختارها الإنسان لنفسه استجابة لأمر الله تعالى في زيارة بيته، وتعظيم شعائره، وتطبيق أوامره كلّها طلباً لرضاه تعالى، وهذه الدورة التي تتضمّن برموزها المسنونة والتي يُطبِّقها العبد امتثالاً لأمر الله تعالى دون تساؤل أو اعتراض، إعداد تربوي، وأخلاقي، واجتماعي، وسياسي، كلّ ذلك بإطار روحي تعبُّدي بعيد عن المطالب الذاتية والعناوين الشخصية بروحٍ مجردة عن الرِّياء والسمعة والشهرة خاضعاً خاشعاً متوسلاً إلى الله تعالى أن يَقبَله في رحابه، ويعفو عن ذنوبه، ويقربه إليه، وبالتالي هي رحلة إلى ربّ البيت بزيارة البيت والطواف فيه مع ما يبذله من أموال كثيرة في سبيل ذلك.

فعبادة الحجّ بصيغتها العامّة من الأقوال والأفعال التعبّديّة التي يمارسها الحاج، حيث توحي للنفس بمعاني كثيرة فتشعرها بجلال الموقف، وروعة الخشوع والعبوديّة لله سبحانه، وتزرع فيها مكارم الأخلاق، وتقودها إلى استقامة السلوك، وحسن المعاشرة.

ففي كلّ فعل، ونداء، ومناجاة في مناسك الحج، رمز يوحي إلى النفس بمعنى، وأداء يعبّر عن سرّ وغرض تستوحيه النفس في تعاملها معه. فالإحرام، والتلبية، والطواف، والسّعي، والوقوف بعرفات.. الخ، كلّها أفعال ذات مغزى، ومشاعر ذات معنى عميق يجب أن يحسّها الحاج، ويتمثّل معانيها. لذا كانت قيمة الحج التعبّديّة، وآثاره التكامليّة على النفس والسلوك لا تلتحق بالممارسة الميكانيكيّة الميتة، والخالية من استلهام المعاني والقيم الكامنة خلف الممارسات الشكليّة، بل يحقق الحج أهدافه بوعي الحاج، وتفاعله نفسيّاً وفكريّاً مع كلّ فعل يقوم به، أو نداء يطلقه، أو مناجاة يردّدها، وإلاّ فإلحاح سائح يتجوّل فى عالم المشاهد والآثار، لم يحقّق من أهداف الحج شيئاً، ولم تنطبع على صفحة نفسه منه عبرة.

إنّ بيت الله الحرام هو أوّل بيت وضع للناس.. للناس كافّة. وليس لأيّة شخصية أو نظام أو طائفة حقّ الأولويّة فيه. الكلّ متساوون فيه، لا فرق بين أهل البادية، وسكنة الصحاري، والقوافل الرحّل، وبين العاكفين في الكعبة، وأبناء المدن، والحكام والمسؤولين. إنّ هذا البيت الكريم وضع للناس، من أجل قيام الناس، ومن أجل النهضة العامّة، والمصالح العامّة لكلّ الناس. إنّه بيت الناس، فلا يوجد شخص أو فئة أو طائفة أولى بالبيت من بقية الناس، وإنّ الناس قاطبة في مشارق الأرض ومغاربها مكلّفون باعتناق الإسلام والاجتماع في هذا البيت الذي وُضع للناس، وزيارته.

إنّ الحج رحلة الروح إلى باريها وخالقها ومليكها، ولذا أضاف الله تعالى البيت الحرام إلى نفسه فقال عزّ وجلّ: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة/ 125). وقال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج/ 26). فالحج هجرة إلى الله بكل ما للهجرة من معنى، هجرة نفسية وبدنية متجرداً فيها العبد لله تعالى ممتثلاً لأوامره، طالباً رضاه تاركاً كلّ ما سواه وراء ظهره من مال وولد وملبس ومسكن وموطن وغيرها تقرُّباً لله تعالى، فما من حركة يتحرّكها الحاج لأداء مناسكه إلّا وفيها إلزام للنفس بالطاعة، والتزام بالامتناع عن المعصية، مثلاً عندما ينوي السفر إلى الحج يصمم على الفرار إلى الله تعالى إيماناً به، والتزاماً بأحكامه، وامتثالاً لأوامره.

إننا يمكن أن نستوحي من شعائر الحج ومناسكه ما يعمق فينا الإيمان بالله تعالى، ويُجذِّره في نفوسنا، ويُحكِّمه في جوارحنا حتى يتحوّل الإيمان إلى غذاء للقلب، ونور للعقل، ومقوم للسلوك، إنّ هذا يتحقق من خلال رحلة الحاج وانتقاله من منسك إلى منسك وهو مُنشدٌّ شعوراً وإحساساً وسلوكاً إلى الله تعالى من خلال استمرارية الذِّكر لفظياً وذهنياً، بل وحتى سلوكياً.

وفي الحج يتم تداول الآراء العلمية والنظريات الإسلامية بين العلماء، وطلّاب المعرفة حيث تطرح أفكار ورؤى متنوعة بين مختلف الحجاج من جميع الأنحاء، وتدور النقاشات والبحوث العلمية من خلال التقاء أهل العلم والمعرفة من الفقهاء على شكل مؤتمرات تلقى فيها البحوث الفكرية والاجتماعية والأخلاقية، ويتداول شؤون المسلمين وتعالج مشاكلهم لجمع كلمتهم، وتوحيد صفوفهم، ويتعارفون فيما بينهم على مجمل المشاكل ويتبادلون الرؤى في حلّها.

وبذلك يكون الحج رحلة روحية إلى الله تعالى، تهذب بها النفوس، وتطهر فيها القلوب، وتتقارب فيها وجهات النظر، وتأتلف القلوب، ولكن لابدّ من الإشارة إلى أنّ هذه المفاهيم لا تدركها إلّا قلوب رقّت ونفوس زكت.. وأمّا القلوب الملبدة بالأطماع، والجشع، والحقد، والحسد، فلا تدرك من ذلك شيئاً.

ارسال التعليق

Top