• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

معنى التوكل ودرجاته

معنى التوكل ودرجاته

عن عليّ بن سويد عن الإمام موسى الكاظم (ع)، قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) فقال: (ع):

"التوكل على الله درجات، منها أن تتوكل على الله في أمورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكل على الله بتفويض ذلك إليهِ وثِقْ به فيها وفي غيرها".

 

معنى التوكل ودرجاته:

التوكّل في اللغة هو إظهار العجز والاعتماد على طرف آخر، واتكلت على فلان في أمر: اعتمدته.

وأمّا التوكُّل على الله فله معاني متقاربة، ولكن بتعبيرات مختلفة على ألسن العلماء، بحسب المسالك المختلفة، كقولهم "التوكل كلة الأمر كله إلى مالكه والتعويل على وكالته" و"التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية" و"التوكل على الله انقطاع العبد في جميع ما يأمله من المخلوقين".

وهذه المعاني كلّها متقاربة، ولا حاجة للبحث فيها.

وأما درجات التوكل فهي مبنية على درجة معرفة العباد بربوبية الحق جلّ جلاله، فلمعرفة درجات التوكّل لابدّ من الإطلاع على درجات المعرفة تلك:

الناس في معرفة الربوبية مختلفون ومتباينون إلى حد كبير، فهناك الموحدون وغير الموحدين، ولا شغل لنا مع غير الموحدين، وأما الموحدون فهم درجات ومراتب:

المرتبة الأولى: وهم عامّة الموحِّدين الذين يعرفون أنّ الله تعالى هو خالق مبادئ الأمور وأنواع الموجودات وعناصرها.

وصحيح أن ألسنة هؤلاء تقول: إن مقدر الأمور والمتصرف في كلّ شيء هو الحق تعالى، فما من كائن يكون إلا بإرادته المقدسة، ولكن يكون هذا كلام مجرد إدعاء على الألسنة، وهم في الحقيقة ليسوا من أهل هذاالمقام لا علماً ولا إيماناً ولا قلباً ولا وجداناً.

إنّ هذا الفريق من الناس يتحدث فيما يتعلق بالآخرة عن التوكّل بزهو ومباهاة، فإذا ظهر منهم أي تكاسل في العبادات والطاعات بادروا إلى إظهار توكلهم على الله وفضله، وكأنهم يريدون إظهار التوكل هذا تبرير وتوفير كلّ أسباب الكسل والتقصير تجاه الحق تعالى. وهذا ليس إلا بسبب عدم اهتمامهم بالآخرة، وعدم إيمانهم إيماناً حقيقياً بالمعاد وتفاصيله.

وأما فيما يتعلق بالدنيا والأسباب الظاهرية، فتجدهم لا يتشبثون إلا بالأسباب الظاهرية، ولا يعرفون معنى التوكل في هذه الأمور، وإذا ما اتفق أحياناً أن توجهوا إلى الحق، كان ذلك من باب التقليد أو من باب الاحتياط باعتبار أنّه لا يضر على كلّ حال.

وربما يحتملون الفائدة فيه أحياناً، وفي مثل هذه الحالة توجد رائحة التوكل، خاصة إذا كانت الأمور تعاكسهم، ولكنهم إذا رأوا الأسباب الظاهرية ملائمة ومطابقة لأهوائهم، غفلوا كلياً عن الحق تعالى وعن تصريفه للأمور.

إنّ العمل والتكسب لا ينافي التوكل، بل هو ضروري يدل عليه البرهان العقلي والدليل النقلي، ولكن الغفلة عن ربوبية الحق وتصريفه للأمور واعتبار الأسباب مستقلة، يتنافى والتوكّل.

المرتبة الثانية: هناك فريق آخر من الناس الذين اقتنعت عقولهم إمّا بالبرهان أو بالروايات أنّ الحق تعالى هو مقدِّر الأمور ومسبب الأسباب ولا حدود لقدرته وتصرفه.

وهم متوكّلون على الله تعالى من خلال عقولهم، فهم يرون أنفسهم من المتوكلين ويقيمون الدليل أيضاً على لزوم التوكل وقد ثبتت لديهم أركان التوكل الأربعة وهي:

1-    إنّ الحق تعالى عالم بحاجات العباد.

2-    إنّه تعالى قادر على تلبية تلك الحاجات.

3-    ليس في ذاته المقدسة بخل.

4-    هو رحيم بالعباد رؤوف بهم.

إذاً يجب التوكل على العالم القدير الكريم الرحيم بالعباد، الذي لا يفوّت عليهم مصالحهم حتى وإن لم يميزوا بين ما ينفعهم ويضرهم.

هؤلاء وإن كانوا متوكلين عملياً إلا أنّ التوكل عندهم لم يتجاوز العقول إلى القلوب، فلم يبلغوا مرتبة الإيمان، فهم مضطرون في أمورهم، عقولهم مغلوبة في الصراع مع قلوبهم التي تعلقت بالأسباب والمحجوبة عن تصرف الحق.

ولعل الحديث الذي أوردنا بداية الموضوع يشير إلى هذه المرتبة، حيث نجده أخذ العلم مبدأ ومنطلقاً للتوكل "وتعلم أنّ الحكم في ذلك له".

المرتبة الثالثة: هم الذين توصلوا بقلوبهم إلى معرفة تصرف الحق تعالى في الكائنات، فآمنت تلك القلوب بأن مقدر الأمور والسلطان ومالك الأشياء هو الحق تعالى، وسرت أركان التوكّل من عقولهم إلى قلوبهم.

غير أنّ أصحاب هذه المرتبة أيضاً لهم درجات متفاوتة، تفاوتاً كبيراً، قبل أن يصلوا إلى درجة الإطمئنان الكامل. فإذا وصل إلى تلك الدرجة صار كما وصف أحدهم التوكل قائلاً إنّهُ "طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية".

وهذا كله قبل الوصول إلى مرتبة الذي لا يرى إلا الله سبحانه وتعالى، فإنّه حينئذٍ يتجاوز مقام التوكّل.

 

الفرق بين التوكّل والرضا:

إنّ مقام الرضا هو أسمى وأرفع من مقام التوكل، فإن المتوكِّل يطلب الخير والصلاح لنفسه، فله إرادة تتعلق بتلك الأمور فيوكل الحق تعالى بصفته فاعل الخير للحصول على الخير والصلاح. وأمّا الراضي فإنّه قد أفنى إرادته في إرادة الله تعالى فلا يختار لنفسه شيئاً. وقد سئل أحدهم "ماذا تريد؟" فقال: "أريد أن لا أريد"، فمطلوبه هو مقام الرضا "عليه السلام".

ملاحظة:

وردت في الرواية التي نقلناها عن الكاظم (ع) كلمة الرضا حيث قال (ع):

"فما فعل بك كنت عنه راضياً".

وليس المقصود في تلك الكلمة مقام الرضا الذي نتحدث عنه، وإنّما المقصود منها مقام التوكل فقط، ولذلك ذكر بعدها "تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً وتعلم أنّ الحكم في ذلك له" حيث ذكر ركنين من أركان التوكّل الأربعة وهي القدرة والرحمة، ولم يذكر الركنين الآخرين بسبب وضوحهما، ومن خلال الإلفات إلى هذه الأركان يحصل مقام التوكل، ولذلك جعل نتيجة كلامه (ع) في النهاية "فتوكل على الله".

 

الفرق بين التفويض والتوكّل والثقة:

هناك فرق بين التفويض والتوكّل والثقة، وكلّ واحد منها يعتبر موضوعاً منفصلاً.

أمّا الفرق بين التوكّل والتفويض فقد اعتبر بعض العلماء أنّ الفرق بينهما في عدة أمور:

1-    التفويض أن لا يرى العبد في نفسه حولاً ولا قوّةً، ولا يجد أنّ له تصرفاً في شيء، ويرى أنّ الحق هو المتصرف في كلّ الأمور. وأما التوكل فهو أن يجعل الحق سبحانه قائماً مقامه في التصرف واجتلاب الخير والصلاح.

2-    التفويض أوسع من التوكّل، والتوكل ليس إلا شعبة منه، لأنّ التوكل يكون في المصالح فقط، والتفويض في الأمور كافة.

3-    التوكّل لا يكون إلا بعد وقوع سبب يستوجبه، مثل توكّل النّبيّ (ص) وأصحابه على الله في أن يحفظهم من المشركين، حينما قيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران/ 173). وأمّا التفويض فيكون قبل وقوع السبب، كما جاء في الدعاء المروي عن رسول الله (ص): "اللّهمّ إنِّي أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوَّضت أمري إليك".►

 

المصدر: كتاب الأخلاق (من الأربعون حديثاً)

ارسال التعليق

Top