• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نظام العلاقات المالية في القرآن

أسرة البلاغ

نظام العلاقات المالية في القرآن

قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7).

بعث الله تعالى الأنبياء (عليهم السلام) ليقوم الناس بالقسط، والقسط هو العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لأنّ العدل هو حياة الأحكام ودستور المجتمع الصالح.

وقد اهتمّ الإسلام بالمسائل المالية وتوجيه وتعديل حركة المال في أيدي الناس وفي الأسواق اهتماماً بالغاً، فلقد حرّم كلّ ألوان الظلم والطغيان الاقتصادي ضمن برنامج مالي شامل، وصولاً إلى العدالة الاقتصادية ضمن برنامج مالي شامل، وصولاً إلى العدالة الاقتصادية المرجوّة، ورفضاً لأشكال التبعية الاقتصادية، وعملاً بمبدأ التكافل الاجتماعي، ولذلك كانت مقولة القرآن الكُبرى في هذا المجال، هي: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90).

 

1- المال أمانة الله عند الناس:

قال تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي) (النُّور/ 33).

لمّا كان الإنسان مالك المال ملكيّة اعتبارية ملكاً لله تعالى (إنّا لله)، فإنّه وما يملك لله، أي أنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه، وملكيّة الإنسان للأشياء والأموال والأمتعة ملكية مجازية توكيلية، بحسب ما أعطاه الله له وجعله في يده، وفي ضوء هذه النظرة فإنّ الأموال وسائر الثروات ما هي إلّا ودائع وأمانات عند الإنسان، ويُطلق عليها في بعض الروايات بـ(العارية)، أي أعارها الله للإنسان، متى ما شاء استردّها. يقول سبحانه: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7).

وبلحاظ الاستخلاف والأمانة، تكون حصّة المجتمع – فيما أشار إليه القرآن من أنصبة الزكاة وغيرها – مكفولة، لأنّ كلّ إنسان في المجتمع الصالح يستحضر قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج/ 24-25)، ويتفاعل معه، ويتذكّر قوله سبحانه: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92)، ويتعاطى معه بإيجابيّة.

 

2- حماية المال من السفهاء:

قال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء/ 5).

أيّ توظيف غير سليم للمال هو سفاهة، فالمجتمع مُطالَب بسلامة تداول الأموال وعدم التفريط بها في السّفاسف والترّهات والأعمال غير المشروعة والإسراف، لأنّ الثروة المالية طاقة من طاقات بناء المجتمع وتطويره، وأيُّ هدرٍ لها تضييع لفرص البناء والنماء، ولذلك فالمال مسؤوليّة ويجب أن يُحمى ممّن لا شعور لديه بالمسؤولية.

يقول الإمام الصادق (ع): "إنّ من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام، أن تصير الأموال عند مَن يعرف فيها الحقّ ويصنع المعروف، وأنّ فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي مَن لا يعرف فيها الحقّ ولا يصنع فيها المعروف"!

 

3- الكسب المشروع:

قال تعالى: (وَرِزْقَاً حَسَناً) (النحل/ 67).

وقال سبحانه: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك/ 15).

وجاء "الرِّزق الحسن" في القرآن في مقابل "الكسب غير المشروع" أو المُحرّم، كصنع المسكرات من التمر والعنب. والرزق الحسن هو كلُّ كسب حلال أراد الله للإنسان أن ينتفع به بيعاً وشراءً ومتاجرةً واستيراداً وتصديراً، وهو من حيث المساحة أوسع نطاقاً – بما لا قياس معه – من المكاسب المُحرّمة، وفي كلمة "من رزقه" في الآية من سورة الملك دلالة أو إشارة إلى الانتفاع بالرِّزق الحسن الحلال المشروع، وإلّا ما كان نسبه تعالى إلى نفسه، فضلاً عمّا تندب إليه الآية من التسبّب والكسب وعدم الإتِّكال والتواكل.

سُئل النبيّ (ص): "أيّ كسب الرجل أطيب؟ قال: عملُ الرجل بيده، وكلُّ بيعٍ مبرور".

 

4- المحافظة على المال العامّ:

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء/ 58).

أموال الدولة أو ما يُسمّى بالمال العامّ، هو حقّ المواطنين، فلا يجوز التجاوز عليه بأيّة حيلةٍ أو أيّ عنوان، فلقد دخل (عمرو بن العاص) ليلةً على الإمام عليّ (ع) وهو في بيت المال، فطفئ السِّراج وجلس في ضوء القمر، لم يستحلّ أن يجلس في الضوء (ضوء السراج) من غير استحقاق، خاصة بعد أن علمَ أنّ عمرو بن العاص أتاهُ في موضوع لا يخصّ بيت المال، ولذلك تجد بعض الصالحين يدفع شيئاً من المال لقاء استفادته من المال العامّ كبراءة ذمّة، بل يُقدِّم التعويض لأيّ تلفٍ أو ضياعٍ كان هو المُتسبِّب فيه.

 

5- الاقتصاد في المعيشة:

قال تعالى في صفة عباد الرّحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).

الاقتصاد في المعيشة يعني التجمّل في حالي التقتير والإسراف، وبمعنى آخر فإنّ الاقتصاد لا يعني البخل، وإنّما هو (حُسن التدبير)، لأنّه الحسنة بين السيِّئين، وهو ممدوح فردياً، وكما في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29). كما هو ممدوح جماعياً بحسب الإشارة الواردة في الصفات الحميدة لعباد الرحمن الذين يُمثِّلون (المجتمع الصالح).

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) مقولته الاقتصادية المهمّة في هذا الباب: "ضمنتُ لمن اقتصد أن لا يفتقر".

وأُثِرَ عن الإمام عليّ (ع) قوله: "التدبير نصف العيش". وفي المحصِّلة، فإنّ الاقتصاد في المعيشة، أو الحكمة في الإنفاق، أو الاعتدال في الاستهلاك، يُحقِّق للمجتمع مصلحة عُليا في الابتعاد عن الابتلاء بالفقر والحاجة، وهذا ما يرسمه القرآن الكريم لأيّ مجتمع صالح من خلال ما فعلهُ يوسف (ع) من توفير وإدِّخار لوقت الحاجة. قال عزّ وجلّ: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف/ 47).

ولقد شكا قوم للنبيّ (ص) سرعة نفاد طعامهم، فقال: "تكيلون أو تهيلون"؟ قالوا: نهيل يا رسول الله (يعني الجزاف)، قال: "كيلوا، فإنّه أعظم للبركة"!

 

6- مكافحة الاحتكار وارتفاع الأسعار:

قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).

فالمجتمع الصالح لا يعني بالضرورة أنّ كلّ أفراده صالحين، لكنّ النسبة الغالبة فيه أو أكثريّته هم ممّن يتمتع بصفة الصلاح، وذلك فتوقع وجود المحتكرين أو المستغلِّين أو الغشّاشين أو المرابين أو المتلاعبين بالأسعار في مجتمعات الصلاح أمرٌ وارد، ولذلك كان من بين أهمّ واجبات ومهامّ الحاكم الإسلامي مجابهة الاحتكار والرقابة الدائمة على الأسعار.

يقول الإمام عليّ (ع) في عهده لـ(مالك الأشتر):

"ثمّ استوصِ بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً، واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيفاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله (ص) مُنع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تُجحف بالفريقين، من البائع والمبتاع، فَمَن قارفَ حُكرة بعد نهيك إيّاه فنكِّل به، وعاقِبهُ في غير إسراف".

 

7- القرض الحسن:

قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد/ 11).

عالجَ المُشرِّع الاقتصادي الإسلامي مشكلة (الرِّبا) معالجةً أخلاقيّة إنسانية بطرحه لمفهوم (القرض الحسن) في قبال القرض الضار السيِّئ والمُسيء، وهو الربا كونه إقراضاً بفائدة، والحال أنّ القرض الحسن بفائدة أيضاً، ولكنّها ليست من المُستقرِض أو المُستدين، بل من الله تعالى الذي جعل الحسنة بعشرة أمثالها والقرض الحسن بثمانية عشر. ولقد طابت نفوس المسلمين كمجتمع صالح لهذا الإجراء الماليّ أو الاقتصادي الذي نزع فتيل الأحقاد، وجفّف ينابيع الأثرة والتكاثر وامتصاص عرق الفقراء واستنزاف أموالهم. قال عزّ وجلّ: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (التغابن/ 17).

 

8- تفتيت التّركة:

لا يريد الإسلام تجميد المال أو تخثيره، بل يسعى إلى تسييله وتدويره حتى تنشط حركته في واقع المجتمع الصالح ويعمّ نفعه الصالح العامّ، ولذلك عمد إلى تفتيت تركة الميِّت أو ميراثه بين أهله وأقربائه من منطلق الفريضة الواجبة بما حدّده المُشرِّع الإسلامي من حصص وأسهم وأنصبة في الأقربين من أهله، فإن لم يكن له والد ولا ولد، وُزِّعت تركته في أقربائه البعيدين، وندبَ إلى إشراك أقرباء الميِّت من الفقراء واليتامى والمساكين ممّن يحضرون قسمة التّركة ليعطوا شيئاً منها تطييباً لخاطرهم، كلّ ذلك من أجل الشعور بامتداد العلاقة الإنسانية بين الراحل وبين أولئك الناس، قال سبحانه: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (النساء/ 7-9).

ارسال التعليق

Top