• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آية الليل وآية النهار

عبدالرحمن بن باديس الصنهاجي

آية الليل وآية النهار

◄(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا) (الإسراء/12).

لله تعالى في سور القرآن، وعالم الأكوان، آيات بيّنات دالة على وجوده، وقدرته، وإرادته، وعلمه، وحكمته. ونِعم سابغات موجبة لحمده وشكره وعبادته .

ولما ذكر تعالى آيته ونعمته بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، وذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على هذا الكون الأعظم.

فقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ).

الشرح والبيان :

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): خلقناهما، ووضعناهما آيتين: وجعل الشيء هو وضعه على حالة أو كيفية خاصّة، فهما حادثان مسيران بتدبير وتقدير.

و(اللَّيْلَ): هو الوقت المظلم الذي يغشي جانباً من الكرة الأرضية، عندما تكون الشمس منيرة لجانبها المقابل .

و(النَّهَارَ): هو الوقت الذي يتجلّى على جانب الكرة المقابل للشمس فتضيؤه بنورها. ولا يزالان هكذا متعاقبين على جوانب هذه الكرة وأمكنتها:

يكوّر الليل على النهار، بأن يحل محله في جزء من الكرة - وجزء الكرة مكوّر- فيكوّن النهار الحال مكوّراً بحكم تكوّر المحل.

وكذلك النهار يكوّر عليه فيحل محله من الكرة، فيكون أيضاً مكوّراً بحكم تكوّر المحل. وإنّما جعلنا تكوير أحدهما على الآخر بحلوله محله، لأنّه لايمكن تكويره عليه بحلوله عليه نفسه، لأنّهما ضدان لا يجتمعان، وليسا جسمين يحل أحدهما على الآخر.

و(الآية): هي العلامة الدالة. وكان اللّيل والنّهار (آيَتَيْنِ) بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص في الطول والقصر، على نظام محكم وترتيب بديع، بحسب الفصول الشتوية والصيفية، وبحسب الأمكنة ومناطق الأرض: المناطق الإستوائية، والقطبية الشمالية، والجنوبية وما بينهما. حتى يكونا في القطبين ليلة ويوماً في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين، ويوم فيه ستة أشهر هو صيفهم.

فهذا الترتيب والتقدير والتيسير، دليل قاطع على وجود خالق حكيم قدير لطيف خبير. اللّيل في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هو القمر. فيقال في القمر: (آيَةَ اللَّيْلِ). والنهار في نفسه آية، وفيه آيات، وأظهر آياته هي الشمس، فيقال في الشمس: (آيَةَ النَّهَارِ). وبعدما ذكر تعالى اللّيل والنهار آيتين في أنفسهما، ذكر أظهر آيات كلّ واحد منهما وأضافها إليه. فقال تعالى: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ).

وليس محو القمر وإبصار الشمس متأخّراً عن اللّيل والنّهار. وكيف ؟! وما كان اللّيل والنّهار إلّا باعتبار إضاءة الشمس لجانب، وعدم إضاءتها لمقابله.

فليست الفاء في (فَمَحَوْنَا) للترتيب في الوجود وإنّما هي للترتيب في الذكر، وللترتيب في التعقّل: فإنّ القمر والشمس بعض من آيات الليل والنهار، والجزء متأخّر في التعقّل عن الكلّ.

وقد اتفق الكاتبون على الآية - ممن رأينا - على أنّ المراد من لفظ الآية في الموضعين واحد:

أ- فإمّا أن يراد بها نفس اللّيل والنّهار، والإضافة في (آيَةَ اللَّيْلِ) و(آيَةَ النَّهَارِ) للتبيّن كإضافة العدد للمعدود .

أو يراد بها الشمس والقمر فيكون: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ)، على تقدير مضاف في الأوّل تقديره هكذا: وجعلنا نرى اللّيل والنّهار.

أو في الأخير مقدراً هكذا: وجعلنا اللّيل والنّهار ذوي آيتين .

ب- وإمّا على تقريرنا المتقدّم فإنّ لفظ (آيَتَيْنِ) صادق على اللّيل والنّهار. ولفظ (آيَةَ اللَّيْلِ) و(آيَةَ النَّهَارِ)، صادق على الشمس والقمر.

وعليه يكون تقدير الآية هكذا: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة.

وهو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وسالم من دعوى تقدير محذوف، ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات: بالليل وقمره والنهار وشمسه. فالتقدير به أولى، ولذلك فسرنا الآية عليه.

(فَمَحَوْنَا) المحو هو الإزالة: إزالة الكتابة من اللوح، وإزالة الآثار من الديار. فمحو (آيَةَ اللَّيْلِ) إزالة الضوء منها، وهذا يقتضي أنّه كان فيها ضوء ثم أزيل، فتفيد الآية أنّ القمر كان مضيئاً، ثم أزيل ضوؤه فصار مظلماً.

وقد تقرر في علم الهيئة أنّ القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس.

واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الاكتشافات والبحوث العلمية أنّ جرم القمر- كالأرض - كان منذ أحقاب طويلة وملايين السنين شديد الحمو والحرارة ثم البرد، فكانت إضاءته في أزمان حموه وزالت لما برد.

لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية: ذلك الكتاب الذي جعله حُجة لنبيّه (ص)، وبرهاناً لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم، وتقدّموا في العرفان !!

 فإنّ ظلام جرم القمر لم يكن معروفاً أيام نزول الآية عند الأُمّم إلّا أفراداً قليلين من علماء الفلك. وإنْ حمو جرمه أوّلاً، وزواله بالبرودة ثانياً، ما عرف إلّا في هذا العهد الأخير. والذي تلا هذه الآية وأعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر قرناً نبيّ أُمّي، من أُمّة أُمّية، كانت في ذلك العهد أبعد الأُمّم عن العلم، فلم يكن ليعلم هذا إلّا بوحي من الله الذي خلق الخلائق وعلم حقائقها!!.

كفاك بالعلم في الأُمّي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً): فقد وضعت كذلك من أوّل خلقها (مُبْصِرَةً): يبصر بها  والإسناد مجازي كما نقول لسان متكلّم، أي متكلّم به، فيسند الشيء إلى ما يكون به من آلة وسبب. والمبصرون حقيقة ذوو الأبصار، ولكنّهم لا ينتفعون بأبصارهم إلّا في ضوئها، ولا ينتفعون بها في الظلام.

وإذا كان الضوء يكون من النار! فأين ضوء النار من ضوء الشمس في القوّة والدوام والعموم؟!!

وكما أفادت الآية زوال نور القمر - بعد أن كان بمقتضى لفظة (فَمَحَوْنَا) ومدلولها لغة - فإنّها تشير إلى أنّ نوره مكتسب، وتومىء إلى أنّه من الشمس، وذلك أنّنا نرى فيه نوراً، مع عِلمنا أنّ نوره قد أُزيل، فنعلم قطعاً أنّ ذلك النور ليس منه. وإذا كان مذكوراً مع الشمس المبصرة في الاستدلال والامتنان، ومُعاقباً مُصاحباً لها في الظهور، فنوره جاءه وهي التي أبصرته. وقدّم اللّيل وآيته في ترتيب النُّظم، لأنّه ظلام، والظلام عدم الضوء. والعدم مقدّم على الوجود في هذه المخلوقات.

(لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (الإسراء/ 12).

ذكر تعالى الليل والنهار وآيتيهما استدلالاً على الخالق ليعرفوه، وذكر ما فيها من النِّعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه. فكانت فائدة خلقها على هذا الوجه راجعة للعباد، ليبتغوا ويطلبوا فضلاً من ربّهم بالسعي لتحصيل المعاش، وأسباب الحياة، ووجوه المنافع. وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية، وما اشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات.

وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقّلها في منازلها، وحساب القمر وتنقّله في بروجه، وحساب أبعادهما، وسعتهما، ومسير نورهما. ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء. و(الابتغاء): هو طالب الشيء بسعي إليه ومحبّة فيه. ويسمي - تعالى - طلب أسباب الحياة ابتغاء، تنبيهاً على هذا السعي وهذه المحبّة،  فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب.

كما يسمي - تعالى - المطلوب بالابتغاء فضلاً من الربّ، وفضله من رحمته. ورحمته واسعة لا تضبطها حدود، ولا تحصرها الأعداد تنبيهاً على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه، ويأخذوا بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه. وليكونوا - إذا ضاق بهم مذهب - آخذين بمذهب آخر من مسالك هذا الفضل الربّاني الواسع غير المحصور .

وتنبيهاً أيضاً على قوّة الرجاء في الحصول على البغية، لأنّ طلبهم طلب لفضل ربّ كريم. ويقول تعالى: (مِنْ رَبِّكُمْ) والربّ المالك المدبّر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كلّ حال من أحواله ما يليق به، ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب، وما يقسمه لهم من رزق، ثقة بعدله وحكمته، فلا يبغي أحد على أحد بتعدٍ أو حسد.

فهذه الكلمات القليلة الكثيرة، وهي: (لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة :

بالعمل مع الجدة، والمحبّة له والرجاء في ثمرته، الذي به قوام العمران. وبالرضا والتسليم للمولى، الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير. وبالكف للقلب واليد عن الناس، الذي به الأمن والسلام.

ويذكر تعالى علم عدد السنين، المتضمن لعدد الشهور والأيام والساعات تنبيهاً لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات، فإنّ نظام الأعمال وأطرادها وخفتها والنشاط فيها وقرب إنتاجها... إنّما هو بهذا الضبط لها على دقائق الزمان. كما ذكر - تعالى - جنس الحساب تنبيهاً على لزومه لهذا الضبط، وجميع شؤون الحياة من علم وعمل، فكلّ العلوم الموصلة إلى هذا العدّ وهذا الحساب هي وسائل لها حكم مقصدها في الفضل والنفع والترغيب .

(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا)

فكلّ ما يحتاج إليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحقّ، وأخلاق الصدق، وأحكام العدل، ووجوه الإحسان.. كلّ هذا فصل في القرآن تفصيلاً:  كلّ فصّل على غاية البيان والأحكام..

وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كلّه من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم في العلم والعمل، ويأخذوا منه ويهتدوا به، فهو الغاية التي ماوراءها غاية في الهدى والبيان.►

 

المصدر: كتاب تفسير بن باديس

ارسال التعليق

Top