• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أهمية الكلمة في الإسلام

اسرة

أهمية الكلمة في الإسلام

◄الحمد الله الذي أنار لنا الطريق المستقيم، وأوحى إلينا المنهج القويم، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه محمّد وأهل بيته، وعلى الصفوة المختارة من الصحابة، ومن آمنَ واتّبع شريعة سيِّد المرسلين.

الفكر الملتزم.. خندق جهادي

والكلمة الرسالية.. قذيفة حتى تنطلق لتدمغ الباطل فترديه

ولقد أثبتت الدراسات الفكرية المقارنة – إضافة إلى التجارب التطبيقية – أنّ الفكر الإسلامي، على رغم تعدّد مدارسه، لا يمتاز بالعمق والشمول والأصالة الذاتية فحسب، بل ويملك القدرة الفائقة والمستمرّة على استيعاب التطوّر والحدوث والاستجابة لكلّ متطلّبات الحياة المتغيِّرة.

ومن المعلوم أنّ من السُّبل المعتادة للتعبير عن الفكر هي "الكلمة"، وإذا كانت الصورة والكاريكاتير والأداء التمثيلي – مسرحاً أو سينما – بل والأصوات الموسيقية وغيرها قد أصبحت وسائل للتعبير، فإنّ الكلمة كانت وستظل عبر التاريخ الإنساني تحتل مركز الصدارة في مجال التخاطب وترجمة الفكر ونشر الثقافة، سواء كانت هذه الكلمة مسموعة أو مرسومة.

ولهذا أكّد الإسلام العظيم على "أهمية الكلمة" ورسمَ لها المسار المستقيم الواضح والهدف النافع الصالح، لتكون أداة بناء في دنيا الحضارة.

وإذا كان القرآن يقرِّر – مثلاً -:

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة/ 263).

وأنّ الرسول الكريم (ص) يؤكّد أنّ: "الكلمة الطيِّبة صدقة"، فما ذاك إلّا لإعطاء الكلمة دوراً حضارياً شامخاً لا في مجال الأدب والفلسفة والفن والتاريخ والسياسة والاقتصاد ونحوها فحسب، بل وفي مجال التعاون الإنساني والعلاقات الاجتماعية والسلوكية.

ولم يكتفِ الإسلام العظيم في الحضِّ على الالتزام بالكلمة المعبِّرة عن الفكر الرسالي النيِّر فحسب، وإنّما كشف مخاطر الفكر المنحل، ومساوئ الكلمة الخبيثة، التي تهدم القواعد الإنسانية، وتفصم عُرى العلاقات الاجتماعية.

وبهذا استطاع الإسلام أن يبني شخصية الإنسان على أُسس متينة تعمل الخير وتتحرّاه، وتكفّ عن الشرِّ وتتوقّاه.

 

- الفكرة والكلمة:

(الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1-4).

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78).

الفكرة والكلمة حقيقتان متلازمتان في حياة الإنسان، وهما أبرز مظهر من مظاهر إنسانيته، وأعمق سبب من أسباب رقيِّه وتطوّر حياته؛ لأنّ الحياة الإنسانية بكلّ ما فيها من مظاهر الحياة المدنيّة والرقي الاجتماعي، ما هي إلّا نتيجة عملية للمعرفة الإنسانية ولقدرة الإنسان على التعلّم وانتزاع المعارف والعلوم واكتسابها؛ ولولا وجود هذه الظاهرة الفكرية في حياة الإنسان، لما شاهدنا للنشاطات الإنسانية التي تشكِّل صيغة الحياة المدنيّة والحضارية، كالصناعات والاكتشافات والعلوم والفنون والآداب والقوانين والعقائد والأخلاق، أيّ أثر أو وجود.

فما نشاهده من مظاهر الحضارة ونسيج العلاقات الإنسانية التي تربط المجتمع الإنساني وتشكِّل صيغته؛ إن هي إلّا وليدة أفكارنا ونتاج الكلمة التي نتخاطب بها وننقل الأفكار والأحاسيس والمشاعر عن طريقها؛ فالكلمة أداة الإفصاح والتعبير عن الفكرة ووعاء المعنى الكامن في نفس الإنسان؛ ولولا الكلمة لما استطاع الإنسان أن يوصل للآخرين ما يفكِّر به، ولولا الكلمة لما استطاع الإنسان أن يتفاهم مع الآخرين، أو يكوِّن حياته الاجتماعية التي استطاع أن يبني كيانها الشامخ المتطوِّر. فالفكرة والكلمة إذن هما قاعدة البناء الحضاري، وهما ركيزة الحياة الاجتماعية؛ لذا كان اهتمام الإسلام بالكلمة بالغ الأهمية: باعتبارها الأداة المعبِّرة عن الفكر الإنساني، والرسول الناطق بلسانه؛ إذ ليست الأفكار والمفاهيم إلّا عالماً من الصور التي ينتجها التفكير وينتزعها الفكر من العالم المحيط بالإنسان، أو من ترجمة الإنسان لأحاسيسه ونوازعه التي تختلج في نفسه.

وهذا العالم الصامت (الأفكار) يعيش في جزيرة مقطوعة الاتصال والوجود عن بقية الناس، فهو لا يستطيع الخروج من محيطه أو الإعلان عن وجوده؛ إن لم تمتد بين الإنسان وبين الآخرين من أبناء جنسه جسور الكلمات ومعابر الحروف التي تعبر عليها الأفكار والتصوّرات التي يحملها في فكره ونفسه لتصل إلى الذين يُراد إيصال الفكر إليهم.

ولقد وصفَ القرآن الكريم هذه الحقائق وعبّر عنها أدقٌ تعبير حين سمّى النطق بالكلمة بياناً، وحين جعل البيان مرتبطاً بالتعلّم وبالخَلْقِ والإبداع بقوله: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).

فدقّة الاستعمال القرآني تتضح في تسمية القرآن الحكيم للنطق بياناً، لأنّ البيان هو الكشف والإعلان والتعبير عن المحتوى والمضمون الذي يحمله الإنسان في نفسه وفكره.

ومثلما كان القرآن دقيقاً وبليغاً في وصفه للنطق والقدرة الكلامية المعبِّرة وتسميتها بالبيان؛ كان دقيقاً أيضاً حين تحدّث عن كيفية اكتساب العلم وحصول المعرفة لدى الإنسان؛ فربطَ بين الفكر وبين سماع الكلمة؛ أداة التعبير والتوصيل الفكري فقال: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وهكذا يكون الفكر والكلم وليدتا (الفؤاد، السمع، البصر، البيان)، يكوِّنان في نظر القرآن ومفهومه العنصرين الأساسين في بناء الحياة الإنسانية وتشكيلها الحضاري والاجتماعي.

لذلك خاطب الله سبحانه الإنسان بالكلمة، وحاور الفكر والعقل الإنساني بأدقِّ منطق وأرصن برهان.

وهاتان الأداتان البنّائيّتان – الفكرة والكلمة – كغيرهما من الأدوات والوسائل الإنسانية قابلتان للاستعمال والتوجيه الخيِّر البنّاء، كما إنّهما خاضعتان لإمكان الانحراف والهدم والتخريب، لذلك حرص الإسلام كلّ الحرص على صيانة الفكر والكلمة وإخضاعهما للالتزام والانضباط؛ حِفظاً على مسيرة الحياة وحماية لأهداف الإنسان الخيِّرة فيها.

 

- أهداف الكلمة:

1- الكلمة الطيِّبة:

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم/ 24-27).

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر/ 10).

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة/ 83).

(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا) (النساء/ 63).

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).

(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف/ 88-89).

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (الأحزاب/ 70).

يُحدِّد القرآن الكريم في هذه الآيات قيمة الكلمة ويُبيِّن أهدافها، ويرسم الطريق واضحاً أمامنا كيلا تتحوّل الكلمة إلى مِعْوَلِ هدمٍ وأداة تخريب، فالقرآن يريد في هذا التوجيه والوضوح أن يجعل من الكلمة أداة بناء تُساهم في صنع الخير وإشاعة الودّ والمحبّة بين الناس، الأخّاذ بين الكلمة الطيِّبة والكلمة الخبيثة، فيصوِّر لنا الكلمة الطيِّبة ويُشبِّهها بالشجرة المُثمرة الراسخة الأصل والجذور في عُمق الأرض، والمستطيلة الامتداد والفروع في آفاق السماء؛ إنّما يريد أن يرسم لنا بريشته البيانية المُبدعة تصوّر الإسلام لأهداف الكلمة، وتفسيره لسبب وجودها وطبيعة الآثار والنتائج الإيجابية التي يمكن أن تتركها في حياة الإنسان؛ فالقرآن يريد أن يجعل من الكلمة مصدراً للخير والعطاء والإصلاح؛ تملأ دنيا الإنسان وتترسّخ في أعماق الحياة؛ ليتذوّق الناس طعمها وتستريح النفوس إلى سماعها، وتُبنى الحياة بوحي من هُداها. الكلمة الطيِّبة التي تقع في نفس الضّال فتهديه، والمحزون فتسلِّيه، والخائف فتُطمئنه، والفاسد فتُصلِحُه، والجاهل فتُعلِّمه، والغضبان فتُهدِّئه والعدوّ البعيد فتُقرِّبه.

إنّ هذه الكلمة عندما نحسن استعمالها، تستطيع أن تفعل وتؤثِّر في نفس الإنسان المخاطَب بها أكثر ممّا تؤثِّر وسائل وأساليب كثيرة أخرى؛ لذلك راحَ القرآن يوجِّهنا كي نُحسِن استعمال الكلمة، ونُتقِن استخدامها في نشر الدعوة وإصلاح المجتمع، وإشاعة روح الأُخوّة والمحبّة بين أفراد النوع الإنساني؛ ولذا أيضاً راحَ يرسم لنا أبرز معالم الاستعمال الإيجابي البنّاء للقول والكلمة، فيركِّزها بقوله:

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) (الزخرف/ 89).

(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر/ 10).

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83).

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا) (النساء/ 63).

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء/ 114).

(وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (الأحزاب/ 70).

فأهداف الكلمة في منطق القرآن إذاً هي نشر الإصلاح والخير والمعروف والسلام والإحسان بين الناس؛ لأنّ للكلمة الطيِّبة أثراً فريداً على شخصية المتلقِّي لها والمخاطَب بها، فلهذه الكلمة القدرة على الإشباع العاطفي البنّاء والمساهمة الفعّالة في تنمية الإحساس الجمالي بالحياة، كما أنّ لها القدرة على القيادة الفكرية السليمة والبناء السلوكي والاجتماعي القويم. فللكلمة آثارها النفسية والعاطفية كما لها دورها الفكري والقيادي في المجتمع.

والقرآن بحديثه هذا، يرسم للإنسان بصورة عامّة، ولصُنّاع الكلمة من الأُدباء والمفكِّرين والكُتّاب والخُطباء والعلماء والشعراء والدُّعاة إلى الإسلام والإصلاح بصورة خاصّة: يرسم لهم كيفيّة استعمال الكلمة، وأسلوب استخدامها، والأهداف الطبيعية التي وُجِدَت من أجلها.

والقرآن حينما يتحدّث عن أسلوب استعمال الكلمة ويوضِّح أهداف استعمالها؛ إنّما يلاحظ جانبين اثنين في هذه القضية الحسّاسة في حياة الإنسان، وهما:

أوّلاً: الهدف الطبيعي الذي خُلِقَت الكلمة من أجله.

ثانياً: أثر الكلمة النفسي والفكري على الطرف المتلقِّي والمتعامل معها.

ونحن نلاحظ ذلك واضحاً في حياتنا العلمية، ونلمسه بدقّة ووضوح فيما نقرأ في الكُتُب والمجلات والصُّحف، وفيما نسمع من وسائل الإعلام والنشر؛ إذ قد يعرض شخص فكرة أو يناقش قضية فتُجابَه بالرفض والرّد والمقاومة الفكرية والنفسية من الطرف المتلقِّي؛ في حين يتفنّن شخص آخر في أسلوب العرض واختيار الكلمة؛ فتقع في نفس المتلقِّي موقع التأثير والقبول، فتفعل مفعولها وتُحقِّق أهدافها.

 

- الكلمة الخبيثة:

وقد تنبّهت الحضارة الجاهلية المعاصرة إلى دور الكلمة وأهمية نقل وتوصيل الأفكار، فكرّست جهوداً فنّيةً ومالية وبشريةً ضخمة؛ لتبنّي أجهزة الدعاية والإعلام التي تخدم أهدافها وتُحقِّق أغراضها، فسخّرت الخطباء والأدباء والفلاسفة والمفكِّرين والخبراء والعلماء، وعلماء النفس والرأي والإعلام والصحافة لهذه المهمّة، وأصبح للكلمة والفكرة والدعاية خبراء ومهندسون وأجهزة ومؤسسات ووزارات؛ تُخطِّط للكلمة والفكرة وتُشرِف على صناعتها وأسلوب إيصالها المؤثِّر، وقد استطاعت هذه الجهود الضخمة المُخطِّطة أن تغزو نفس الإنسان وعقله، مستهدفة نشر الكلمة الخبيثة والتحلّل والفساد واستعباد الإنسان في غالب الأحيان، لذا كان لزاماً علينا إذا ما أردنا للكلمة الطيِّبة البنّاءة أن تحتلّ موقعها المؤثّر في نفس الإنسان، وأن تجتثّ الكلمة الخبيثة من أعماقه، أن نُخطِّط بوعي وخبرة لاستعمال الكلمة وتوصيل الفكرة، لمجابهة الحرب الفكرية والدعائية التي يوجِّهها أعداء الإنسان وخصومه.

والقرآن الكريم كما تحدّث لنا في الشطر الأوّل من الآية الكريمة: (مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) (إبراهيم/ 24)، عن الكلمة الطيِّبة وأثرها وقيمتها في حياة الإنسان، تحدّث عنها كذلك في الشطر الثاني منها عن الكلمة الخبيثة التي شبّهها بالشجرة الخبيثة التي لا يجني الناس منها إلّا الأشواك والثمرة المرّة والحصاد الأثيم.

وهذه الكلمة الهدّامة التي تعبث بالحياة والفكر والمشاعر، هي التي تحدّث عنها رسول الله (ص) وشخّص دورها وأثرها المخرِّب العابث. عن الإمام الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "يُعذِّب الله اللِّسانَ بعذابٍ لا يُعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقولُ: أي رّبِّ عذّبتني بعذابٍ لم تُعذِّب به شيئاً؟! فيُقال له: خَرَجَتْ منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتهب بها المال الحرامُ، وانتُهِكَ بها الفرجُ الحرامُ، وعِزّتي وجلالي لاُعذِّبَنّكَ بعذابٍ لا اُعَذِّبُ به شيئاً من جوارِحك"[1].

فهذه الكلمة الخبيثة هي الكلمة التي يسعى الإسلام لاجتثاث جذورها وقلع أصولها ودوافعها النفسية والفكرية لدى الإنسان؛ إذا ما من كلمةٍ ينطق بها الإنسان إلّا ولها جذور فكرية ونفسية تُساهم في صنعها وإخراجها.

لذا كان اهتمام الإسلام عظيماً وعنايته بالغةً في إيجاد الوعي والتعريف بخطورة الاستعمال المنحرف والشاذ، ولذا قامَ بالتوعية والتوجيه والتعريف بشخصية صانع الكلمة والربط بينها وبين حقيقة الشخصية؛ باعتبار الكلمة حقيقة تُعبِّر عن الواقع النفسي والفكري لدى أصحابها، وتُجسِّد صورة المحتوى الباطن لصانعها: لأنّ الكلمة علامة دالّة على طبيعة التكوين الإنساني وصيغة لفظية كاشفة عن حقيقة هذا الإنسان وطبيعة محتواه الفكري والنفسي - خيراً كان أو شرّاً -.

فالكلمة نافذة مفتوحة يمكن النظر من خلالها إلى عالم الإنسان الغامض المطوي. وكم كان بليغاً قول الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) حين لخّص هذه الحقيقة بقوله: "المَرْءُ مَخْبوءٌ تَحْتَ لِسَانِه"[2].

"واجعلوا اللِّسان واحداً، وليخزن الرجلُ لسانه، فإنّ هذا اللسان جموحٌ بصاحبه، والله ما أرى عبداً يَتّقي تقوى تنفعهُ حتى يخزن لسانه، وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلبَ المُنافِق من وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلامٍ تدبّرهُ في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً واراه، وإنّ المُنافِقَ يتكلّمُ بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له، وماذا عليه"[3].

ومثل هذا التشخيص الدقيق الواضح، جاء أيضاً في قوله الإمام جعفر الصادق (ع)، بوصفه للعلاقة والرابطة بين الكلمة والشخصية، حين قال: "لا يزالُ العَبْدُ المؤمن يكتَبُ مُحْسِناً ما دامَ ساكِتاً، فإذا تَكلَّمَ كُتِبَ مُحسِناً أو مُسِيئاً"[4].

والقرآن الحكيم حينما تحدّثَ لنا عن هذه الكلمة الخبيثة، عزّز حديثه بالأمثلة والنماذج، وعرض أنماطاً وصوراً شتّى للاستعمال المنحرف والشاذ للكلمة؛ فتحدّث عن: (الكذِب، اللّغو، الزّور، البُهتان، الغيبة، اللّحن، السخرية، الاستهزاء اللّمْز، التنابز، التناجي بالإثم والعدوان، زُخرُف القول، الأراجيف... إلخ)، وهو في كلّ تسمية وتشخيص لهذه الحالات، كان يعرضُ حالة إنسانية معيّنة ويُحلِّلُ وضعاً فكرياً ونفسياً منحرفاً ويكشفُ نموذجاً للاستعمال المنحرف للكلمة؛ كي يوفِّر للإنسان المخاطَب بهذه التوعية والتربية النفسية والسلوكية وضوحاً علمياً وسلوكياً؛ يجعله قادراً على استعمال الكلمة استعمالاً خيِّراً وبنّاءً؛ ليحسب لكلمته حسابها ويفكِّر في نتائجها وآثارها ومردوداتها؛ قبل أن يُطلقها ويصبح أسيراً لها مأخوذاً بتبعاتها.►

 

الهوامش: 

[1] - الكليني، ج2، ص115.

[2]- نهج البلاغة، تنظيم د. صبحي الصالح، ص497.

[3]- المصدر السابق، ص253.

[4]- النّراقي، جامع السعادات، ج2، ص345.

 

ارسال التعليق

Top