• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إسماعيل (ع).. قافلة الإيمان التي شيدت أول بيت مبارك

حسن مسعود

إسماعيل (ع).. قافلة الإيمان التي شيدت أول بيت مبارك
   (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (مريم/ 54-55).

فصول قصة نبي الله إسماعيل يرتبط معظمها بحياة والده إبراهيم الخليل (ع) الذي عاش معاناة طويلة وصبراً جميلاً استغرقا من حياته أكثر من خمسين سنة من الألم لعقم زوجته سارة والحرمان من الذرية حتى اطلت البشارة عليه وغمرت داره سروراً وابتهاجاً بولادة ابنه اسماعيل (ع) من زوجته هاجر القبطية.

بعد ولادة إسماعيل ولدت حالة لم يحسب لها إبراهيم (ع) حساباً، إذ صارت سارة تتحسس بألم من الحياة الجديدة والجو العام في داخل البيت، فكانت تسبب لإبراهيم غماً شديداً لأنها لم تستطع إنجاب الولد له، فصارت تؤذيه في هاجر فشكا حاله إلى الله تعالى، واستجاب عزّ وجلّ لدعوته وأنزل عليه جبرائيل ليطلب منه الارتحال هو وزوجته هاجر وابنه إسماعيل. فما كان من إبراهيم (ع) إلا أن استجاب للأمر الإلهي. وحلت ساعة الوداع والفراق، ووقف إبراهيم وإلى جانبه هاجر وهي تحمل وليدها الرضيع لوداع سارة.. كانت ساعة حرجة.. وكانت الدموع لغة التخاطب، وقلب إبراهيم يعتصر ألماً.

بدأت رحلة الثلاثة باتجاه مكة بعد أن ترك إبراهيم (ع) عهداً لزوجته سارة ألا ينزل حتى يرجع إليها. وانطلقوا يحثون السير بخطى ثابتة ودليلهم جبرائيل.

كان إبراهيم وزوجته يبحثان عن مكان آمن وقد اجهدهم السير وطول السفر حتى إذا وصلا إلى موضع فيه شجر ونخل وزرع نادى إبراهيم (ع) جبرائيل: يا جبرائيل إلى هاهنا، قال: لا، امض. حتى وافى مكة، وإذا بالنداء يا إبراهيم هاهنا محط الرحال، لأهلك وابنك إسماعيل.

كانت هاجر تمتثل لكل أمر، إلا أنها صارت تنظر يميناً وشمالاً وإذ بها مع وليدها الرضيع في أرض قفر خالية من الأنس والزرع وليس بها ماء.

تركها إبراهيم (ع) هناك وترك لهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثمّ مضى فتبعته أم إسماعيل وقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه حياة، كررت ذلك عدة مرات وكان لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذاً لا يضيّعنا الله. ثمّ رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثمّ دعا رافعاً كلتا يديه: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).

استجابت أم إسماعيل إلى قدر الله تعالى بإيمانها المطلق، فأخذت ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، فكانت تنظر إليه وهو يتلوى من العطش فانطلقت كارهة أن تنظر إليه. فوجدت الصفا أقرب جبل إليها، فقامت عليه ثمّ استقبلت الوادي تنظر فيه هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي دفعت طرف درعها ثمّ سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثمّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. فأصبح ذلك سعي الناس بينهما وحينما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت صه – تريد نفسها – ثمّ استمعت فسمعت الصوت ثانية فقالت قد سمعت... إن كان عندك عون. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء، إنها الحياة، وعادت أنفاسها بعد جهود جهيد تحمد الله وهي تخوض به يدها وأخذت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، ثمّ عادت لترضِع ولدها إسماعيل (ع) فقال لها الملك: "لا تخافا الضيعة فإن هاهنا بيت سيبنيه هذا الغلام هو وأبوه وانّ الله لا يضيع أهله".

جاء إبراهيم يوماً ولده إسماعيل. قال يا بني انطلق معي إلى الجبل لنقرب قرباناً إلى الله تعالى وأخذ معه سكيناً وحبلاً، انطلق إسماعيل مع أبيه حتى ذهبا بين الجبال دون أن يتحدث شيئاً سوى ان قال: يا أبت أين قربانك؟

قال: يا بني إني رأيت في المنام إني اذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت، إفعل ما تؤمر وستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلم إسماعيل للأمر وانطرح على الأرض أشار إلى أبيه أن يشدد الرباط حتى لا يضطرب ثمّ قال: اكفف عني ثيابك حتى لا يصيبها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك واسرع بمر السكين على حلقي ليكون الموت علي هين، فإنّ الموت شديد فإذا أتيت أمي فاقرئها مني السلام فإن رأيت أن ترد عليها قميصي فافعل عسى ان يكون قميصي مسلياً لها عني، فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على ما أمر الله به. ففعل إبراهيم بما أوصاه به ابنه ثمّ اقبل عليه يقبله وهو يبكي والابن يبكي.

ولما وضع السكين على حلقه لم يجزع ولم تقطع السكين فقال إسماعيل عند ذلك يا أبي كبني على وجهي فأنت إن نظرت إلى وجهي رحمتني وأخذتك الشفقة علي ففعل إبراهيم ذلك ووضع السكين على قفاه، وهنا نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين هذه ذبيحتك فداء لإبنك فاذبحها دونه فنظر إبراهيم (ع) فإذا بجبرائيل (ع) ومعه كبش أملح أقرن، وكبر إبراهيم وكبر إسماعيل ووقف إبراهيم تعلو وجهه الإبتسامة وقد عانق ولده إسماعيل إذ فداه الله بذبح عظيم ثمّ أخذ إبراهيم الكبش وأتى به إلى المنحر في منى وذبحه.

كان البيت الذي يسكنه إسماعيل واُمّه مرتفعاً عن الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، بقيا كذلك حتى مرت بهما رفقة عرب من جهرم – أو أهل بيت من جهرم، مقبلين عن طريق كأداء – فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائقاً فقالوا انّ هذا الطائر يدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هما بالماء فرجعا فأخبراهم بالماء فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم، ورضيت اُمّ إسماعيل بذلك لأنها تحب المؤانسة، فنزلوا وأهلوهم معهم وأقاموا متجاورين متعاونين متحابين.

شب إسماعيل وأصبح غلاماً وتعلم العربية منهم وأعجبهم حين شب، ولما أدرك زوجوه امرأة منهم. ثمّ ماتت اُمّ إسماعيل.

لقد كان إسماعيل كريماً واشتهر بين جيرانه العرب بحسن الجوار وكرم المحتد ودماثة الخلق، وعرف عنه قوة الإيمان وصدق الوعد، وتحمل المكاره والصبر على الشدائد مطيعاً لأبيه منفذاً لوصاياه.

جاء إبراهيم بعد زواج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه. قالت: خرج يبتغي لنا. ثمّ سأل عن عيشتهم وهيئتهم، قالت نحن في ضيق وشدة شاكية إليه حالهم. امتعض إبراهيم منها وترك وصية إلى ولده إسماعيل، قال: إذا جاءك زوجك فاقرئيه السلام وقولي له غيّر عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وكأنّه أنس شيئاً فقال هل جاءكم من أحدٍ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشتنا فأخبرته اننا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن اقرئك السلام وأقول لك غيّر عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، والحقي بأهلك فطلقها وتزوج بأخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله. ثم أتاهم بعد ذلك فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه قالت: خرج يبتغي لنا. فسألها عن عيشتهم وهيئتهم، قالت: نحن بخير وسعة واثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم: قال: فما شرابكم: قالت الماء. قال: اللّهمّ بارك لهم في اللحم والماء. ثمّ اردف قائلاً لها: فإذا جاء زوجك فاقرئيه عني السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل اتاكم من أحد؟ قالت: نعم، اتانا شيخ حسن الهيئة واثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشتنا فأخبرته اننا بخير ولله الحمد، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بيتك. قال: ذاك أبي.. وأنت العتبة، أمرني أن أبقيك ثم لبث إبراهيم عنهم مدة وعادهم فاذا بإسماعيل قد صلب عوده وقوي بنفسه وإيمانه فرآه يبري نبلاً له قرب زمزم، فلما رآه إسماعيل قام إليه محيياً ومعانقاً ومقبلاً ومكرماً، انّه لقاء الأحبة بعد فراق طويل، ويعد اللقاء جاء إبراهيم ابنه ليخبره عن أمر إلهي مهم، قال: ولدي إسماعيل انّ الله أمرني بأمر، قال فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني عليه؟ قال: واعينك عليه. قال: فإنّ الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً وأشار إلى أكمة مرتفعة. ثمّ قاما ورفعا القواعد من البيت فأخذ إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضع في محله ثمّ قام عليه يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يذكران الله ويسبحان له، خالصة أعمالهما لوجهه الكريم... ربنا تقبل منا انك السميع العليم.

واستمر إسماعيل في حياته متفاعلاً مع التكاليف الإلهية حتى وصل عمره مائة وسبع وثلاثين سنة، يرعى فيها بيت الله الحرام والدعوة لحرم الله، ويرعى العهدة بشجاعة وصبر وأمانة وبعثه الله رسولاً ونبياً إلى قومه من العماليق وقبائل اليمن ليدعوهم إلى عبادة الله وحده وحج بيته وينهاهم عن الرذائل وعن عبادة الأصنام فتبعه أناس كثيرون بعد أن استمعوا لدعوته الجديدة وتركوا عبادة الأصنام وآمنوا بالله على دين أبيه.

استطاع إسماعيل أن ينفذ في وسط الأُمّة، ثمّ أخذ ببناء أسرته، وأصبحت ذات عراقة ومكانة وسط المجتمع كانت له زوجة صالحة كما عرفناها ارتضاها إبراهيم (ع) لابنه زوجة لإيمانها وأدبها وفضلها لها شرف حياكة أوّل ثوب ستاراً للكعبة.

كان لإسماعيل ذرية صالحة منهم اثنا عشر من الذكور غير الأناث وقد صاروا في ما بعد رؤساء قبائل – ومن نابت وقيدار انتشرت قبائل العرب ومن نسل إسماعيل جاء محمد (ص).

وانتهت رحلة إسماعيل في هذه الدنيا مكرماً من البشر بمزاره عند الحجر مع أُمّه وقد فتحت على قبره باب من الجنة تجري عليه روحها إلى يوم القيامة.

  المصادر:   القرآن الكريم. بحار الأنوار. قصص القرآن – نعمة الله الجزائري. قصص القرآن – عبدالوهاب النجار. حياة وأخلاق الأنبياء – السيد محمد حسين فضل الله. الميزان – للسيد العلامة الطباطبائي. قصص النبيين – أبي الحسن الندوي تفسير البيان. المصدر: مجلة النور/ العدد 33 لسنة 1994م  

ارسال التعليق

Top