• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإيمان الفطري

مرتضى مطهري

الإيمان الفطري

    الحاجة إلى النبوة من أشدّ احتياجات الإنسان.

العشق والاقتناع عنصران أساسيان للإيمان ومن ثمّ لبناء العالم. النظرة الإسلامية ترى الإنسان مؤهلاً للدعوة والخطاب والتحرك بما هو إنسان. الخطاب الإسلامي لا يقتصر على فئة معينة. الإسلام مشروع انتصار الروح الإنسانية على الروح الحيوانية. لو كانت لدينا النظرة الصحيحة عن الكون والحياة.. ولو اعتبرنا نظام الوجود متعادلاً متوازناً ورفضنا وجود العبث والفراغ في هذا النظام.. لما بقي أمامنا إلا الاعتراف بأن جهاز الخليقة العظيم لم يترك هذه الحاجة الكبرى هَمَلاً، بل قدم الأطروحة اللازمة من أفق يسمو على أفق العقل الإنساني، أي من أفق الوحي (مبدأ النبوة). عمل العلم والعقل هو الحركة ضمن إطار هذه الأطروحة. ما أجمل ما قاله أبو علي بن سينا في حديثه عن حاجة البشر إلى الشريعة الإلهية عن طريق النبي في كتاب النجاة: "فالحاجة إلى هذا الإنسان (أي النبي) في أن يبقى نوع الإنسان، وأهمية وجوده أشدّ من الحاجة إلى إنبات الشعر على الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء، بل أكثر مالها أنها تنفع في البقاء". أي إنّ جهاز الخليقة العظيم لم يهمل الاحتياجات الصغيرة غير الضرورية، فكيف يهمل أكثر الاحتياجات ضرورة. أمّا إذا عدمنا النظرة الصحيحة للكون والحياة، فعلينا التسليم بأنّ الإسلام محكوم عليه بالحيرة والضياع، وكل أطروحة وأيديولوجية تصدر عن هذا الإنسان الحائر في هذه الطبيعة المدلهمّة إنما هي إيغال وتخبّط في الحيرة والضياع. مما تقدم تتضح ضرورة وجود العقيدة أو الإيديولوجية، كما تتضح أيضاً ضرورة انتماء الفرد لعقيدة وإيديولوجية. غير أنّ انتماء الفرد لإيديولوجية معينة لا يمكن أن يكون واقعياً إلا إذا اتخذ طابع "الإيمان". والإيمان حقيقة لا يمكن تحققها عن طريق القوة وبدافع المصلحة. يمكن الخضوع والتسليم لأمر بالقوة، لكن الإيديولوجية لا تتناسب مع الخضوع. الإيديولوجية تتطلب الإيمان والقبول والانجذاب. الأيديولوجية الفاعلة ينبغي أن تستند من جهة إلى تصور بمقدوره أن يقنع العقل ويغذّي الفكر. وينبغي أن تكون – من جهة أخرى – قادرة على أن تفرز من تصوراتها أهدافاً جذابة رائعة. وفي هذه الحالة يجتمع العشق والاقتناع باعتبارهما عنصرين أساسيين للإيمان، ليُساهما في بناء العالم. وهنا لابدّ من الإشارة – ولو باختصار – إلى عدد من المسائل، تاركين تفاصيلها إلى فرصة أخرى: 1- الإيديولوجيات على نوعين إنسانية وفئوية. الإيديولوجيات الإنسانية هي التي تخاطب الإنسان بما هو إنسان، لا باعتبار انتمائه القومي والطبقي. وتستهدف نجاة النوع الإنساني، لا نجاة فئة أو طبقة معينة. وأطروحة هذه الإيديولوجية تستوعب جميع البشرية، لاجماعة معينة. ودعاتها وأتباعها ومناصروها ينتمون إلى شعوب وعناصر وطبقات وفئات متعددة. الإيديولوجية الفئوية – على العكس من الأولى – تخاطب فئة أو طبقة أو مجموعة خاصة، وتدعو إلى إنقاذ تلك الفئة الخاصة أو سيادتها أو تعاليها. ولا تكسب لها أنصاراً وحماة وجنوداً إلا من تلك الفئة. كل واحدة من هاتين الإيديولوجيتين تستند إلى نظرة خاصة للإنسان. الإيديولوجية العامة والإنسانية كالإيديولوجية الإسلامية تستند إلى نوع من التصور للإنسان هو ما نعبّر عنه بالفطرة. الإسلام ينظر إلى الإنسان باعتباره موجوداً يحمل في طينته بعداً وجودياً خاصّاً ومواهب سامية تميزه عن الحيوان وتمنحه هوية خاصة. وهذه الهبات الخاصة للإنسان مقدمة على تأثير العوامل التاريخية والاجتماعية على الكائن البشري. النظرة الإسلامية ترى أنّ الإنسان يتمتع في أصل خلقته بشعور خاص وبوجدان نوعي. وهذا الوجدان الفطري هو الذي يضفي على الإنسان نوعه الخاص، ويجعله مؤهّلاً للدعوة والخطاب والحركة. الإيديولوجيات الإنسانية تنطلق في دعوتهما – إذن – من الوجدان الفطري الذي يختص بالنوع الإنساني، وتخلق التحرك. أمّا الايديولوجيات الفئوية فلها نظرتها الأخرى للإنسان. إنّها ترفض أن يكون الإنسان النوعي مؤهّلاً للدعوة والخطاب والتحرك. إذ تعتقد أن شعور الإنسان ووجدانه واتجاهاته تتبلور تحت تأثير العوامل التاريخية في الحياة الوطنية والقومية، أو تحت العوامل الاجتماعية في المكانة الطبقية. الإنسان المطلق – بغض النظر عن العوامل التاريخية أو الاجتماعية الخاصة، ليس له شعور ولا وجدان ولا يتمتع بصلاحية الدعوة والخطاب، بل هو موجود انتزاعي لا عيني. الماركسية وكذلك الفلسفات القومية والعنصرية تقوم على أساس هذه النظرة للإنسان. منطلق هذه الفلسفات هو المصالح الطبقية، أو المشاعر القومية والعنصرية، أو الثقافة القومية على أحسن تقدير. الإيديولوجية الإسلامية هي دون شك من النوع الأوّل، ومنطلقها الفطرة الإنسانية. ولهذا فهي تخاطب الناس (عامة الأفراد)، لا طبقة معينة أو فئة خاصة. كلمة "الناس" في القرآن الكريم يساء فهمها أحياناً، وتفسر على أنها تعني الجماهير، أي الطبقة المقابلة للطبقات الممتازة، وهذا الفهم الخاطئ لمعنى الكلمة يؤدي إلى فهم خاص لاتجاه الإسلام. فيقال خطأ: أنّ الإسلام خاطب "الناس" في نصوصه، ولذلك فهو دين الجماهير الكادحة. ويحسبون تلك فضيلة من فضائل الإسلام!!. ولكن الواقع ليس كذلك، صحيح أنّ الإسلام هب للدفاع عن الجماهير الكادحة، وهذه هي إحدى فضائله حقاً، لكنه لم يقتصر خطابه على هذه الطبقة، وليست إيديولوجيته فئوية أو طبقية. ولقد حقق الإسلام معجزته بالفعل حين استطاع بالاعتماد على الفطرة الإنسانية، أن يصيّر أحياناً من أفراد منتمين إلى طبقات مفرهة مستثمرة، حماةً للطبقة المحرومة الكادحة. الإسلام استطاع عملياً أن يكسب له أنصاراً بين جميع الطبقات، حتى الطبقات التي حاربها وقارعها مثل "الملأ" و"المترفين" على حد التعبير القرآني. ولقد شهد التاريخ الإسلامي صوراً كثيرة من عمليات التغيير التي نهض بها الإسلام متحدياً كل الحواجز الطبقية، فاستنهض أفراداً ليثوروا على طبقتهم بالذات، ودفع بمجموعة لأن تثور ضد مصالحها! بل بالفرد لأن يثور على آثام نفسه!! فالإسلام باعتباره ديناً سماوياً. ينفذ إلى أعماق الإنسان، ويعتمد – من جانب آخر – على الفطرة الإنسانية، ومن هنا كان هذا الدين قادراً على استنهاض الفرد ضد آثام نفسه، وعلى إشعال نار الثورة الداخلية في وجوده، وهذه عملية "التوبة". القدرة الثورية للإيديولوجيات الفئوية والطبقية تنحصر في إثارة فرد ضد فرد آخر، أو طبقة ضد طبقة أخرى. لكنها غير قادرة إطلاقاً على إعلان الثورة الذاتية، وغير قادرة أيضاً أن تخلق الرقابة في نفس الإنسان كي يستطيع الفرد أن يراقب نفسه بنفسه. الإسلام باعتباره خاتم الرسالات السماوية، يستهدف أكثر من بقية الأديان إقامة العدالة الاجتماعية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...) (الحديد/ 25)، ولذلك يتجه نحو إنقاذ المحرومين والمستضعفين ومقارعة الظالمين. لكن نداء الإسلام لا يقتصر على المحرومين والمستضعفين، كما أنّ الأنصار الذين كسبهم الإسلام إلى صفه لم يكونوا جميعاً من هذه الطبقة. بل استطاع الإسلام، بالاعتماد على قوة الدين وعلى الفطرة الإنسانية، أن يكسب له أنصاراً من بين الطبقات التي أعلن ثورته عليها، كما يشهد بذلك التاريخ. الإسلام مشروع انتصار الروح الإنسانية على الروح الحيوانية.. وانتصار العلم على الجهل، وانتصار العدل على الظلم، وانتصار المساواة على التمييز، وانتصار الفضيلة على الرذيلة، وانتصار التقوى على التحلل، وانتصار التوحيد على الشرك. انتصار المستضعفين على الجبابرة المستكبرين واحد من مظاهر ومصاديق هذه الانتصارات. 2- ينبغي هنا أن نطرح مسألة ماهية الثقافة الإنسانية الأصيلة، ونسأل هل هناك ثقافة موحّدة؟ أم إنّ الثقافات ذات ماهيات قومية أو وطنية أو طبقية مختلفة. هذه المسألة ترتبط أيضاً بنظرتنا إلى الإنسان. فإذا آمنا بوجود الفطرة الإنسانية الأصيلة الموحدة بين أبناء البشر، آمنّا أيضاً بالثقافة الإنسانية الموحدة. وإذا رفضنا وجود مثل هذه الفطرة لزمنا الإيمان بأنّ الثقافات وليدة العوامل التاريخية والقومية والجغرافية والاتجاهات المصلحية الطبقية. التصور الإسلامي يؤكد على الفطرة الموحدة، ومن هنا يساند فكرة الايديولوجيات الموحدة والثقافة الموحدة. 3- طبيعي أنّ الإيديولوجية الوحيدة التي تستطيع أن تكون ذات ماهية إنسانية وتقوم على أساس القيم الإنسانية هي الإيديولوجية الإنسانية لا الفئوية، هي الإيديولوجية الموحدة لا القائمة على أساس تجزئة الإنسان، هي الإيديولوجية الفطرية لا المصلحية. 4- ذكرنا أنّ الإسلام يتجاوز الأطر القومية والوطنية والطبقية، ويعلن أيديولوجيته الموحدة للناس كافة. وتبقى مسألة خضوع الإيديولوجية للظروف الزمانية والمكانية. والسؤال المطروح في هذا المجال هو: هل إنّ الإيديولوجية خاضعة لمبدأ النسخ والتبديل بتبدل الظروف الزمانية والمكانية أم إنها مطلقة في كل زمان ومكان وغير خاضعة للنسبية الزمكانية؟ الجواب على هذا السؤال يرتبط بفهمنا لمنطلق الإيديولوجية، هل هذا المنطلق هو الفطرة الإنسانية أم المصالح الفئوية والمشاعر القومية والطبقية؟ كما يرتبط أيضاً بفهمنا لطبيعة التغييرات الاجتماعية، هل إن ماهية المجتمع البشري تتغير بتغير مراحل التاريخ، أم إنّ المجتمع البشري يتطور وفق قوانين تكاملية ثابتة، ويتحرك على مدار ثابت؟! البحث في هذه المسائل يتطلب توضيح مسألة "الفطرة الإنسانية" وتوضيح طبيعة التطورات الاجتماعية. وهو بحث مسهب، طرحناه في كتاب "المجتمع والتاريخ" حيث درسنا فيه علاقة التغيير الاجتماعي بالفطرة الإنسانية. 5- ثمّة مسألة أخرى يمكن طرحها في هذا المجال ترتبط بثبات الإيديولوجية وتغييرها في الظروف الزمانية والمكانية. إن مسألة نسخ الإيديولوجيات وتغيرها كليّاً حسب الظروف الزمكانية. وهنا نطرح مسألة التغيير في محتوى الإيديولوجية ونتسائل: هل إنّ هذا المحتوى مطلق أم نسبي؟ عام أم خاص؟ هل إنّ الإيديولوجية – باعتبارها ظاهرة من الظواهر – خاضعة للتطور والتغير، وبالتالي إلى إعادة النظر والتعديل، كما هو مشهود في عالم الإيديولوجيات المادية؟ وهل بالإمكان أن تكون الإيديولوجية متضمنة للخطوط العامة لحركة الإنسان والمجموعة الإنسانية، دون أن تحتاج – في الظروف المختلفة – إلى إصلاح وتعديل؟ لو كان ذلك ممكناً، لكان دور القادة الفكريين هو "الاجتهاد" في محتوى تلك الإيديولوجية ضمن إطار الخطوط العامة. والتكامل الإيديولوجي يتم حينئذ عن طريق الاجتهادات، لا عن طريق تعديل نفس الإيديولوجية.   المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 21 لسنة 2009م

ارسال التعليق

Top