• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الاقتصاد أسسه عالمية الطابع

د. عبدالغني عماد

الاقتصاد أسسه عالمية الطابع

  أكثر ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العولمة هو الاقتصاد، نظراً إلى الترابط العميق بينهما من جهة، ونظراً إلى التجليات الاقتصادية الأكثر وضوحاً وأسبقية وسرعة في التحقق على أرض الواقع. إنّ النظام الاقتصادي العالمي اليوم هو نظام واحد تحكمه أسس عالمية الطابع، وتديره مؤسسات وشركات عالمية ذات تأثير في كل الاقتصادات المحلية. أما الأسواق التجارية والمالية العالمية فهي لم تعد موحدة أكثر من أي وقت آخر فحسب، بل هي أصبحت خارجة عن تحكم كل دول العالم. فقد برز تقسيم جديد للاقتصاد في ما يتعلق بانتقال السلع والخدمات ورأس المال، لقد بلغ النشاط الاقتصادي العالمي مرحلة الانفصال عن الدولة وعن الاقتصادات الوطنية التي كانت إلى وقت قريب جدّاً قاعدة هذا الاقتصاد ووحدته الأساسية التي تتحكم بمجمل العملية الإنتاجية والاستثمارية.

انتقال مركز الثقل الاقتصادي من الوطني إلى العالمي، من الدولة إلى الشركات والمؤسسات والتكتلات هو جوهر العولمة الاقتصادية. لقد أصبحت الاستجابة لمتطلبات السوق العالمي ولاحتياجاته هي المفتاح المحرك لعمليات الإنتاج ولكيفية إدارة الاقتصادات المحلية. ومع التسعينيات تزايد التداخل في الاقتصاد العالمي بفعل اندفاع العالم نحو اقتصاد السوق والخصخصة والاندماج في النظام الرأسمالي كوسيلة لتحقيق النمو، وتحولت المعرفة والمعلومة إلى سلعة استراتيجية وإلى مصدر جديد للربح. لذلك يمكن القول إنّ العولمة في تجلياتها الاقتصادية هي الرأسمالية في طور حضورها الكوني الذي وظف الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية الجديدة لصالح عملياته. فالعولمة بواسطة السوق هي الشكل المتقدم لرسملة العالم وسلعنته وتحويل أفراده إلى مجرد مستهلكين للسلع والخدمات التي تروج على نطاق العالم[1]. وهذا لا يتم إلا من خلال تحقيق التراكم الرأسمالي المعلوم على أساس الاحتكار التكنولوجي والمالي والمعلوماتي والخدماتي من خلال الشركات العابرة للحدود أو المتعددة الجنسيات. وأبرز الأدوات التي فعّلت العولمة الاقتصادية تتمثل أوّلاً بالدور المتزايد للشركات العابرة للحدود، المتعددة الجنسيات التي ليس لها مقر أو وطن، والقائمة على دمج شركات عملاقة تنسج تحالفات عابرة للقارات متنوعة في نشاطاتها واستثماراتها. والجزء الأكبر والأهم من هذه الشركات يتركز حول ثلاث مناطق اقتصادية رئيسية، تتجمع فيها ثروة تقدر بحوالى 20 تريليون دولار، أي أكثر من 80 بالمئة من إجمالي الناتج العالمي. وهي تتمثل بما يسمى "أرض اليورو" ومنطقة "النافتا" ومجال "الين". وهذه الشركات هي وقود العولمة الاقتصادية، والتفاوت يظهر بشكل واضح في الثروة التي يملكها 358 بليونيراً أو التي بلغت 760 مليار دولار، أي ما يساوي ما يملكه 45 بالمئة من سكان العالم، وفي أنّ غالبية النشاط الاقتصادي العالمي تحتكره أكبر مائتي شركة عالمية حسب دراسة نشرتها مجلة (The Nation) عام 1994. وتتمثل ثانياً بالدور الصاعد لمنظمة التجارة العالمية منذ العام 1996 والتي تضم أكثر من 140 دولة تعهدت بخفض الرسوم الجمركية على التجارة الخارجية وإزالة ما يعيق تدفق السلع والخدمات والمنتوجات بيسر وسهولة في ما بينها. وقد تم تعزيز هذه المنظمة بتوقيع اتفاقية الخدمات المالية 1997 من قبل 70 دولة، وبذلك أصبحت منظمة التجارة العالمية أهم مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية. أمّا الأداة الثالثة للعولمة الاقتصادية فتتمثل ببروز دور البنك الدولي وصندوق النقد العالمي الذي أتاح بقوة قيام أسواق مالية عابرة للحدود بحيث تجاوزت هذه الأسواق عامل المكان والزمان، ولقد أصبحت الأسواق المالية العالمية اليوم بلا وطن ولا حدود، تنتقل بين العواصم العالمية دون اكتراث للحكومات والدول والأيديووجيات وبسرعة مذهلة. العولمة الاقتصادية اليوم تكتسب فعاليتها وحيويتها من الاستقطاب الأحادي للنموذج الرأسمالي الذي حقق أهم نجاحاته بعد سقوط النموذج الاشتراكي، بحيث أصبح العالم أسير منطق السوق والخصخصة وتحرير الاقتصاد والاندماج وإعادة الهيكلة، وبخاصة بعد اندفاع الدول الاشتراكية السابقة إلى الالتحاق بهذا النموذج الذي يتجه أكثر فأكثر نحو تكوين صورته النموذجية على الصعيد النظري والتطبيقي، التي يعد فيها بأنّه سيجلب الرفاهية والنمو لسكان هذا الكوكب. إنّ خصخصة الأصول والتوزيع الكوني للإنتاج المصنع عبر الاستثمار الأجنبي يشكل إعادة صياغة للتقييم الدولي للعمل، ويرسم علامات استفهام حول دور الدولة الحديثة، وحول سيادتها المهددة، وانكفائها عن أداء بعض وظائفها المتصلة بالرعاية الاجتماعية، وتقلص مجالها السيادي نتيجة تدويل الإنتاج والنشاط الاقتصادي للشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية العالمية. ويتجلى هذا في التدخل السافر لصندوق النقد والبنك الدوليين في شؤون الدول الوطنية، والضمانات التي يفرضها على القروض وفوائدها، حتى لو أدى ذلك إلى تهديد الأمن الغذائي والاجتماعي لغالبية المواطنين، عبر النصائح والإرشادات والإملاءات التي يفرضها على هذه الدول بدءاً بما يسمى بسياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة والإصلاح الهيكلي وتحرير السوق، وصولاً إلى التدخل في أسعار السلع الأساسية. لقد أصبحت بلدان الهامش تعاني أكثر فأكثر من الديون المتراكمة، وعندما تفشل مشاريعها غير المدروسة، تجد نفسها في حاجة إلى مزيد من المساعدات المشروطة، وبهذا أصبح المركز هو المهيمن والمتحكم ليس فقط بموارد الهامش، بل بحقه في إعادة تنظيم حياته. وهذا ما دفع تقرير التنمية البشرية لعام 1992 الصادر عن برنامج الأُمم المتحدة الإنمائي إلى التحذير من أن تقدم العولمة أصبح يهدد البلدان النامية في فقدان قوتها وسيطرتها على اقتصادها، ويحدد التقرير ما يسميه "الشرور السبعة" للخصخصة[2]، وهي: التشديد على تحقيق أقصى المداخيل في المدى القريب على حساب خلق مناخ تنافسي حقيقي في المدى البعيد، واستبدال الاحتكارات العامة بالاحتكارات الخاصة، ما يؤدي إلى استغلال المستهلكين وانتشار الفساد الذي يؤدي إلى إثراء قلة من المحسوبين على الحكومات والمقربين منها، ونزوع الحكومات لبيع الملكيات العامة في سبيل تغطية العجز في ميزانيتها، وإغراق الأسواق المالية بالديون العامة في سبيل تغطية العجز في ميزانيتها، وإغراق الأسواق المالية بالديون العامة بتقديم وعود كاذبة للعمال بدلاً من تدريبهم وإعدادهم للمهمات الجديدة، وصنع قرارات متسرعة من قبل الحكومات من دون محاولة للتوصل إلى إجماع سياسي.   الهامش:
  [1]- اسماعيل صبري عبدالله، "أبرز معالم الجدة في نهاية القرن العشرين"، تعقيب رمزي زكي، عالم الفكر، السنة 26، العددان 3-4 (كانون الثاني/ يناير 1991)، ص3-4.

[2]- United Nations Development Programme (UNDP), Human Development Report, 1993 (New York: Oxford University Press, 1993), pp. 650-651, and Jerry Mander, (The Dark Side of Globalization: What The Media Are Missing). http://www.geocities.com/Athens/Acropolis/1232/global.html.

المصدر: كتاب سوسيولوجيا الثقافة (المفاهيم والإشكاليات... من الحداثة إلى العولمة)

ارسال التعليق

Top