• ٦ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرحمة وإصلاح الإنسان

أ.د. محمّد أديب الصالح

الرحمة وإصلاح الإنسان

من السمات الحضارية التي كانت من عطاء رسالة الإسلام في واقعها العلمي والخلقي من ناحيتي التصوّر والتطبيق العملي: ما أعطي للرحمة من حجم بعيد المدى في حياة المسلمين أفراداً وجماعات، يحمل طابع الشمول ولا تعوزه إنسانية الإنسان.

وكان ذلك ضمن إطار من الحكمة البالغة في وضع الأمور مواضعها شدّةً وحزماً، ورحمةً وشفقة، والانضباط بضوابط منزهة عن سلطان الأهواء والنزغات.

فللشدّة مكانها الذي لا ينفع فيه غيرها، والذي يؤدِّي إلى الرحمة بمن عومل بتلك الشدّة والحزم، ولذلك ما له من أثر طيِّب في حياة الفرد والجماعة بل والأُمّة بإطلاق!!

كما أنّ للرأفة مكانها كذلك دون وكس ولا شطط بحيث تُعطي ثمراتها الطيِّبة، ويسهم وضعها في المكان الملائم في لمَ الشعث وصفاء القلوب، والإحكام في بناء الإنسان.

ومن خصائص الشرعة المباركة في الإسلام أنّها تمسك بعاتق الميزان في هذين الأمرين وأمثالهما، الأمر الذي تتجلّى معه حكمة الحكيم الخبير سبحانه فهو الحكيم الذي يضع الأمور مواضعها فيما يصلح العباد والبلاد، الخبير بما هو الخير لعباده والأصلح لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

ولست هنا بسبيل الاستقصاء المودع تفصيله في مظانه، ولكنّها الإشارة العابرة.

فأنت واجد - على سبيل المثال - أنّ إقامة الحدود - في بعض حِكمها والأغراض التي تحققها - هي نوع بارز من أنواع الرحمة؛ لما فيها من الحفاظ على بُنية الأسرة وكيان المجتمع، وصيانة الدِّين والمال والنفس والعرض والأخلاق والأنساب وما إلى ذلك.

(الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجلُدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُما مَائَةَ جَلدَةٍ وَلا تَأخُذكُم بِهِما رَأفَةٌ في دِينِ اللهِ إن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ وَليَشهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ) (النور/ 2).

وماذا أنت قائل عن الجهاد في سبيل الله - ذروة سنام الإسلام - الذي لا يرتاب منصف في أنّه - ببواعثه وأهدافه وثمراته العظيمة - رحمة من الله لبني الإنسان؛ لما فيه من إزاحة ركام الظلم وطغيان الظالمين من طريق الإنسان، كيما يتاح لطفرته أن تستجيب لدعوة الحقّ، وكيما يعيش إنسانيته الحقّة، ويستمتع بما أعطاه الله، وما سخّر له من خيرات هذا الكون، ولما فيه من تهيئة السُّبل لنشر كلمة الله في الأرض، ونصرة الشعوب المستضعفة، ودفع أذى الفتنة عمّن يحملون لواء الحقّ ويعملون على إعلاء كلمة الله وتحقيق ما فيه إسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة (أُذِنَ للذينَ يُقاتَلُون بأنّهُم ظُلِمُوا وإنّ اللهَ على نَصرِهِم لَقَدير * الذينَ أُخرِجوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إلا أن يَقُولُوا رَبُّنا اللهُ وَلَولا دَفعُ اللهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوَامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيراً ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز * الذينَ إن مَكَّنَّاهُم في الأرضِ أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوا الزّكاةَ وأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ ونَهَوا عَنِ المُنكَرِ وللهِ عاقِبَةُ الأُمُور) (الحج/ 39-41)، وحسبك أنّ هذا كلّه ومثله كثير في شرعة الإسلام يدخل ضمن إطار الرحمة التي أرسل بها محمّد (ص) (وَما أرسَلنَاكَ إلّا رَحمَةً لِلعَالَمِين) (الأنبياء/ 107).

وفي تأصيل لمقام الرحمة في هذا الدِّين وبيان مكانتها: نجد أنّ الرسول (ص) توعّد الذين لا يرحمون الناس بحرمانهم من رحمة الله، وهي حقيقة أعلنها - وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم وأرسله الله رحمة للعالمين - بالكلمة الواضحة بلا لبس أو غموض. روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبدالله البجلي (رض) قال: قال رسول الله (ص): "مَن لا يرحم الناس لا يرحمه الله".

ونقع على نص من كلامه (ص) يتسم أكثر وأكثر بالتعميم؛ فعن أبي هريرة (رض) قال: قَبَّل النبيّ (ص) الحسن بن علي - وعنده الأقرع بن حابس - فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً؛ فنظر إليه رسول الله (ص)، فقال: "مَن لا يَرحَم لا يُرحَم" (أخرجه البخاري ومسلم).

وهكذا يمتد رواء الرحمة في الإسلام حتى يصل إلى العجماوات والبهائم.

وفي سورة النمل، يهدينا المعلم القرآني إلى واقعة تحمل صورة غايةً في الإشراق على هذه الساحة المباركة؛ وذلك فيما قصَّ الله علينا من واقعة النملة - على ما هي عليه النملة - التي أنطقها الله فقالت محذِّرة النمل خطر الحطم والهلاك: (يا أيُّها النَّملُ ادخُلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَحطِمَنَّكُم سُلَيمانُ وجُنُودُهُ وَهُم لا يَشعُرُون) (النمل/ 18)، وما كان من دعاء سليمان (ع) بعد أن تبسَّم ضاحكاً من قولها، ذلكم قول الله جلّ ثناؤه: (وحُشِرَ لِسُلَيمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنسِ والطَّيرِ فَهُم يُوزَعُون * حتّى إذا أَتَوا على وَادِ النِّملِ قالَت نَملَةٌ يا أيُّها النَّملُ ادخُلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَحطِمَنَّكُم سُلَيمانُ وجُنُودُهُ وَهُم لا يَشعُرُون * فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِن قَولِها وَقالَ رَبِّ أوزِعنِي أن أشكُرَ نِعمَتَكَ التي أنعَمتَ عَلَيَّ وعَلَى وَالِدَيَّ وأنْ أعمَلَ صالِحاً تَرضَاهُ وأدخِلنِي بِرَحمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِين) (النمل/ 17-19).

سبحان الله؛ هذا الدعاء الجامع الذي يصدر من نبيّ من الأنبياء بمناسبة تخوّف النملة - هذه الحشرة الصغيرة الضعيفة - واحد من كلام النبوّة ودلائلها؛ إنّ سليمان (ع) يسأل ربّه أن يلهمه شكر نعمته التي أنعم بها عليه وعلى والديه، كما يسأله التوفيق لعمل صالح يرضاه سبحانه، وأن يدخله برحمته في عباده الصالحين.

وإذا لم نلمح من خلال هذه الدعوات النديّة الثريّة ما يتصل كلّ الاتصال بالرحمة حتى بذلك المخلوق الأعجم الضعيف؛ نكون قد ظلمنا أنفسنا - والله أعلم - وظلمنا الحقيقة.

ولما كانت العبرة من القصص القرآني مقصودة لذاتها (لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُولِي الألبَاب) (يوسف/ 111)، (فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرون) (الأعراف/ 176) كان لزاماً أن نتخذ من هذا المعلم القرآني وأمثاله ضياءً على طريق تكتنفه المصاعب، فنحمل لواء الرحمة عند البناء وتنمية طاقات الأُمّة - بعامّة - والبشرية منها بخاصّة؛ وذلك بأن نضع الأمور مواضعها، ونؤدّي - في ضوء الشرعة المباركة - لكلّ ذي حقّ حقّه، ونستمطر رحمة الله برحمة بعضنا بعضاً كلٌّ في حدود ما أورده الله وأعطاه، والثغر الذي أقامه عليه.

مرّة أخرى: أن يُعلَّم سليمانُ (ع) منطق هذه المخلوقات، وحين يسمع ما قال ذلك الحيوان الضعيف، يبتسم ضاحكاً، ويدعو الله بتلك الدعوات التي حملها إلينا الكتاب العزيز: إيذان بأن يفسح - بالأولى - للرحمة العامّة على صعيد التعامل في المجتمع، وإبانة مؤكّدة عن أنّ ذلك ممّا يرضي ربّنا تبارك وتعالى.

وإذا أردنا التوفيق فيما نسعى له من بناء لا يعوزه الإحكام والشمول، وتنمية تعتمد الجدِّية وحشد الطاقات بعلم وأمانة: كان علينا، في نظرة متكاملة، أن يصحب الأخذ العلمي والاقتصادي بالأسباب، رحمة لمن في الأرض تستدر رحمة السماء، وبذلك يكون السداد والتوفيق إن شاء الله.

وليت أنّ للظلَمة قساةِ القلوب غلاظِ الأكباد آذاناً تسمع نداء السماء!!

 

المصدر: كتاب بناء على منهاج النبوّة (تبيان المعالم والأخلاق)

ارسال التعليق

Top