• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الغزو الثقافي في مجال الفنون

لويز لمياء الفاروقي

الغزو الثقافي في مجال الفنون

إنّ أي مناقشة لأشكال الغزو الثقافي الذي تتعرض له البلاد الإسلامية – سواء كان في مجال الإيديولوجيات السياسية، أو الممارسات الاقتصادية، أو العادات الاجتماعية، أو المؤثرات الفنية – يتطلب أن نضع في اعتبارنا أربعة معالم مرتبطة بما يمثله هذا الغزو من تدفق في الأفكار والعادات.

وأوّل هذه المعالم وجوب وصف تلك العناصر الغازية؛ فمن الضروري أن نتعرف على تلك المظاهر التي تنتسب إلى الحضارة (أو الحضارات) الأجنبية، والتي تقتحم الثقافة الإسلامية وتنتشر فيها. وفي حالة الغزو الثقافي في مجال الفنون، فإنّ ذلك يتم فقط عن طريق التحقق من السمات الحقيقة لتلك المؤثرات الفنية الوافدة والمقتبسة، لكي يكون من الممكن تقييم الفائدة المحققة من هذا الغزو أو الخطر الكامن فيه. وثانيها أنّه يتحتم علينا أن نتحرى روافد الغزو الثقافي، وما هي الظروف الداخلية أو الخارجية التي تسهل هذا الغزو وكيف نقوم نحن المسلمين بإعداد التربة وتهيئة المناخ لاقتباس تلك الأفكار والأعراف الغريبة عنا؟ وتعالج هذه التساؤلات سبل تأثير عناصر الغزو الثقافي على الحياة اليومية للمسلمين – في الجزائر ومصر، وباكتسان وجنوب شبه الجزيرة العربية، ونيجيريا – كما نلمسها في الواقع. وثالث هذه المعالم يشير إلى تقييم الخطر الكامن في عملية تشرب الثقافة الغربية وفي الأذى الناجم عنها – سواء ارتبط ذلك بالغزو الثقافي في مجال الفنون أو في أي مجال ثقافي آخر – وهل هناك مبرر للقلق العميق أو أنّ التغيرات المعاصرة التي نراها من حولنا تشير حقيقة إلى نماء صحي للكيان الكلي للثقافة المسلمة؟ وهل من الواجب علينا أن نهتم بما نتعرض له من غزو ثقافي معاصر أم أنّ ذلك استعارات بريئة يمكن للكيان الثقافي الإسلامي "هضمها" (أي أسلمتها). أما المعلم الرابع الذي يلزم أن نوجه اهتمامنا إليه فيتمثل في السبل اللازمة للتحكم في المؤثرات الغازية وتقصي أساليب مواجهة ما تمثله من تحد؛ سواء اقتصرت رغبتنا على ترشيد هذا الغزو وتحويل مسار تأثير بعض عناصره، أو كانت أكثر حسماً في حفز هذه المؤثرات الغازية أو وأدها، في تدعيمها أو إحباطها، في ترقيتها أو إيقافها. كيف نستطيع نحن المسلمين – ونحن نتعرض حتماً للمؤثرات الأجنبية كل يوم من أيام حياتنا – أن نمنع استمرار نسف جذورنا الثقافية وهويتنا الحضارية بما تحمله تلك الاستعارات التي تغمرنا بلا تمييز أو تحديد؟ كيف نضمن أنّ استعارتنا لتلك الأفكار الغريبة والعادات الدخيلة ستكون من خلال جوهر إسلامي قوي وقوية أساسية رصينة؟ كيف يمكننا أن نمنع تلك الاقتباسات الشاملة التي تصيب هويتنا الإسلامية بالتميع؟. ورغم كثرة وتنوع الاستعارات الفنية من الثقافات المجاورة، التي كان المسلمون على صلة بها، فإنّ اهتمامنا الرئيس من هذا المقال سيقتصر على الغزو القادم من الحضارة الغربية – سواء من أوروبا الغربية أو من أمريكا – في مجال الفنون. ومن المؤكد أنّ هذا التحديد لا يبعث على الرضى التام، ولكنا اضطررنا إليه لسببين؛ أوّلهما: الحيز والزمن المخصصان لمقال واحد. وثانيهما: الأهمية المعاصرة الكبيرة المعطاة للحضارة الغربية كمصدر للمؤثرات الغربية التي تنفذ إلى العالم الإسلامي. أوّلاً: مظاهر الغزو في النواحي الجمالية: أ- المنتجات الفنية: يأتي الفن الغربي ذاته كمصدر من مصادر غزو الفنون الغربية واقتحامها العالم الإسلامي ونعني بذلك الأعمال الفعلية التي صنعتها أيدي الفنانين الغربيين لجمهورهم في الغرب. فقد قام أثرياء مسلمون ومؤسسات مسلمة بشراء وتجميع هذه الأعمال الفنية باعتبارها استثماراً أو وقاء من التضخم، وكذلك لتجميل منازلهم ومكاتبهم وحدائقهم ومدنهم، ولكي يحيطوا أنفسهم بسرداق الهوية الثقافية الغربية. ويتفوق على هذه الأعمال الفنية في أثرها أعمال أخرى تهيمن على ممارسات التسلية والمتعة كأفلام السينما، والكتب، والمجلات، والتسجيلات الإذاعية. وسواء كانت هذه الأعمال الفنية الغربية تماثيل منحوتة أو لوحات مرسومة أو نسيجاً مطرزاً أو أثاثاً أو أوعية منزلية أو أفلاماً سينمائية أو أعمالاً يدوية أو موسيقى سجلة فكلها أعمال فنية يقصد بها إعطاء الزائر أجنبياً كان أو من أهل البلد – انطباعاً بأنّ مشتريها أو مقتنيها شخص ذو شخصية عالمية من نمط "الأفندية" تثقف في فنون الحكام المستعمرين السابقين – أو تابعيهم من المستعمرين الجدد – وحذقه، بل إنا نجد الحكومات تتفق ببذخ على المعارض وفعاليات الفنون الغربية ليستفيد منها – في المقام الأوّل – المقيمون من الأجانب وحفنة من المواطنين الذين يظهرون اهتمامهم بها. ومن الأمور التي لا تخفى على أحد تلك الجهود التي تبذل لإقامة ودعم فرق الأوركسترا السيمفونية ومعاهد "الكونسرفتوار" للموسيقى الغربية في العواصم العربية. ففي مصر أثناء حكم عبدالناصر خصصت مبالغ حكومية كبيرة لشراء أجهزة "بيانو شتاين واي". واستقدام فنانين أوروبيين بالأجر ليعزفوا عليها ويعلموا الآخرين في المعهد العالي للموسيقى "الكونسرفتوار" بينما عجز المعهد العالي للموسيقى العربية عن تدبير أيّة مبالغ لترقية أعضاء هيئة التدريس فيه أو لاستبدال الأجهزة المكسورة أو حتى إصلاحها، ولم يكن لدى عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة مقعد في مكتبه يجلس عليه زائروه. وقد أدّت أشكال الغزو هذه إلى ظهور نماذج من الانطباعية والفنون الشعبية الغربية، وغيرها من نماذج الحركة الغربية المعاصرة، وذلك في أعمال الفنانين المسلمين، كما دفعت بالملحنين إلى تأليف مجموعات مقلدة من كل أنماط الموسيقى الغربية الكلاسيكية في عصورها المختلفة. كما أدّت إلى وجود صور ذات طابع مسلم لكل اتجاه من اتجاهات الموسيقى الشعبية في الغرب، ولكن هذه الفنون لم تكن يوماً ما فنونا إسلامية، وإنما نسخ محلية من أعمال فنية غربية. وجاء على الفنانين المسلمين – والموسيقيين منهم – أوقات أدركوا فيها عدم الاتساق الكائن في جهودهم السابقة التي بذلوها في تقليد الغرب، وجاهدوا للعودة إلى جذور هم الجمالية. فعلى سبيل المثال نجد فناناً مثل سليمان عيسى في ماليزيا قد بدأ الآن في التعبير عن الإيديولوجية الإسلامية التي تشكل العنصر الأساسي في هوية الثقافة الماليزية. ومثال آخر نجده في الأعمال الموسيقية لأبي بكر خيرت في مصر. ففي عام 1959 قام بعزف تسجيلات تمثل الكثير من محاولاته الأولى لتأليف موسيقى على نمط المؤلفين المختلفين للموسيقى الغربية الكلاسيكية عبر العصور المختلفة، ولكنه عندما التقى بنا كان قد نضج وبدأ يستخف بمحاولاته الأولى تلك، ويحط من قدرها على أساس أنها أمساخ ساذجة من الفن الموسيقي الغربي. وانصب اهتمامه بعدها على المؤلفات الصوتية الموضوعة على نمط الموشح الذي يعتبر نمطاً أصيلاً في بلاد المسلمين، وكان يحس أنّ هذا النمط سوف يقوده إلى تعبيرات تعتبر جديدة ومعاصرة، وفي الوقت ذاته تمتد بجذورها في التراث المصري الإسلامي، ولسوء الحظ انقطعت بوفاته محاولاته في هذا الاتجاه. ومرة أخرى نجد مثالاً حديثاً على غزو الأعمال الفنية القادمة من الغرب فيما يسمى بمشروع تجميل مدينة جدة. حيث تمت صناعة نماذج ممسوخة من الفن الغربي خالية من الصبغة الإسلامية العربية، ثمّ نثرت في حدائق المدينة وأماكنها العامة، هناك ترى العيون وتعجب من غياب الوعي الجمالي الإسلامي عند هؤلاء المسلمين الذين أنفقوا أموالهم على إنشاء تلك النماذج الغريبة من الفن الغربي المعاصر، أو عند هؤلاء الذين أوصوا بها، أو يسروا إقامتها في مدينة داخل المملكة العربية السعودية. فهذه الأعمال الفنية في مجملها تشهد على أنها أجسام غريبة تنتمي قلباً وقالباً إلى الإطار الأوربي أو الأمريكي المعاصر، ولكنهم استعاروا إلى حيث وقفت في الصحراء دليلاً صارخاً على التنافر مع البيئة التي غزتها، بل وزاد من شدة هذا التنافر ما استحدث حولها من "صحراء جمالية". ورغم أنّ بعض الدول المسلمة قد بدأت تدرك المشكلات التي تصحب هذه الأنماط من الغزو الجمالي في مجال الفنون المرئية، إلا أنّ مجلاتها وأفلامها وتسجيلاتها المرئية وكذلك برامج إذاعتها المسموعة والمرئية، كلها مازالت مشربة بالمستورد من الغرب؛ بل وأكثر من ذلك، خاضعة له. ب- ما يتعلق بالفن من أفكار: ولم تكن الأعمال الفنية الجمالية التي أفرزها الغرب هي وحدها التي غزت عالمنا الإسلامي، وإنما نجد ما يتعلق بالفن من أفكار هي الأخرى تتغلغل في المجتمع المسلم وتسري في ثقافته بكثافة متزايدة، وفي شمولية مطردة، حتى أنه لن يكون بإمكاننا إلا أن نذكر القليل فقط من تلك الاقتحامات الفكرية الجمالية التي سيكون لها آثار جوهرية، إذا ما استطاعت أن تزيد من أتباعها من بين أفراد الأُمّة المسلمة. 1- ومن بين هذه الأفكار التي تتعلق بالفنون اعتبار الفن ممارسة وجدت أساساً لتزين القاعات وجدران المتاحف، أو لتسمع في قاعات الحفلات الموسيقية؛ وتلك الفكرة مرفوضة تماماً في الثقافة الإسلامية. فالفنون الإسلامية تستمد وجودها دائماً من قيامها بدور مفيد في حياة الشعوب المسلمة إلى جانب تحقيقها وظيفة جمالية في الوقت ذاته. ورغم أننا الآن نجد بعضاً من هذه الفنون معروضاً في المتاحف أو معزوفاً في حفلات موسيقية رسمية – وخاصة في العالم الغربي – إلا أنّ الأعمال العظيمة حقاً التي تنتسب إلى الفن الإسلامي لم توجد أساساً لكي تكون من بين مقتنيات المتاحف أو برامج قاعات الحفلات الموسيقية، أو لكي يقتصر الهدف منها على ذلك؛ فقد كانت دائماً أشياء مفيدة وممارسات نافعة، ترتبط بأحداث أو مناسبات هامة، يشارك فيها أفراد المجتمع مشاركة فعالة. فتجدها في لباس يرتدونه أو في كتاب يقرؤونه، أو درع يتدرع به المحاربون منهم أو ترس يحملونه، أن نشدها على جدران أفنية الدور الخاصة أو العامة، أو أدوار نسمعها في حفلات العرس، أو المؤتمرات السياسية، أو التجمعات الدينية، فمن تعاليم الإسلام. أنّ أي أمر ندركه أو نمارسه يكتسب أهميته إذا ما جر نفعاً أو بني عليه عمل. والفن – باعتباره مظهراً أساسياً من مظاهر الثقافة – عليه أن يدلل على هذه العلاقة النافعة مع الأنشطة الأخرى. 2- وهناك فكرة أخرى ترتبط بالناحية الجمالية، جاءت من الغرب في العقود الأخيرة، وتشير تلك الفكرة إلى تصنيف فنون الشعوب المسلمة إلى ما يسمونه "الفنون الجميلة" مقابل "الفنون الحرفية" واعتبارهما أمرين مختلفين. وعلى هذا فهم يضعون "الفنون الجميلة" على نقيض من "الفنون الحرفية" أو "الفنون الشعبية" فيعتبرون "الفنون الجميلة" أصيلة في مظهرها، متميزة فيمن يمارسونها، وليست للعوام من الناس، مصقولة، ليس بها فجاجهُ، راقية في أسلوبها، ليس بها بساطة، ولا تعتمد على الرخيص من الأشياء في إنشاء موادها... إلخ. وقد يكون لهذا التقسيم الفاصل بين النمطين مصداقيته عندما نعرض لوصف الفنون الغربية، وإن كان هناك من يعارضه بشدة حتى في الغرب إلا أنّه من المؤكد أنّ هذا التقسيم لا يناسب فنون الشعوب المسلمة. فالفنون الإسلامية لا يمكن أن تنقسم إلى فنون جميلة وفنون شعبية على أساس هذا المعيار. ومثل هذا التقسيم يعتبر عارياً من الصحة خالياً من المعنى. فمن الصعب – إن لم يكن من المستحيل – أن نقيم حدوداً فاصلة بين نماذج الفنون، حيث تشير الفنون الإسلامية إلى وحدة واضحة في الأسلوب والمحتوى والشكل، فلا نستطيع أن نفرق بين المبادئ التي تقوم عليها الزينة في واجهة مسجد ما، وفي النسخة الخطية من القرآن، وبين ما نجده في تصميم بوابة خارجية، أو في زخرفة الآرابيسك على غطاء مائدة؛ أو حصيرة للاستعمال المنزلي. صحيح أنّه قد تكون هناك بعض القطع أكثر إبداعاً في تعبيرها عن الإسلام، أو على درجة عالية من الإتقان، أو أكثر رقياً في تصميمها، أو استخدمت مواد ثمينة في إنتاجها، ولكن مثل هذا التنوع لا يؤدي بنا إلى تصور فئات منفصلة داخل نظام عام يشمل مجموعة هذه الفنون. وإنما يكون من المناسب بدرجة أكبر أن ننظر إلى هذه التنوعات باعتبارها نقاطاً تحدد مواقع مختلفة على محور متصل دون أن نرى فيها قواطع حادة تشير إلى فئات منفصلة. فالفن الإسلامي تربطه وحدة مميزة تجمع بينه في الأسلوب والمحتوى بغض النظر عن منشئه أو الغرض من وجوده، ومن ثمّ فإننا حين تفرض عليه ذلك التقسيم الفئوي المقتبس من تراث فني غريب، نوقع أنفسنا في مزالق خطيرة، ونضل عن سواء السبيل، والواقع أننا بذلك نشير إلى أنّ مفهوم الفنون الجميلة غير موجود في منظومة الفنون الإسلامية، وأنها – أي الفنون الإسلامية باعتبارها فنوناً تنتمي إلى الشعب: وذات جدوى وظيفية – كلها فنون شعبية. 3- أما الفكرة الجمالية الثالثة التي غزت أفكارنا – رغم أنّ السياق الإسلامي لا يقرها – فمضمونها أنّ الإنتاج الفني هدفه الإمتاع الجمالي، وليس باعتباره إنتاجاً جميلاً؛ يستفاد منه. وعلى الرغم أنّ بعض الغربيين سوف يجادلون بأنّ العمل الفني من الممكن أن تكون له بالإضافة إلى قيمته الفنية قيمة اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية، ولكن تأتي قيمته في الإمتاع الجمالي في قمة الأهمية القيمية، باعتبارها وظيفته الأساسية. وقد أدت هذه المغالاة في هذه الفكرة في الغرب إلى ظهور المدرسة الفلسفية التي تنادي بمبدأ الجمالية، والتي ترى بأنّ الحكم على الإنتاج الفني يجب أن يكون متحرراً من أي اعتبارات أو قيود غير جمالية، وقد حيكت حول هذه الفكرة تفسيرات متطرفة راجت في أوروبا في القرن التاسع عشر، وظلت بقايا آثارها واضحة في أعمال بعض الفنانين والنقاد في القرن العشرين، رغم ما لافته في الغرب من صدود بين الفنانين الجماليين ومؤرخي الفن. ومن المحزن أننا نجد إخوة لنا من المسلمين والمسلمات يتبنون هذه الفكرة رغم أفولها في الغرب. وهذه الفكرة تتساوى في عدم مناسبتها للثقافة الإسلامية مع الأفكار التي سبقت الإشارة إليها. فلا يمكن للمسلم الملتزم أن يتخيل فكراً أو قولا أو عملاً لا يشارك – فعلاً أو افتراضاً – في الوحدة الثقافية القائمة على دين التوحيد. فالدين يحدد لنا – كمسلمين – إيماننا كنسق عقائدي، ويبين لنا عباداتنا من فروض ومناسك، وكذلك يحدد لنا أساليب حياتنا مع بعضنا البعض (مؤسستنا الاجتماعية) والأساليب التي تحكمنا (مؤسستنا السياسية) وطرق لبسنا وتبادلنا التحية (عاداتنا الاجتماعية)، وعلينا أن نلتزم بهذا التحديد، ومن المؤكد أنّ أساليبنا في الترفيه والاستمتاع الجمالي – وكذلك الطريقة التي نعبر بها عن أنفسنا بصيغة جمالية – كلها يجب أن تخضع بدرجة متساوية لعقيدة التوحيد. والفن عند الفرد المسلم ليس هو الفن ابتغاء للفن، كما يرى أصحاب مبدأ الجمالية، بل هو دائماً الفن ابتغاء لوجه الله؛ إنّه الفن الذي يعين خلق الله على أن يحققوا ما أراده الله لهم بنجاح أكثر؛ إنّه الفن الذي مهما تكن صورته – مرئياً أو أدبياً أو موسيقياً – فإنّه يقوم بدور رئيس في تذكير الفرد المسلم بصفة دائمة بعقيدته ومسؤولياته؛ وهو دائماً معه، في منزله وفي عمله وفي المسجد، يحيطه بتلك المناظر الخلابة والأصوات الجميلة التي تقربه من دينه، وتقوي صلته بثقافته. وهكذا فإننا نجد الفن يقوم بدور رئيس في المجتمع المسلم؛ إنّه ترجمة دقيقة وعميقة لعقيدة التوحيد، ترجمة باللون والشكل، بالحجارة والبناء، بأبيات الشعر وأصوات الموسيقى. ثانياً: روافد الغزو الثقافي: وهناك العديد من الأحداث والمواقف التي مهدت السبل وهيأت الدوافع للغزو الثقافي في مجال الفنون. أ- وعلى قمة هذه الأحداث وتلك المواقف يأتي التأثير المدمر الذي خلفته فترات الاستعمار بشكليه: القديم والجديد، والذي لم يقتصر أثره على النواحي السياسية والاقتصادية، وإنما امتد ليشمل النواحي الجمالية، فقد فرضت القوى الغربية سيطرتها على حكومات الشعوب الإسلامية وجيوشها امتداداً من غرب أفريقيا إلى الفلبين. وكذلك فرضت سيطرة مماثلة على مؤسساتها التعليمية وبرامجها التدريبية وكافة أجهزة التنمية الخاصة والعامة على السواء. ولا عجب في أن تأتي تلك القوى الاستعمارية بما لديها من فنون وأفكار جمالية، وتفرضها على الشعوب المستعمرة. وكان إظهار التذوق لها دليلاً على التوحد مع الحاكم المستعمر، مما دفع كثيراً من المسلمين أن "يؤدوا اللعبة" في الأمور الفنية مثلما يؤدونها في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يحدوهم الأمل في تحقيق الرفعة. ب- وتأتي عقدة النقص الثقافي باعتبارها دافعاً آخر أوجد السبيل للغزو الجمالي. تلك العقدة التي انتشرت بين الشعوب المسلمة، وهم يرون أقدارهم السياسية والاقتصادية في أيدي القوى الأجنبية تسيرها وتتحكم فيها حسب هواها. وقد أدت سيطرة الأمم الغربية على حاضر المسلمين ومستقبلهم إلى جعل المسلمين يتشككون في كل مظهر من مظاهر ثقافتهم الإسلامية الأصلية وأفرز لديهم ميلاً إلى رفض جذورهم، إذا بدا من الظروف المعاصرة أنّ تلك الجذور قد أصبحت دون القوى الغربية في تحقيق النجاح. وامتد هذا الإحساس بالنقص في مواجهة الحاكم الاستعماري ليشمل الأفكار والأعمال الجمالية، كما شمل الرؤية السياسية والاعتبارات الاقتصادية. ج- أما السبب الثالث الذي أدنى إلى تبني الأعمال الفنية والأفكار المتعلقة بالفن التي تقف في خندق التضاد مع الروح الإسلامية؛ فيكمن بصفة رئيسة في أنّ المسلمين لم تتح لهم فرصة كافية لاكتساب أي معرفة أو تذوق لفنونهم، فقد لا نجد أي مقررات في الفنون الإسلامية تقدم في المدارس الابتدائية أو الثانوية في بلادهم على تنوعها، كما استبعدت الجامعات والكليات كل الفنون من بين ما تقدمه من مقررات دراسية. د- ومن المؤكد أنّ المستعمرين قد أدركوا غياب التربية الفنية في المؤسسات التربوية في بلاد المسلمين، فحاولت مدارسهم التبشيرية أن تملأ ذلك الفراغ فقامت بتقديم برامج تدريبية تهدف أساساً إلى أن تغرس في نفوس الشعوب المستعمرة تقديراً لفنون أوروبا. وكانت برامج هذه المدارس نسخة مطابقة لبرامج الموسيقى والفنون التي تقدم في إنجلترا وفرنسا وأمريكا، ولم تفعل إلا اليسير لإثراء المعرفة بتراث الفن الأصيل، أو تنمية التذوق له وهكذا شكلوا – في الحقيقة – سبلاً أخرى لإنفاذ الغزو الجمالي. هـ- كما دلف الغزو الفني القادم من الغرب من باب آخر فتحته العناصر المحافظة في المجتمع الإسلامي باهمالها للفنون بل واستنكارها لها. فعندما قامت تلك القوى باعتبار كل أشكال المتعة النفسية أو الإمتاع الجمالي، أمراً منكراً أو حراماً، فإنما استبعدت بذلك دور الفنون الأصيلة وتركت فراغاً لا يملؤه إلا ما يأتي من الخارج. وبدلاً من أن تمايز تلك القوى بين ما هو مناسب وما هو غير مناسب من الفنون الإسلامية، لجأت لسوء الحظ إلى تضخيم مبدأ الجمالية فابتعدت عن التعليمات القرآنية بدلاً من أن تقترب منها وبدلاً من اتباع سنة الرسول محمد (ص) فيما ذهب إليه للحكم على أي عمل أو أداء فني طبقاً لخصائصه الداخلية، وكذلك سياق فعله؛ لجأت إلى التركيز فقط على تلك الأحاديث التي ورد فيها أنّ النبي (ص) انكر عملاً فنياً معيّناً أو أداء بعينه. فمن المؤكد أنّ سنة النبي (ص) تحوي مناسبات أقرت فيها بعض نماذج من الفنون كما حوت مناسبات انكرت فيها نماذج أخرى. وذلك لا يشير إطلاقاً إلى التناقض أو التذبذب من جانب النبي (ص) وإنما يعتبر دليلاً واضحاً على أنّ الموافقة غير المشروطة أو الإنكار المطلق للفنون كلاهما أمر غير ممكن. ألا يجدر بنا أن نكون ذوي عقول مفتوحة وقدرة على تمييز الحالات الجمالية لكافة البشر وتحديد ما تقوم به الفنون من أدواراً هامة في مجتمعاتنا، مثلما كان نبي الإسلام (ص)!!. و- هيأت حكومات الشعوب المسلمة سبيلاً آخر، جاء منه الغزو الغربي لفنوننا الإسلامية عندما فشلت في تذوق القيم الجمالية في عمارتنا الإسلامية الأصيلة، الذين غرّر بهم ناصحوهم لعدم درايتهم بالناحية الجمالية فاستأجروا مهندسين معماريين من الغرب ملئوا المدن الجديدة والمجددة في بلاد المسلمين بإنشاءات تجارية وأهلية نقلوها من باريس ولندن، ولم يغفل هؤلاء المهندسون عن الشخصية الجمالية للناس الذين سيستخدمون هذه الأبنية؛ والذين ستتأثر نفسيتهم بها فحسب، وإنما بدت هذه الابنية تتحدى كل المبادئ التي تمليها مواءمة الظروف المناخية لذات الإقليم. فالمباني تشكل مجموعات مصممة من الخرسانة خالية من عناصر التلطيف، وهي بذلك تمتص أشعة الشمس نهارا بينما تكون بطيئة التبريد ليلا. وتجاهلوا في بنائها أبراج الرياح وتوجيه منافذ المبنى من أجل الحصول على أقصى قدر من التهوية، واهملوا الأفنية المكشوفة وسط المباني، واستبدلوا بها أنظمة التكييف المركزي التي نراها في الإنشاءات الغربية المعاصرة، وعندما يحدث أي عطب تقني تجد هذه المباني غير صالحة للسكنى. ز- وهناك سبيل آخر سلكته الفنون الأجنبية في اقتحامها بلاد المسلمين، نجده في ذلك العدد الكبير من الفنانين المسلمين الذين يذهبون إلى الغرب لينالوا تدريبهم حيث لا تتوافر في العالم المسلم فرص تربوية مناسبة للمهنيين والفنانين الجماليين مؤرخي الفن – فأين يذهب ذلك الإنسان الذي يطمح أن يكون متخصصاً في العمارة الإسلامية – أين يذهب في بلاد المسلمين ليجد تدريبه بينما يعامل الفن معاملة الجسد الميت يفحصونه ويحللونه تحت المجاهر في قسم الآثار؟ وكذلك الأمر في الغرب؛ نادراً ما نجد مقررات تدريبية في العمارة الإسلامية، حيث نجد مقررات العمارة بصفة عامة تزود الطالب المسلم بقدر من الخبرة التقنية وبعض التذوق لأعمال فرانك لولويد رايت، لوكوربوزييه ولوي خان، بينما لا نجد في تلك المقررات إلا القليل من المعرفة أو التذوق للمظاهر التي حققها المعماريون المسلمون، بل وقد لا نجد أياً منها. وإذا كانت العمارة الإسلامية – في نظر القائمين بالتخطيط التربوي في بلاد المسلمين – ليست على قدر من الأهمية يسمح بتخصيص برامج تدريبية لأنصارها في المستقبل، فماذا عن الفنون الأخرى من الرسم والأشغال المعدنية والسيراميك والموسيقى؟ فتلك أصبحت من "ربائب" الثقافة التي ترعاها نتيجة تضاؤل الاهتمام بالفنون في العقود الأخيرة، وإهمال التخطيط السليم لكفاة هذه المناشط إلا في حاجات البشر المادية والآنية منها. ثالثاً: تبرير الاهتمام: ولسوف يرى كثير من المسلمين أنّ هذه الحالة المحزنة التي وصلت إليها الأمور ليست فقط في حدود المتوقع بل ربما داخل نطاق المرغوب، حيث يعتقدون بأنّ الفنون ما هي إلا أشياء وأنشطة هدفها إدخال المتعة في ساعات الفراغ وليست مظهراً هاماً من مظاهر الثقافة والحياة عند الشعوب المسلمة. وإذا ما رأينا أنّ الفنون ما هي إلا عنصر من عناصر المتعة فمن المؤكد أننا سنقر بأنها لا ترقى إلى مصاف الاهتمامات الرئيسة، خاصة في ظل الظروف التي تعيشها الشعوب المسلمة في الثمانينات؛ والتي تبعث على اليأس والقنوط. وأنّ على حكوماتنا أولا أن توجه أولويات اهتمامها إلى مجالات تنظيم الغذاء والكساء والإسكان لمواطنيها. وعندما تتوفر لديها الحلول لهذه المشكلات – هنالك فقط – يمكن أن توجه الجهود وتقدر المخصصات لفعاليات أوقات الفراغ ومناشط الإمتاع الحياتية. ولكن هل تقتصر وظيفة الفنون على تلك المظاهر السطحية من الإمتاع والتسلية؟ إنّ الإجابة حتماً ستكون واضحة: وبالنفي. فالفنون – في الواقع – تعتبر عنصراً هاماً من عناصر ثقافتنا، يستطيع أن يعبر عن أفكارنا الأساسية، وبالطبع فإن هذه الفنون لا تعبر عن هذه الأفكار بالكلمات أو العبارات أو في جمل تحويها فقرات من الكلام المنثور، فذلك أمره موكول إلى المفكرين والكتاب في ميدان الفلسفة الإسلامية وأصول الدين، ولكن الفنون تستخدم الجميل من الأشكال والخطوط والأصوات والألوان، ومن خلال هذه "المواد الخام" تقدم "ترجمة" لرسالة التوحيد ذاتها. إنّ كافة الثقافات المعروفة في تاريخ الجنس البشري قد أنتجت تراثاً فنياً يرتبط بمعتقداتها الجوهرية في العمق، وفي كثير من الوسائل التي تتسم بالوضوح والدقة. فالأساس الثقافي لأي شعب يكمن في آرائه حول عالم ما وراء الوجود المادي، أو في معتقداته حول الإله، كما يشمل هذا الأساس آراء هذا الشعب في الكون وآراءه في دور البشر في الخلق. ويشكل ذلك النسيج المعقد المنفرد من رؤية العالم ورؤية الإله – شكل – الجوهر المحدد لأي ثقافة؛ ويؤلف مساهمتها في الحضارة، وتلك هي الإجابة على تساؤلات البشر الأبدية بحثاً وراء المعرفة والفهم، وهذه الإجابات هي التي تقوم تدريجياً بتشكيل وتكوين ما تحمله هذه الثقافة من آراء سياسية، ومطامح اقتصادية وما ينشأ بها من مؤسسات اجتماعية. وبدون هذه القرارات الأساسية لا يمكن أن نضمن أي إجماع حول أي سعي جماعي أو جهد مجتمعي. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه القضايا الهامة والأساسية هي التي تدفع بالمشاركين في أي ثقافة إلى أن تكون استجاباتهم في الجانب الجمالي ذات طابع خاص والتأكيد على جوهر الثقافة، والانسجام معه، والتذكير به، وإشراب الجماهير بمسلماته يجعلنا نقر بأهمية هذه القضايا الدقيقة التي تشكل الثقافة، ونعتبرها أساسية لقيام هذه الثقافة والحفاظ على كيانها. وهذه القضايا هي فنون تلك الثقافة. ومن ثمّ فإنّ الفنون تشكل دعامات جوهرية للهوية الثقافية لأي شعب. ولعل الفنون الإسلامية أكثر تكاملاً من فنون أي ثقافة أخرى وأكثر تأثراً بجوهرها الديني من تأثر فنون أي ثقافة بنظامها الديني. ولقد ذكرنا آنفا هيمنة "التوحيد" على كل جوانب الحياة، وهو المعنى الحقيقي لكلمة "الدين". فلا يعترف المسلمون بوجود تفرقة بين ما هو ديني وما هو دنيوي. بل يمكننا القول بأنّه ليس في الإسلام ما هو دنيوي مائة بالمائة، فالدين يتشعب إلى أن يصل إلى كل زاوية من زوايا الحياة الإنسانية، ومن ثم فإنّ الأعمال الفنية الإسلامية تعتبر "قضايا" دينية وثقافة عميقة، تخضع لاستيعاب الحواس، وذلك بغض النظر عن مجال استغلالها. وغالباً ما يتم عرض القضية بطريقة تتسم بالدقة والرقة، من خلال شكل ومضمون العناصر المكونة للعمل الفني ولكن تحليلنا للفنون يكشف لنا أنّ دين الإسلام وعقيدة التوحيد فيه هي التي أعطت الفنون الإسلامية كيانها. بل إنّه من الممكن إظهار أنّ عناصر الشكل والمضمون التي يزخر بها القرآن الكريم هي تلك العناصر التي استخدمتها الشعوب المسلمة وأكدت عليها في الأعمال الأدبية الأخرى، وكذلك في الفنون التي تستخدم الصوت والصورة. وهكذا جاءت هذه الفنون – عفواً أو عمداً – متأسية بالقرآن، فهل نستطيع أن ندعي بعد ذلك أنها مجرد أداة للمتعة؟ إنها حقاً ممتعة، فكل مسلم سيجد متعته في أي شيء أو نشاط يذكره برسالة القرآن وجماله، ولكن الفنون المتضمنة في إطار الثقافة الإسلامية تعني أكثر من ذلك بكثير، فهي وسيلة لتعليم الناس رسالة التوحيد وأنّ الله واحد أحد متعال وأنّ محمداً (ص) رسوله، وأداة لنشر هذه الرسالة، ومناصرتها، والتذكير بها، والإصرار على تأكيدها. وعندما تنحسر الفنون الإسلامية فإنها تترك فراغاً سرعان ما تشغله بدائل من الفن الغريب. كما لا يخفى علينا نحن الذين نعيش هذه الحقبة من التاريخ. وهكذا تشيع الأعمال الفنية الغربية بين المسلمين وما وراءها من أفكار وعقائد غريبة والفنون الإسلامية يجمعها الهدف إلى تحقيق رسالة واحدة، وتلك الحقيقة تجعل أشكال التعبير فيها متماثلة؛ وسواء كان فن العمارة أو فن التزيين والزخرفة أو فن السيراميك وأشغال المعادن أو فن الدمسق، والسجاد، فإنّ تلك الفنون الإسلامية كلها تؤكد على محتوى مجرد تنقله بطريقة غير روائية، وتظهر صوراً مقتبسة من الطبيعة أو وفق نموذجها، مما يؤدي إلى التركيز على فن الخط، وعلى الأنماط الهندسية، والأشكال النباتية المنمذجة وفق ما في الطبيعة. وبغض النظر عن شكل التعبير الفني أو وسيلته فإنّ الفنون الإسلامية يلزمها – لتحقيق ذلك – وجود تكوينات نماذجية موحدة ذات طبيعة قياسية، تجمع فيها وحدات التصميم المختلفة بطريقة تراكمية، ففي القصة والقصيدة. وفي المزهرية والأعمال الخشبية، وفي القصر – أو تخطيط المدن الكاملة – نجد ما ما يعطلنا انطباعاً بالاستمرارية الأبدية. وكل هذه الفنون نرى فيها كافة الأنماط التي يتحدث عنها مؤرخو الفنون. كما أنّ أي عمل فني إسلامي لا يمثل تركيباً يقتصر على اهتمام واحداً يتمركز حوله ويتأثر به، وإنما نجد فيه تنظيماً تراكمياً يجمع الأجزاء المكونة له، أو النماذج الدالة عليه، فكل الأعمال التي تنشأ في مجال الفنون الإسلامية تشكل فيما بينها حلقة في سلسلة من الحلقات الكاملة بذاتها المتكاملة مع بعضها؛ كل منها ينقل رأياً واحداً ونمطاً واحداً وفكرة واحدة عن الكيان الكلي. وأي نموذج من هذه النماذج نستمتع به بمفرده أو مع واحد أو أكثر من النماذج الأخرى تشابهت معه أو تباينت. كما أن ذلك الارتباط مع باقي النماذج والتزامل معها في إحداث التذوق بجمال الكل لا يلغى ما يحدثه العمل الفني بذاته من تأثير جمالي، أو ينتقص من قدر هذا التأثير، فكل نموذج يحمل هويته الخاصة به ونسقه الذاتي في إحداث التوتر أو تخفيفه وتتسم تفاصيل العمل الفني الإسلامي بالتعقيد المتماسك فهو يشد أسماعنا وأبصارنا ويأخذ بألبابنا من خلال سلسلة متشابكة من الأحداث والحركات والخطوات والفراغات. وكل هذه السمات المميزة للفنون الإسلامية هي ذاتها التي تميز الصفات الأدبية للقرآن الكريم، ولذا فإنّه من الواضح أنّ أفضل ما ابتدعته الشعوب المسلمة من فنون قد تشكل على هدى من البناء الأدبي للقرآن، ومن الأفكار الواردة به. وعندما نستطيع – من خلال التحليل والبحث المتمعن – أي نوضح مدى تغلغل أثر القرآن باعتباره كتاباً مقدساً، وكذلك باعتباره إعجازاً أدبياً فإننا عنئذ سنكتشف أنّ الاهتمام بالفنون الإسلامية أمر يحتمه القرآن ذاته. وذلك لا يعني بالطبع أنّ كافة الفنون فن إسلامي، وأن تكون تلك هي القضية التي يجب أن تشغل بالنا وتستحوذ على اهتمامنا، فهناك أعمال فنية كبيرة أفرزتها بيئات أخرى لها طبيعتها الثقافية والدينية المخالفة، وهذه الأعمال الفنية لها رسالتها غير الإسلامية، وكذلك لها بنيتها المخالفة، كما أنّ ذلك لا يقتضي بالضرورة أن تكون كل الفنون التي يبدعها المسلمون فناً إسلامياً فقد نجد من بين المسلمين مَن تأثروا بثقافة غربية وجاءت أعمالهم لا تعبر عن الرسالة الإسلامية، وفي الوقت ذاته قد نجد من بين غير المسلمين من طعموا الثقافة الإسلامية وشاركوا فيها حتى أنهم صاروا مبدعين للفن الإسلامي متذوقين له مع جيرانهم المسلمين، وتتجلى هيمنة المعيار القرآني لدى الناس من كل عرق وجنس وفي كل زمان ومكان. ويجب أن ندرك أنّ أي غزو في مجال الفنون – سواء كان ذلك في مجال الآداب أو الموسيقى أو العمارة أو الفنون المرئية – يحمل معه تغلغلاً عقدياً، ومن ثم فإنّ إيجاد جمهور متيقظ للفنون الإسلامية وعلى دراية بها أصبح أمراً ضرورياً؛ ففي غياب هذا الجمهور الواعي سيصبح الميدان مفتوحاً أمام فنانين يدسون على الناس أي رسالة زائفة موهمين إياهم أنها الحقيقة الأصلية، وبالطريقة التي يبتغونها بغض النظر عن تأثيرها على تقسية الجمهور أو رفاهيته الاجتماعية أو حضارة المجتمع، ولن يكون بإمكان أي فرد في هذا الموقف أن يتذوق ما يعرض له من فنون أو أن يحكم عليه وسنكون غافلين عما وراء بعضها من منفعة أو ما تجره الأخرى من ضرر. رابعاً: إيقاف مدى التغريب الديني والثقافي عن طريق الفنون: ويتضح أمامنا عدد من الجهود التي يمكن أن تعالج آثار العناصر المدمرة المترتبة على الغزو الجمالي القائم، وتجعلنا نتحرز من أي آثار ضارة يمكن أن تحدث من غزو مستقبلي. أ- في البداية تبرز الحاجة إلى استثارة الفخر بثقافتنا الإسلامية وبتراثها الفني حتى نواجه عقدة النقص المسيطرة التي تسود بلاد المسلمين، ويستدعي ذلك إحياء المناسبات الوطنية والعالمية، حيث تخلق المشاركة فيها لدى الناس كافة وعياً بالجوانب الجمالية في الفن الإسلامي، كما تعقد المسابقات وتقام العروض حيث توزع الجوائز على أولئك الذين قدموا أفضل الأعمال الفنية وأكثرها التزاماً بالخطوط الإسلامية. وفي الوقت ذاته نجد فيها ماذج القدوة الممتازة التي نستخدمها في التعليم في المستقبل، كما تعقد المسابقات في ترتيل القرآن لاستثارة التنافس في تجويده، وفي تحسين الخطوط، وتصميمات نقشها، وفي كتابة المقالات عن الفنون، ويجب أن تقدم الجوائز القيمة لتشجيع مشاركة الفنانين المسلمين سواء منهم المقتدرين أو المتبدئين. ب- يجب أن تضطلع وسائل الإعلام بإقامة العروض النموذجية لكافة الفنون المعنية مما ينشئ لدى الأجيال القادمة وعياً بالهوية الإسلامية، ذلك الوعي الذي يساعد الذين ينتمون إليها على الاستجابة لها وعلى مستوى الإدراك الواعي والحساس بالفنون الإسلامية. ج- يجب علينا أن نوجه أبناءنا اليوم إلى دراسة الفنون بدلاً من تركهم يمرون علينا عرضاً، وذلك إذا ما كنا نتوقع من ذواقي الفنون في المستقبل أن يكونوا صادقين في انتمائهم إلى هويتهم الإسلامية. ومن خلال هذه الدراسة يمكنهم أن يخبروا الأنواع المختلفة للفن الإسلامي وأن يمارسوها فعلاً عن طريق عمل نماذج بسيطة منها، وأن يقوموا بدراسات تحليلية تتناول الأعمال الفنية المشهورة سواء ما كان منها في الماضي أو الحاضر، وأن يكتشفوا من خلال هذه الدراسات التحليلية علاقة هذه الأعمال الفنية بالتوحيد وبالقرآن. د- يجب أن نهيئ الفرص التعليمية للمدرسين والفنانين الممارسين إذا ما أردنا لهم أن يحسنوا القيام بدورهم في مجتمع إسلامي، حيث أنّ استمرار تدريبهم في الخارج وفي بيئة غريبة لن يؤدي إلا إلى تدهور فنوننا وهويتنا الثقافية. هـ- يجب أنّ تؤلف الكتب الدراسية والمواد التعليمية الفعالة اللازمة لتدريس الفنون الإسلامية. ولا يعني ذلك مجرد ترجمة الأساليب والمواد الأوربية إلى أي من لغات العالم الإسلامي، وإنما نعني استحداث أساليب مواد تعليمية جديدة تناسب المواد الفنية التي سنقوم بتدريسها، فلن نستطيع أن نمارس الفنون الغربية الغازية، ولن نستطيع أن نستأصل مشاعر الوهن الخبيث – التي يبثونها بمكر في حياة أطفالنا لتصيب روحهم الإسلامية – إذا ما قصرنا التربية الفنية على تحفيظ بعض القصائد أو استخدام الأقلام الملونة والأوراق. إننا بحاجة إلى ابتكار تقنيات حديثة مثيرة وإلى الاستفادة من التسجيلات المرئية، وإلى أن يكون لنا ممثلون يساهمون بفعالية في كافة الملتقيات الفنية، ولا يقتصر هذا التمثيل على حفنة من الموهوبين المتخصصين بل يكون بابه مفتوحاً أمام المسلمين عامة. و- لقد أصبح توفير المنح الدراسية واجباً لتشجيع الطلبة الأذكياء على اقتحام مجال ممارسة الفنون الإسلامية وتحليلها، فقد أدى غياب الجوائز والحوافز في الماضي إلى إحجام الأفراد عن دراسة تراث الفن الإسلامي، وثبط من عزيمة الدارسين الأكفاء، فمالوا عن المشاركة في هذا المجال. ز- حيث أنّ قيام الفنون في المجتمع الإسلامي رهن بفائدتها، سواء كانت أعمالاً أو ممارسات؛ فإن على مجتمعاتنا أن تعمل على إيجاد الوسائل التي تكفل التحام الفنون بالصناعة، ونضرب مثالاً على ذلك في المشروعات الإنتاجية لصناعة القيشاني بأنواعه والأطباق والأواني الفخارية، وكذلك المنسوجات والسجاد، فهذه المشروعات يجب أن نوجه أنظار القائمين بها إلى عمل تصميماتها ورسوماتها بحيث تنمي الوعي الإسلامي الذي بدأت زهوره في التفتح لدى الناس، فإنّ ذلك يمكن أن يساهم في إحداث نهضة في الوعي الإسلامي الجمالي، وكذلك إلى زيادة الطلب على مبيعاتهم وخلق اهتمام بمنتجاتهم للصناعات المحلية. لقد جاء على العالم زمن كانت فيه بلاد المسلمين تحتل مقدمة الموردين للمنتجات؛ سواء منها ما كان للاستخدام الشخصي أو للاستخدام العام، وكانت تلك المنتجات نماذج رائعة من الفن الإسلامي. وكانت تجد من يقبل على شرائها في غير بلاد المسلمين. فقد كان إتقان صنعتها وامتياز تصميمها سفيراً لها إلى قلوب غير المسلمين، فأحبوها كما أحبها المسلمون أنفسهم، وكان الكثير من زعماء الكنيسة المسيحية يرتدون ثياباً نسجتها أيدي المسلمين، ونالت السجاجيد التي صنعها المسلمون شهرة كبيرة في أوروبا وحظيت بالتقدير هناك منذ القرن الرابع عشر، حيث نجدها مصورة في اللوحات التي رسمها الفنانون الإيطاليون في تلك الفترة، وظلت لقرن – أو قرنين – من الزمان تحتل مرتبة هامة بين البضائع التي يتبادلها التجار بين بلاد الشرق وأوروبا الغربية، وكانت صناعات دمشق من المعادن والأدوات الزجاجية – وكذلك أعمال السيراميك التي اشتهرت بها بلدان شمال أفريقيا – من بين الأشياء التي اعتز بها الأثرياء واكتنزوها في البلاد غير المسلمة والبلاد المسلمة على حد سواء، وفي الحقيقة فإنّ أغلب الأشياء التي شاع استخدامها في العالم كله ما زالت تحتفظ بالأسماء العربية التي أطلقها عليها صانعوها الأوائل من المسلمين. إنّ لدينا الكثير من البررات التي تجعلنا نأسى على ما أحدثه الغزو الجمالي – الذي تعرضنا له حديثاً – من تميع في الروح الإسلامية أوهنها. ولكن الاكتفاء بالأسى على هذا الغزو وعلى آثاره يعتبر نوعاً من المقاربة السلبية للمشكلة، وما نحتاج إليه هو رد إيجابي يتمثل في: 1- تنمية الوعي الجمالي الذي بدأت بلاد المسلمين صحوته. 2- تشجيع الإنتاج الفني على أيدي شعوبها. 3- القيام بدراسات تحليلية جديدة للأدوار المنوطة بالفنون الإسلامية وما نتوقع تحقيقه منه في المجتمع الإسلامي.   المصدر: مجلة الضياء/ العدد 8 لسنة 1998م

ارسال التعليق

Top