• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اللغة ودورها في التفسير

د. إحسان الأمين

اللغة ودورها في التفسير
◄ويراد منه معرفة معاني الكلمة: إسماً وفعلاً وحرفاً، أمّا الحروف لقلّتها تكلّم النحاة على معانيها فيؤخذ ذلك من كتبهم، وأمّا معاني الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة[1]. فباللغة يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، فعلى المفسِّر معرفة معانيها ومسميات أسمائها، فقد يكون اللفظ مشتركاً وهو يعلم أحد المعنيين، والمراد الآخر[2]. وقد يسمّى ذلك في التفسير بمعرفة غريب القرآن، وهو معرفة المدلول[3]، إلّا أنّ المراد من الغريب أخصّ من معاني الألفاظ، ولا يراد منها أنّها "غريبة" من باب نكارتها – كما هو المصطلح –، بل هي كما قال الرافعي: "في القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب، وليس المراد بغرابتها أنّها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإنّ القرآن منزّه عن هذا جميعه، وإنّما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس"[4]. وقد صنّف – في غريب القرآن –: "جماعة، منهم، أبو عبيدة كتاب (المجاز)، وأبو عمرو غلام ثعلب: (ياقوتة الصراط)، ومن أشهرها كتاب ابن عُزَيِّز – صاحب كتاب غريب القرآن – و(الغريبين) للهروي. ومن أحسنها: كتاب (المفردات) للراغب، وهو يتصيّد المعاني من السياق، لأنّ مدلولات الألفاظ خاصة. قال الشيخ عمرو بن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: قال أهل المعاني، فالمراد مصنفو الكتب في معاني القرآن، كالزّجّاج ومَن قبله... وفي كلام الواحدي، أكثر أهل المعاني، الفرّاء والزّجّاج وابن الأنباري قالوا: كذا..."[5]. وأضاف الزركشي: "ومعرفة هذا الفن ضروري، وإلّا فلا يحلّ له الإقدام على تفسير كتاب الله. قال يحيى بن نضلة المديني: سمعت مالك بن أنس، يقول: لا أوتِيَ برجلٍ يُفسِّر كتاب الله غير عالم بلغة العرب إلّا جعلته نَكالاً. وقال مجاهد: لا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلّم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب"[6]. وقال السيوطي: "وأولى ما يرجع إليه – الغريب – في ذلك، ما ثبت عن ابن عباس وأصحابه الآخرين عنه، فإنّه يستوعب تفسير غريب القرآن بالأسانيد الثابتة الصحيحة"، وقد ذكر السيوطي ما ورد منها مرتباً على السور من طريق ابن أبي طلحة خاصة، والتي قال عنها: إنّها من أصحّ الطرق عنه وعليها اعتمد البخاري في صحيحه، فراجعها في إتقانه[7]. بقي أمر: وهو أنّ من وجوه الحاجة إلى التفسير، احتمال اللفظ لمعانٍ أخرى، كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام، لذا كانت تحتاج إلى بيان غرض "الواضع" وترجيحه...، فكان لابدّ من بحث بعض الموضوعات المتعلقة باللغة، ومن أهمّها: الاشتراك، لتأثيرها المباشر في تفسير مفردات ألفاظ الآيات وبيان المراد منها.   الاشتراك: معنى الاشتراك هو "أن تكون اللفظة محتملة لمعنيين أو أكثر"[8]. ويعرِّفه الأصوليون، تعريفاً هو أدق ما يحدّ به، فهو عندهم: "اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر، دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة"[9]. ومثلوا له بعين الماء، وعين المال، وعين السحاب، فهو: "ما اتّحدت صورته واختلف معناه"، ويظهر تنوع المعنى في تنوع الاستعمال، إمّا لتغاير البيئات اللغوية، أو لتفاوت المستعملين في مدى ولوعهم بالمجاز أو إيثارهم الحقيقة، وهو موجود في سائر اللغات، وإن كثر في العربية[10]. واختلف علماء اللغة في المشترك اللفظي، فمنهم مَن أنكره كابن درستويه (ت: 347هـ) ومنه مَن قال بوجوده، كالأصمعي والخليل بن أحمد وسيبويه وابن فارس وابن قتيبة وغيرهم، فالأكثرون على أنّه ممكن الوقوع[11]. ويؤكِّد الراغب الاصفهاني دور المشترك، بل ضرورته اللغوية في استيعاب المعاني المتكاثرة، فيقول: "الأصل في الألفاظ أن تكون مختلفة بحسب اختلاف المعاني، لكن ذلك لم يكن في الإمكان، إذ كانت المعاني بلا نهاية، والألفاظ مع اختلاف تركيبها ذات نهاية، وغير المتناهي لا يحويه المتناهي، فلم يكن بد من وقوع الاشتراك"[12]. وإذ ثبت وقوع المشترك في اللغة، فكذلك يقع المشترك في القرآن الكريم، لأنّ القرآن نزل بلغة العرب وعلى عاداتهم وطرائقهم في التعبير... بل عدّ السيوطي وجود الألفاظ المشتركة في القرآن من أعظم مظاهر إعجازه: "حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى عشرين وجهاً وأكثر وأقلّ، ولا يوجد ذلك في كلام البشر"[13]. وكأنّه يشير بذلك إلى قابلية اللفظ القرآني لتحمل المزيد من الدلالة، والامتداد في المعنى، إذ "تتّسع ألفاظه للمعاني المحدثة في حالات كثيرة، ولا سيما الألفاظ المفاتيح التي تتصل بمعاني الصفات الإلهية والغيب والعلم الإلهي والموجودات الكونية التي أثبت القرآن وجودها، بل وكثير من الألفاظ الأخرى"[14].   التعامل مع المشترك في التفسير: يقرّ المفسِّرون بوجود اللفظ المشترك في القرآن، كما هو موجود في اللغة، وتعاملهم مع المشترك ينطلق من قاعدة لغوية واحدة، إلّا أنّ الاختلاف يكون في التطبيق وفي التماس الدليل على ترجيح أحد المعاني، قال ابن القشيري في مقدّمة تفسيره: "ما لا يحتمل إلّا معنىً واحداً حمل عليه. وما احتمل معنيين فصاعداً بأن وضع لأشياء متماثلة، كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق. وإن وضع لمعانٍ مختلفة، فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلّا أن يقوم الدليل. وإن استويا سواء كان الإستعمال فيهما حقيقة أم مجازاً، أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازاً كلفظ العين والقُرء واللمس، فإن تنافى الجمع بينهما فهو مجمل، فيطلب البيان من غيره. وإن لم يتنافَ، فقد مال قوم إلى الحمل على المعنيين، والوجه التوقّف فيه، لأنّه ما وضع للجميع، بل وضع لآحاد مسمّيات على البدل، وادّعاء إشعاره الجميع بعيد. نعم، يجوز أن يريد المتكلِّم به جميع المحامل ولا يستحيل ذلك تمهّلاً، وفي مثل هذا يقال: يحتمل أن يكون المراد كذا، ويحتمل أن يكون كذا"[15]. إلّا أنّنا نجد في مقابل القول بجواز إرادة تعدّد المعنى، رأياً آخر، وهو أنّ اللفظ المشترك لابدّ أن يكون له في كلّ مقام: معنىً واحد من سائر معانيه، ويختلف هذا المعنى بحسب الاستعمالات المتعددة لذلك اللفظ، ويعرف بطبيعة الحال من القرائن المعتبرة، كالقرينة اللفظية والسياقية، أو العقلية، أو الحالية[16]. وأمّا عمل المفسِّرين مع المشترك: فيتقبّل الطبري وجود معانٍ متعددة للفظ الواحد، وإن لا يطلق عليه مصطلح "المشترك" فيقول: "فإن قال قائل: فكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة على معانٍ كثيرةٍ مختلفة؟ قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معانٍ كثيرةٍ مختلفة، كقولهم للجماعة من الناس: أمة، وللحين من الزمان، أمّة، وللرجل المطيع له: أمّة، وللدين والملة: أمّة..."[17]. ولكن الطبري يرجِّح معنىً معيناً دون غيره، إذا دلّ السياق واستعمال الكلمة ذلك، ففي معنى الدين في قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة/ 4)، يقول: "والدين في هذا الموضع بتأويل: الحساب والمجازاة... وللدين معانٍ في كلام العرب، غير معنى الحساب والجزاء، سنذكرها في أماكنها إن شاء الله"[18]. وأمّا الشريف المرتضى فإنّه قد يجيز كلا المعنيين للمشترك ولا يرجِّح أحدهما، إذا كان لكلّ من المعنيين أساس لغوي وليس هناك قرينة حاسمة ترجِّح دلالة أحد المعاني، فيقول: "وليس يجب أن يستبعد حمل الكلام على بعض ما يحتمله إذا كان له شاهد من اللغة وكلام العرب، لأنّ الواجب على مَن يتعاطى تفسير غريب الكلام والشعر أن يذكر كلّ ما يحتمله إذا كان له شاهد من اللغة وكلام العرب، لأنّ الواجب على مَن يتعاطى تفسير غريب الكلام والشعر أن يذكر كلّ ما يحتمله الكلام من وجوه المعاني"[19]. ففي تفسيره قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا) (النساء/ 125)، يقول المرتضى: (الخَلّة: الحاجة، والخَلّة أيضاً: الخصلة، والخُلّة بالضّم: المودّة، والخُلّة أيضاً بالضّم: ما كان خلواً من المرعى، والخِلّة بالكسر: ما يخرج من الإنسان بالخلال). والخليل: الحبيب، من المودّة والمحبة، والخليل أيضاً: الفقير، وكلا الوجهين قد ذكر في قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا)[20]. ويؤكِّد الطبرسي المفسِّر على عدم ترجيح وجه من وجوه معاني اللفظ المشترك إلّا بدليل قوي، من سنّة أو إجماع ويحتمل إرادة كل معنىً من معاني المشترك لوجه من الوجوه، فيقول: "... وإن كان اللفظ مشتركاً بين معنيين أو أكثر ويمكن أن يكون كل واحد من ذلك مراداً، فلا ينبغي أن يقدم عليه بجسارة فيقال إنّ المراد به كذا قطعاً إلّا بقول نبي أو إمام مقطوع على صدقه، بل يجوز أن يكون كلّ واحد مراداً على التفصيل ولا يقطع عليه، ولا يقلّد أحد من المفسِّرين فيه إلا أن يكون التأويل مجمعاً عليه فيجب اتباعه لانعقاد الإجتماع عليه، فهذه الجملة التي لخصتها، أصل يجب أن يرجع إليه ويعوّل عليه ويعتبر به وجود التفسير، وما اختلف فيه العلماء من نزول القرآن والمعاني والأحكام[21].   مثال تطبيقي: ومن الأمثلة التي تبيِّن أثر الاشتراك وترجيح أحد احتمالاته في التفسير، اختلاف المفسِّرين في تفسير قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ...) (البقرة/ 228). والاختلاف إنّما ينشأ من معنى القُرء: هل المراد به هنا الحيض، أو الطُهر منه، إذ: "إنّ القُرء موضوع للحيض والطهر"[22]. ومن هنا اختلف المفسِّرون من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، اختلافاً كبيراً، فقال بعضهم، هو الحيض، وهو المروي عن جملة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عباس وابن مسعود وعمر... ومجاهد وقتادة وغيرهم. وقال آخرون: المراد بالقُرء في الآية هو الطُهر. وبه قال آخرون، منهم: عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت[23]. وأثر الرأيين يظهر في وقت انقضاء العدّة التي تَبِيْنُ فيها الزوجة ويحقّ لها الزواج بعدها وينتهي بها حقّ الزوج في الرجوع إليها (الرجعة). فعلى الرأي الأوّل، فإنّ الزوجة يجب عليها الانتظار حتى ينتهي حيضها الثالث بعد الطلاق، ولا يحقّ لها الزواج قبل ذلك، ويحقّ للزوج الرجوع إليها وإلغاء طلاقه، ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. وعلى الرأي الثاني، فإنّ الزوجة تنتهي عدّتها بانتهاء الطهر الثالث، ومع أوّل الحيض الثالث – لا آخره – فيسقط عنده حقّ الزوج في الرجوع إليها، ويحقّ لها عند ذلك الزواج بغيره. قال الطبري: "والقُرء في كلام العرب: جمعه قروء، وقد تجمعه العرب: أقراء، يقال: في أفعل منه: أقرأت المرأة: إذا صارت ذات حيض وطهر، فهي تقرئ إقراء. وأصل القُرء في كلام العرب: الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، ولذلك قالت العرب: أقرأت حاجة فلان عندي، بمعنى: دنا قضاؤها وجاء وقت قضائها، وأقرأ النجم: إذا جاء وقت أفوله، وأقرأ: إذا جاء وقت طلوعه... ولذلك سمّى العرب: وقت مجيء الحيض قُرءاً إذا كان وقتاً يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت، وكمونه في وقت آخر، فسُمِّي وقت مجيئه قُرءاً، كما سمى الذين سمّوا وقت مجيء الريح لوقتها قرءأً، ولذلك قال (ص) لفاطمة بنت أبي حبيش: "دعي الصلاة أيام أقرائكِ" بمعنى: دعي الصلاة أيام حيضكِ. وسمّى آخرون من العرب "وقت مجيء الطهر قُرءاً، إذ كان وقتاً لإدبار الدم، دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئه لوقت معلوم...". قال: "ولِما وصفنا من معنى القُرء أشكل تأويل قول الله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)، على أهل التأويل...". ثمّ إنّ الطبري لم يحسم الخلاف في معنى القرء، بل تقبّل أنّه يطلق على كليهما، ولكنّه مع ذلك رجّح القول بأنّ انقضاء عدّة الزوجة، انقضاء الطهر الثالث، "وأنّ بانقضائه ومجيء قُرء الحيض الذي يتلوه انقضاء عدّتها"[24]. فلم يحسم الموضوع لغوياً، بل إنّه استند إلى دليل الإجتماع، قال: "فالأقراء التي هي أقراء الحيض بين طهري أقراء الطهر، غير محتسبة من أقراء المتربّصة بنفسها بعد الطلاق، لإجماع الجميع من أهل الإسلام أنّ الأقراء التي أوجب عليها وتربّصهن ثلاثة قروء، بين كلّ قرء منهنّ أوقات مخالفات المعنى لأقرائها التي تربّصهنّ، وإذ كنّ مستحقّات عندنا إسم أقراء، فإنّ ذلك من إجماع الجمع لم يجز لها التربّص إلّا على ما وصفنا قبلُ"[25]. ومن الواضح أنّه أقرّ اسم القُرء لكلا الوقتين، وقت الحيض ووقت الطهر، ولم يحسم الأمر، ولم يرجِّح بينهما، وجاء بدليل من خارج الآية... وهو رأي مختلف عن غيره، إذ لم يقل أحد ممّن روي عنهم، أن كلّاً منهما قُرء، وأنّ الثلاثة لا يحسب فيها القُرء الآخر... بل ذهب كلّ فريق إلى رأيه، فقال أحدهما: الحيض قُرء، ولا يحتسب الطهر، وقال الآخر: الطهر قُرء ولا يحتسب الحيض. أمّا الطبرسي المفسِّر فإنّه يرجع القُرء إلى أصلين: الأوّل: بمعنى الاجتماع، ومنه قرأت القرآن، لاجتماع حروفه، وما قرأت الناقة سلّا قطّ، أي لم يجتمع رحمها علو ولد قطّ، قال عمرو بن كلثوم ذِراعَيْ عَيطيلٍ أدماء بِكرٍ *** هجان اللّون لم تُقرأ جَنينا فعلى هذا يقال: أقرأت المرأة فهي مقرئ، إذا حاضت، وأنشد: له قروء كقروء الحائض وذلك لاجتماع الدم في الرحم، ويجيء على هذا أن يكون القُرء، الطُهر، لاجتماع الدم في جملة البدن. والوجه الثاني: أنّ أصل القُرء، الوقت الجاري في الفعل على عادة، ويصلح للحيض والطهر، يقال: هذا قارئ الرياح، أي وقت هبوبها..."[26]. ولكنّه لم يتوقّف عند هذا الحدّ، بل رجّح القول الثاني، بأنّ القُرء هو الطُهر، بالدليل اللغوي، لا بدليل من خارج حوزة اللغة، فقال: "والذي يدلّ على أنّ القرء، الطهر، قول الأعشى: وفي كلّ عام أنتَ جاشمُ غزوةٍ *** تشدُّ لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالاً وفي الأرض رِفعةً *** لِما ضاع فيها من قروء نِسائكا فالذي ضاع هاهنا الأطهار لا الحيض"[27]. إلّا أنّه عاد في باب المعنى، فأكّد رأيه بالأخبار، وبيان حجة كلّ قائل... بما يدلّ على أنّ شبهة الاشتراك في اللفظ لها وجه. وللراغب الأصفهاني تحليل آخر لوجه التداخل في معنى القُرء، فهو يعتبر القُرء اسماً جامعاً للأمرين: الطهر والحيض المتعقّب له، إذ القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولذا أطلق على كل واحد منهما، لأنّ كل اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان وللطعام، ثمّ قد يسمّى كلّ واحد منهما بانفراده به. ثمّ إنّه ينفي أن يكون القُرء اسماً مشتركاً لكلّ منهما منفرداً، فيقول: وليس القرء اسماً للطهر مجرداً، ولا للحيض مجرداً، بدلالة أنّ الطاهر التي لم ترَ أثر الدم لا يقال لها ذات قُرء، وكذا الحائض التي استمرّ بها الدم، والنفساء لا يقال لها ذلك". وينتهي إلى تفسير الآية، فيقول: "وقوله: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي ثلاثة دخول من الطهر في الحيض، وقوله (ص): (اُقعدي أيّام أقرائكِ) أي أيام حيضكِ، فإنّما هو كقول القائل: افعل كذا أيام ورود فلان، ووروده إنّما يكون في ساعة وإن كان ينسب إلى الأيام. وقول أهل اللغة: إنّ القُرء من قرأ أي جمع، فإنّهم اعتبروا الجمع بين زمن الطهر وزمن الحيض حسبما ذكرت لاجتماع الدم في الرحم"[28]. والملاحظ ممّا ذكرنا من أقوال المفسِّرين أنّهم لم يستطيعوا حسم الموضوع لغوياً، وبشكل قاطع يمكن الركون إليه، وغالباً ما كان مدّ نظرهم الدليل من خارج اللغة، كالروايات وغيرها، وهم وإن اجتمعوا في آخر الرأي: أنّ نهاية القروء الثلاثة، هي نهاية الطهر الثالث وبداية الحيض الثالث، إلّا أنّ توجيه الدليل كان مختلفاً عند بعضهم البعض، فادّعى الطبري الإجماع، ولم يكن إجماع، واستند الطبرسي إلى ترجيح لغوي غير حاسم، ولكنّه عاد فاستند إلى الروايات، وتمسّك الاصفهاني باللغة، إلّا أنّه عاد واختلف عن أهل اللغة في معنى القُرء، والمحصّل الذي تطمئن إليه النفس في موضوع الإشتراك، هو ما قاله الطبرسي في مقدّمة تفسيره من أنّ اللفظ إذا كان مشتركاً بين معنيين أو أكثر ويمكن أن يكون كل واحد من ذلك مراداً: "فلا ينبغي أن يقدم عليه بجسارة، فيقال إنّ المراد به كذا قطعاً إلّا بقول نبي أو إمام مقطوع على صدقه، بل يجوز أن يكون كل واحد مراداً على التفصيل، ولا يقطع عليه ولا يقلِّد أحد من المفسِّرين فيه إلا أن يكون التأويل مجمعاً عليه، فيجب اتباعه لانعقاد الإجماع عليه"[29].

 

 الهوامش:


[1]- الزركشي، البرهان، ج1، ص291. [2]- السيوطي، الإتقان، ج2، ص1209، 1213. [3]- الزركشي، البرهان، ص291. [4]- مصطفى صادق، الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ط9، بيروت، دار الكتاب العربي، 1393هـ - 1973م، ص71. [5]- الزركشي، البرهان، ج1، ص291. [6]- المصدر نفسه، ج1، ص291. [7]- المصدر نفسه، ج2، ص1192. [8]- ابن فارس، الصاحبي، 456. [9]- السيوطي، المزهر، ج1، ص369. [10]- اُنظر: صبحي الصالح، فقه اللغة، ص302. [11]- السيوطي، المزهر، ج1، ص369. [12]- الراغب، مقدمة جامع التفاسير، ص29. [13]- جلال الدين، السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، ج1، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1408هـ - 1988م، ص387. [14]- د. حامد كاظم، عباس، الدلالة القرآنية عند الشريف المرتضى، ط1، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 2004م، ص188، عن: نظرة جديدة في دلالة الكلمة القرآنية، د. عبدالصبور شاهين، ص66. [15]- الزركشي، البرهان، ج2، ص208. [16]- د. گاصد ياسر، الزيدي، فقه اللغة العربية، ط1، الموصل – العراق، جامعة الموصل، 1987م، ص143. [17]- الطبري، المصدر السابق، ج1، ص221. [18]- المصدر نفسه، ج1، ص155. [19]- علي بن الطاهر، الشريف المرتضى، أمالي السيِّد المرتضى، ج1، ط1، قم، مكتبة المرعشي النجفي، 1403هـ، ص19. [20]- المصدر نفسه، ج2، ص185. اُنظر: د. حامد كاظم عباس، المصدر السابق، ص190. [21]- الطبرسي، المصدر السابق، ج1، ص15. [22]- السيوطي، الإتقان، ج2، ص693. [23]- الطبري، المصدر السابق، ج2، ص546. [24]- المصدر نفسه، ص547. [25]- المصدر نفسه. [26]- الطبرسي، المصدر السابق، ج2، ص76. [27]- المصدر نفسه، ص77. [28]- أبو القاسم الراغب، الاصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ط1، بيروت، دار المعرفة، 1418هـ، 1998م، ص400، مادة قرأ.

[29]- الطبرسي، المصدر السابق، ج1، ص15.

       المصدر: كتاب منهج النقد في التفسير

ارسال التعليق

Top