• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المرأة بنتاً

د. يوسف القرضاوي

المرأة بنتاً

كان العرب في الجاهلية يتشاءمون بميلاد البنات، ويضيقون به، حتى قال أحد الأباء ـ وقد بُشِّر بأن زوجه ولدت أُنثى : "والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة"!
يريد أنها لا تستطيع أن تنصر أباها وأهلها إلا بالصراخ والبكاء لا بالقتال والسلاح، ولا أن تبرهم إلا بأن تأخذ من مال زوجها لأهلها.
وكانت التقاليد المتوارثة عندهم تبيح للأب أن يئد ابنته ـ يدفنها حية ـ من أجل فقر واقع، أو خشية من فقر قد يقع، أو من عار قد تجلبه ـ حين تكبر ـ على قومها.
وفي ذلك يقول القرآن منكراً عليهم ومقرعاً لهم: (وَإِذَا المَوْءُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)(التكوير/ 8-9).
ويصف حال الآباء عند ولادة البنات: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدهمُ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْههُ مُسوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمونَ)(النحل/ 58-59).
وكانت بعض الشرائع القديمة تعطي الأب الحق في بيع ابنته إذا شاء، وبعضها الآخر ـ كشريعة حمورابي ـ تجيز له أن يسلمها إلى رجل آخر ليقتلها أو يملكها إذا قتل الأب ابنة الرجل الآخر.
جاء الإسلام فاعتبر البنت ـ كالابن ـ هبة من الله ونعمة ـ يهبها لمن يشاء من عباده: (يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكوُرَ أَو يُزوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(الشورى/ 49-50).
وبين القرآن في قَصصه أنّ بعض البنات قد تكون أعظم أثراً وأخلد ذكراً، من كثير من الأبناء الذكور، كما في قصة مريم ابنة عمران التي اصطفاها الله وطهرّها واصطفاها على نساء العالمين، وقد كانت أُمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً يخدم الهيكل، ويكون من الصالحين: (إِذْ قَالتِ امْرأتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرتُ لَكَ مَا بَطْنِي مُحرَّراً فَتَقبَّلْ مِنَّى إِنَّكَ أَنتَ السَّميعُ العَليمُ فَلمَّا وَضَعتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعتُهَا أُنثَى واللهُ أَعْلمُ بِمَا وَضَعتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فَتَقبَّلهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ...)(آل عمران/ 35-36).
وحمل القرآن ـ حملة شعواء ـ على أولئك القساة الذين يقتلون أولادهم ـ إناثاً كانوا أو ذكوراً ـ فقال تعالى: (قَدْ خَسرَ الَّذينَ قَتَلُوا أَوْلاَدهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام/ 140)، وقال: (وَلاَ تَقْتُلوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحنُ نَرزُقُهمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً)(الإسراء/ 31).
وجعل رسول الإسلام الجنَّة جزاء كل أب يحسن صحبة بناته، ويصبر على تربيتهن وحُسْن تأديبهن، ورعاية حق الله فيهن، حتى يبغلن أو يموت عنهن، وجعل منزلته بجواره (ص) في دار النعيم المقيم.
روى مسلم عن أنس عنه (ص) أنه قال: "مَن عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو.. .. وضم أصابعه"، ورواه الترمذي بلفظ: "من عال جاريتين دخلتُ أنا وهو الجنَّة كهاتين ..."، وأشار بإصبعه السبابة والتي تليها.
وروى ابن عباس عنه (ص) أنه قال: "ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه ـ أو صحبهما ـ إلا أدخلتاه الجنَّة".
ونصَّت بعض الأحاديث على أن هذا الجزاء ـ دخول الجنَّة ـ للأخ الذي يعول أخواته أو أُختيه أيضاً.
كما نص بعض آخر على أن هذه المكافآت الإلهية، لمن أحسن إلى جنس البنات ولو كانت واحدة.
وروى ابن عباس مرفوعاً: "مَن كانت له أُنثى فلم يئدها ولم يهنها، ولو يؤثر وُلده ـ يعني الذكور ـ عليها، أدخله الله الجنَّة".
وفي حديث عائشة الذي رواه الشيخان أنَّ رسول الله (ص) قال: "مَن ابتُلِيَ من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهنَّ، كُنَّ له سِتراً من النار".
وبهذه النصوص الصحيحة الصريحة، والبشارات المكررة المؤكدة، لم تعد ولادة البنت عبئاً يُخاف منه، ولا طالع نحس يُتطير به، بل نعمة تُشكر، ورحمة تُرجى وتُطلب، لما وراءها من فضل الله تعالى، وجزيل مثوبته.
وبهذا أبطل الإسلام عادة الوأد إلى الأبد، وأصبح للبنت في قلب أبيها مكان عميق، يتمثل في قول النبي (ص)في ابنته فاطمة: "فاطمة بِضْعة مني، فمن أغضبها أغضبني"، "فاطمة بِضْعة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها"، "إنما ابنتي بِضْعة مني، يُريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها".
ونلمس أثر ذلك في الأدب الإسلامي في مثل قول الشاعر:
لولا بنيَّات كزُغْب القطا رُددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبَّت الريح على بعضهم امتنعت عيني عن الغمض
وأما سُلْطان الأب على ابنته فلا يتجاوز حدود التأديب والرعاية والتهذيب التديني والخُلُقي، شأنها شأن إخوانها الذكور، فيأمرها بالصلاة إذا بلغت سبع سنين، ويضربها عليها إذا بلغت عشراً، ويفرِّق حينئذ بينها وبين اخوتها في المضجع، ويلزمها أدب الإسلام في اللِّباس والزينة والخروج والكلام. ونفقته عليها واجبة ديناً وقضاءً حتى تتزوج.
وليس له سُلْطة بيعها أو تمليكها لرجل آخر بحال من الأحوال، فقد أبطل الإسلام بيع الحر ـ ذَكراً كان أو أنثى ـ بكل وجه من الوجوه.
ولو أنَّ رجلاً حراً اشترى أو مَلَكَ ابنة له كانت رقيقة عند غيره، فإنها تُعتق عليه بمجرد تملكها، شاء أم أبى، بحكم قانون الإسلام.
وإذا كانت للبنت مال خاص بها، فليس للأب إلا حُسْن القيام بالمعروف... ولا يجوز له أن يزوِّجها لرجل آخر، على أن يزوِّجه الآخر ابنته، على طريقة التبادل، وهو المسمى في الفقه ب‍ "نكاح الشغار" وذلك لخلو الزواج من المهر الذي هو حق البنت لا حق أبيها.
وليس للأب حق تزويج ابنته البالغة ممن تكرهه ولا ترضاه، وعليه أن يأخذ رأيها فيمن تتزوجه: أتقبله أم ترفضه، فإذا كانت ثيِّباً فلابد أن تعلن موافقتها بصريح العبارة، وإن كانت بِكراً يغلبها حياء العذراء اكتفى بسكوتها، فالسكوت علامة الرضاء، فإن قالت: لا.. فليس له سُلْطة إجبارها على الزواج بمن لا تريد.
ورويا أيضاً عن عائشة قالت: يا رسول الله؛ يُستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: "نعم"، قلت: إنّ البكر تُستأمر فتستحي فتسكت! قال: "سكاتها إذنها"، ولهذا قال العلماء: ينبغي إعلام البِكر بأنَّ سكوتها إذن.
وعن خنساء بنت خدام الأنصارية: "أن أباها زوَّجها وهي ثيِّب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّد نكاحها".
وعن ابن عباس: أن جارية بِكراً أتت رسول الله (ص) فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي (ص).
وفي هذا دليل على أن الأب لا يتميز عن غيره في وجوب استئذان البِكر، وضرورة الحصول على موافقتها. وفي صحيح مسلم وغيره: "والبكر يستأمرها أبوها" أي يطلب أمرها وإذنها.
وعن عائشة: أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إنَّ أبي زوَّجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة. قالت: اجلسي حتى يأتي النبي (ص)، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه فجعل الأمر إليها. فقالت: يا رسول الله؛ قد أجرتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن أعلم: أللنساء من الأمر شيء"؟.
وظاهر الأحاديث يدل على أن استئذان البِكر والثِّيب شرط في صحة العقد، فإن زوَّج الأب أو الوليُ الثِّيب بغير إذنها فالعقد باطل مردود، كما في قصة خنساء بنت خدام.. وفي البِكر: هي صاحبة الخيار إن شاءت أجازت، وإن شاءت أبت، فيبطل العقد كما في قصة الجارية.
ومن جميل ما جاء به الإسلام: أنه أمر باستشارة الأُم في زواج ابنتها، حتى يتم الزواج برضا الأطراف المعنية كلها. فعن ابن عمر أن النبي (ص): "آمروا النساء في بناتهن".
ولأبي سليمان الخطابي هنا كلمات قَيِّمة في توجيه هذا الحديث في كتابه "معالم السنن" يحسن بنا أن ننقلها هنا لما فيها من حكمة وعبرة: يقول رحمه الله:
"مؤامرة الأُمهات في بُضْع البنات ليس من أجل أنهن يملكن من عقد النكاح شيئاً. ولكن من جهة استطابة أنفسهن، وحُسْن العِشرة معهن، ولأن ذلك أبقى للصحبة، وأدعى إلى الأُلفة بين البنات وأزواجهن، إذا كان مبدأ العقد برضاء من الأمهات، ورغبة منهن، وإذا كان بخلاف ذلك لم يؤمن تَضْرِيَتُهن أي: (تحريضهن على أزواجهن)، ووقوع الفساد من قِبَلهن، والبنات إلى الأُمهات أميل، ولقولهن أقبل، فمن أجل هذه الأُمور يُستحب مؤامرتهن في العقد على بناتهن، والله أعلم.
قال: "وقد يحتمل أن يكون ذلك لِعلَّة أُخرى، غير ما ذكرناه، وذلك أن المرأة ربما علمت من خاص أمر ابنتها، ومن سِرِّ حديثها أمراً لا يستصلح لها معه عقد النكاح، وذلك مثل العِلَّة تكون بها، والآفة تمنع من إيفاء حقوق النكاح. وعلى نحو هذا يتأول قوله: "ولا تُزوَّج البِكر إلا بإذنها وإذنها سكوتها"، وذلك أنها قد تستحي من أن تُفصح بالإذن، وأن تُظهر الرغبة في النكاح، فيستدل بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجِماع، أو سبب لا يصلح معه النكاح لا يعلمه غيرها. والله أعلم" أ. ه‍.
ونزيد هنا أن الأُم قد تعلم من أسرار ابنتها أنَّ قلبها مع شخص آخر، فإذا تقدَّم لها هذا الشخص وكان كُفئاً، فهو أَولى بالتقديم والترجيح، كما جاء في الحديث: "لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح".
وإذا كان الأب لا يحق له تزويج ابنته ممن لا ترضاه، كان من حقه عليها ألا تُزوِّج نفسها إلا بإذنه لحديث أبي موسى مرفوعاً: "لا نكاح إلا بولي"، ولحديث عائشة مرفوعاً: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ... ثلاث مرات".


المصدر: (مركز المرأة في الحياة الإسلامية )

ارسال التعليق

Top