• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تحديث البنية الثقافية كمدخل للتنمية

د‏.‏ أحمد زايد

تحديث البنية الثقافية كمدخل للتنمية

1- تحديث الثقافة كضرورة تنموية‏:‏

تتعدد المداخل التنموية بين مداخل اقتصادية وسياسية‏،‏ واجتماعية وثقافية‏.‏ وتعكس خبرة التنمية في العالم صوراً من التجريب لبعض هذه المداخل خاصّة المدخل الاقتصادي الذي يعتمد على فكرة أنّ التنمية تتحقق عبر النمو الاقتصادي المطرد‏،‏ والمدخل السياسي الذي يعتمد على سيطرة حزب سياسي واحد يقوم بعمليات تعبئة سياسية للجماهير حول فكرة قومية أو اشتراكية أو شعبوية‏.‏ ولقد انتشرت صور من هذه النماذج في التنمية عبر عدد كبير من مجتمعات العالم النامي فيما بعد الحرب العالمية الثانية‏.‏ فبعد أن حصلت هذه الدول على استقلالها من القوى الاستعمارية بدأت في تطبيق نماذج لتحديث المجتمع وتنميته‏.‏ وكانت النماذج الرأسمالية السائدة في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية‏،‏ والنماذج الاشتراكية التي كانت سائدة في دول أوروبا الشرقية والصين‏،‏ كانت هذه النماذج أنماطاً مثالية بدأت الدول الناشئة في تقليدها أو استعارتها‏،‏ أو تطوير نماذج مختلطة من هنا وهناك‏،‏ أو تطوير نماذج تأخذ في اعتبارها الخصوصية المحلية للمجتمعات في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية‏.‏

واستمرت هذه التجارب التنموية في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات‏،‏ على اختلاف عمقها الزمني واختلاف منظوراتها الأيديولوجية‏،‏ رافعة شعارات التنمية والتحديث الاقتصادي والسياسي والثقافي‏.‏ وقادت النُّخب السياسية التي ورثت الاستعمار في المجتمعات النامية هذه التجارب التنموية‏.‏ وتكوّنت هذه النُّخب في معظم الحالات من عسكريين متحالفين مع فئات من الرأسماليين أو كبار ملاك الأرض أو التكنوقراط‏.‏ وسيطر العسكريون على الحكم في أغلب الأحوال عن طريق انقلابات عسكرية في ظروف الفوضي وعدم الاستقرار التي أعقبت انسحاب الاستعمار‏،‏ أو عن طريق ادّعاءات بمكانة متميزة من خلال الدور الذي قاموا به في مكافحة الاستعمار‏.‏ لقد عملت هذه النُّخب على تأسيس دول قومية ‏Nation-States‏ جسّدت الوعاء القانوني والدستوري لعمليات التحديث والتنمية‏.‏ وتغطي الدول القومية التي تأسست عبر عمليات التحديث هذه مساحة كبيرة من خريطة العالم في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية‏.‏

وتقف الدول التي خاضت هذه التجارب الآن أمام تجاربها تتأمّلها وتراجع مظاهر فشلها ونجاحها‏.‏ وتشير معظم التقويمات إلى أنّ مظاهر الفشل كانت أكبر بكثير من مظاهر النجاح‏،‏ وأنّ الحلم بالتحديث والتنمية لم يتحقق في الواقع على النحو الذي كان متوقعاً. ولكن الحلم لم يخبو تماماً‏،‏ فقد بات الحلم يتجدد على نحو آخر بمراجعة ما تم إنجازه في الماضي وحساب المكاسب والخسائر‏،‏ والبحث عن أساليب جديدة ونماذج جديدة تضاف إلى نماذج النمو الاقتصادي أو تراجعه على نحو أو آخر‏.‏ ولقد أنجزت بعض الدول عمليات التأمّل والمراجعة بسرعة أكبر‏،‏ واستطاعت عبر فترة قصيرة من الزمن أن ترتاد آفاقاً جديدة في مضمار التنمية ‏(‏أفكر في هذا السياق في الدول التي أطلق عليها النمور الآسيوية مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وإلى حد ما أندونسيا والفلبين‏).‏

وعند مفترق الطرق هذه برزت الثقافة كضرورة تنموية‏.‏ وبرز المدخل الثقافي في مكان الصدارة‏،‏ عبر تأكيدات من المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة اليونسكو التي دافعت منذ صدور وثيقتها عن‏ "التنوع الثقافي الخلّاق"‏ سنة ‏1997م‏ عن قضية عدم جواز الطلاق بين الثقافة والتنمية‏.‏ فالتنمية لا تتأسس عبر إنشاء المصانع والسدود والمنازل وإنتاج الطعام فحسب‏.‏ فكلّ هذه منجزات ضرورية‏،‏ والنمو الاقتصادي المترتب على إنتاجها ضروري هو الآخر‏،‏ ولكن أشد ضرورة من ذلك الثقافة التي من خلالها يتوفّر للمواطنين وجود روحي وأخلاقي وعقلي ووجداني متميز‏.‏ ومن هنا ظهرت الحاجة ماسة إلى تعريفات جديدة للتنمية الشاملة‏،‏ تتأسس على فهم للتنمية يستهدف تغيير عالم الإنسان ووجوده‏،‏ وإزالة العقبات التي تعترض نهوض هذا الوجود وقيامه في وجه التخلّف‏.‏

‏2-‏ تحديث البنية الثقافية‏..‏ مفهوم جديد للتنمية‏:‏

ولما كانت هناك حاجة ماسة إلى تعريفات جديدة للتنمية‏،‏ برزت الثقافة التي أهملت لعقود مضت وطفق الباحثون والقائمون على شؤون التنمية في العالم يطرحون مداخل جديدة للتنمية كان المدخل الثقافي هو أكثرها بروزاً‏،‏ وكان المدخل الثاني مدخل التنمية المستدامة‏ (‏الذي تقاطع مع مدخل التنمية البشرية‏)‏ وهو لا ينكر أهمية الثقافة كعنصر فاعل في التنمية‏.‏

ويسعي المدخل الثقافي للتنمية نحو تحقيق التكامل في عمليات التنمية عبر تحديث البنية الفكرية‏،‏ وتخليصها من براثن الخرافة والتقولب والتطرّف‏،‏ وتغيير الأُطر الثقافية الجامدة‏،‏ واستبدال أساليب التفاعل والقيم السلبية‏،‏ بأساليب التفاعل والقيم الإيجابية‏،‏ وحشد الدافعية والهمة نحو تحقيق أهداف عامّة‏،‏ ونحو صعود جمعي‏.‏ يوفر لعملية تحديث البنية الثقافية الظروف التي تساعد الجماعات والمجتمعات على أن تكون قادرة على أن تنظر في ثقافاتها‏،‏ وأن تعيد اكتشاف هذه الثقافة وأن تذلل ما فيها من عقبات أمام عملية التنمية بنفس القدر الذي تستغل إمكانات هذه الثقافة لتحقيق الاندفاع إلى الأمام بقوّة والعمل على تنمية الإنسان‏ (‏أداة التنمية وهدفها الأوّل‏)‏ بحيث يمتلك من القدرات ما يجعله قادراً على تغيير محيطه الاجتماعي وظروفه الاقتصادية نحو الأفضل‏.‏

ولم تشغل قضية الاهتمام بالثقافة كمدخل للتنمية الشاملة الدول والحكومات‏،‏ ولكنّها طرحت على المستوي العالمي بقوّة من خلال سلسلة من المؤتمرات الدولية التي بدأت بالمؤتمر الدولي حول السياسات الثقافية والذي عقد بالمكسيك عام ‏1982م،‏ وتحديد عقد عالمي للثقافة بدأ في عام‏ 1988م‏ وانتهي عام‏ 1997م،‏ والمؤتمر العالمي للسياسات الثقافية من أجل التنمية والذي عقد في استوكهلم عام‏ 1998م‏ بهدف لفت الانتباه إلى أهمية الثقافة كجزء متكامل من إستراتيجيات التنمية على المستوي الدولي والقومي‏،‏ وأخيراً مؤتمر جوهانسبرج عام‏ 2002م‏ والذي إن كان قد خصص جلّ اهتمامه لمفهوم التنمية المستدامة‏،‏ إلّا أّنه لفت الانتباه أيضاً إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة من استدامة التنمية وتحقيق التوازن المنشود بين الإنسان والبيئة‏.‏ ولعلّ العمل على إصدار التقرير الثقافي العالمي (World Culture Report) اليونسكو يكون قد أسهم في تأسيس خطاب ثقافي عالمي لأهمية المدخل الثقافي في التنمية‏.‏ وقد صدر من هذا التقرير تقريران‏:‏

الأوّل‏:‏ عام ‏1998م‏ بعنوان‏ "الثقافة والإبداع والأسواق‏" واشتمل على تقارير فرعية حول الثقافة والنمو الاقتصادي‏،‏ والعمليات السوسيوثقافية على المستوي الكوني‏،‏ والإبداع والسياسات الثقافية‏،‏ والرأي العام وأخلاقيات العولمة‏،‏ هذا فضلاً عن تقديم إسهام في بناء مؤشرات ثقافية يمكن من خلالها قياس إسهام الثقافة في تحسين الوجود الإنساني‏،‏ وهي مؤشرات تدور حول الحرّية‏،‏ والتمييز‏،‏ وحقوق الأقليات‏،‏ وحرّية التعبير اللغوي‏،‏ وحرّية السفر‏،‏ وحرّية العبادة‏،‏ والتسامح الثقافي‏،‏ والتعليم الثقافي‏،‏ والمشاركة الثقافية‏،‏ والجوائز الثقافية‏،‏ والمعارض‏،‏ والموسيقى‏،‏ والفنون‏،‏ والصناعات الثقافية‏،‏ وحقوق التأليف والنشر‏،‏ والرقابة على الثقافة‏،‏ والإنفاق العام والخاص على الثقافة وغير ذلك من المؤشرات‏.‏

وأمّا الثاني، فقد صدر عام‏ 2000م‏ وحمل عنوان‏ "التنوّع الثقافي والصراع والتعددية" وضمّ تقارير فرعية حول العدالة الثقافية‏،‏ والتنوّع الثقافي‏،‏ والثقافة والفقر‏،‏ والعلاقة بين التعددية الثقافية والمواطنة في ظروف التحوّلات العالمية والهجرة الدولية‏،‏ وإستراتيجيات التعامل مع الإرث الثقافي في زمن العولمة‏،‏ وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات‏،‏ وتغير النظرة إلى مفهومات التسامح والتنوّع والسعادة‏،‏ هذا بجانب إحصاءات المؤشرات الثقافية المختلفة والدالة على مستوي التنمية الثقافية المتحققة‏.‏ وطرح هذا التقرير فكرة مهمّة حول مفهوم الدولة التي تستثمر في المجال الاجتماعي والثقافي بديلاً عن مفهوم الدولة التي تطبّق أساليب للرقابة والضبط وتترك الثقافة لاعتبارات السوق‏.‏ فالاستثمار في المجال الاجتماعي والثقافي يعود بفوائد جمة على التنمية على المستوي البعيد وذلك لأنّه يتجه إلى بناء البشر‏،‏ وتنمية قدراتهم على المبادأة والنقد‏،‏ وإكسابهم القدرات التي تمكنهم من "قيام حقيقي".‏ فإذا كنا نسلّم بأنّ التنمية هي بناء قدرات البشر‏،‏ بحيث يكونوا قادرين على أن يصنعوا حياتهم بأنفسهم‏،‏ وأن يختاروا دون قيود‏،‏ وأن يبنوا المجتمع الذي يحقق لهم أعلى درجة من العيش الحر الكريم‏،‏ إذا كانت هذه هي التنمية‏،‏ فإنّها لا تتحقق إلّا بتغيير وتحديث الأبنية الثقافية التي يتحدد في ضوئها السلوك البشري‏.‏

ولعلّ هذا يدفعنا إلى توليد قناعة بأنّ مدخل تحديث البنية الثقافية الشاملة هو مدخل ضروري في ظروف التحول الهائلة في عصر المعلومات والعولمة‏.‏ ولكن ماذا عساه أن يكون هذا المدخل‏،‏ وما تعريفه وما هي ضمانات أو شروط تحقيقه؟ هذان السؤالان هامان ولابدّ من التصدي للإجابة عليهما قبل الدخول في تفاصيل أكبر حول سياسات التنمية الثقافية‏.‏

لا شك في أنّ نقطة البدء في التعرّف على المدخل الثقافي للتنمية تبدأ من تعريف الثقافة ذاتها‏.‏ فالثقافة في الفهم العام هي جماع ما يمتلكه شعب من الشعوب من معتقدات ولغة وعادات وتقاليد وفنون وأساليب حياة ورموز ومنتجات مادّية‏.‏ إنّها بلغة أخرى الوجه الآخر للعلاقات الاجتماعية‏،‏ فهذه العلاقات هي التي تشكّل صُلب نُظم الحياة كالنُّظم الاقتصادية والسياسية والأسرية والمهنية ونُظم التنشئة والتعليم‏،‏ وكلّ هذه العلاقات تتواجد في إطار منظومة أخرى من القيم والمعايير والعادات والتقاليد التي تحدد للفاعلين أساليب وأنماطاً معينة لأفعالهم ومنتجاتهم المادّية والرمزية‏.‏

وأياً كانت التجسيدات الخارجية للثقافة‏،‏ فإنّها في التحليل الأخير مخططات عقلية أو تجريدات عقلية‏،‏ تنطبع في عقول الأفراد‏،‏ وفي عقل الجماعة‏،‏ وتتناقل عبر الزمن لتشكل لهذه الجماعة هُويّة خاصّة بها وصبغة تميّزها عن غيرها من الجماعات‏،‏ هذا مع التسليم بطبيعة الحال بوجود عموميات ثقافية تشترك فيها الشعوب جميعاً. ويبقى هذا التصوّر بمثابة فهم عام شمولي لكلمة ثقافة‏.‏ فتلك الكلمة تُفهم أحياناً بمعنى خاص جدّاً ينصرف إلى الأفكار الفلسفية والمنتجات الثقافية ذات الطابع الفني كفنون الشعر والمسرح والموسيقي والفنون التشكيلية‏.‏

والتنمية هي عملية تحويل للوجود الاجتماعي للأفراد عن طريق تملكهم لقدرات العيش الكريم ‏(‏بأبعاده الاقتصادية والتعليمية والصحّية‏)‏ والمعرفة والحرّية والمبادأة والمشاركة في القرارات المصيرية المتصلة بحياتهم‏.‏ وتكشف هذه القدرات عن أنّ الوجود الاجتماعي للإنسان يتأسس على أبعاد مختلفة لا تتدرج على نحو متصل حسب أهميتها أو موقعها النسبي في منظومة الحياة‏،‏ ولكنّها تتوازى ويكتسب كلّ عنصر منها أهميته من أهمية الآخر‏.‏ والناظر إلى القدرات التي يجب أن يمتلكها الفرد‏ ‏والمجتمع‏‏ لكي يتحوّل إلى مجتمع قطع شوطاً على طريق التنمية يكتشف للوهلة الأولى أنّها جميعاً تتصل بالثقافة‏.‏ فالثقافة ليست قدرة تنضاف إلى هذه القدرات‏،‏ وإنّما هي الوعاء الذي يحوي كلّ هذه القدرات ويجسّدها في الحياة العملية‏.‏ فلا يمكن للفرد أن يكتسب قدرة من هذه القدرات دون أن يطوّر أساليبه السلوكية وأفكاره ومعتقداته وتصوّراته فيما يتصل بهذه القدرة‏.‏ وإذا ما ظلت هذه الأفكار والتصوّرات والمعتقدات جامدة تميل إلى التقليد دون الانطلاق‏،‏ وتتوجس شكاً في كلّ شيء دون ثقة واطمئنان‏،‏ وتتمركز حول ذات واقعية أو متعالية دون أن تطوّر قدرة على النقد والمبادأة والبحث عن آفاق جديدة باستمرار‏.‏ نقول إنّ ثقافة الفرد إذا ما ظلت كذلك دون تغيير فلن يكون قادراً على اكتساب أي قدرة‏،‏ وسوف لا يكون قادراً على تحويل وجوده الاجتماعي‏.‏

وعند هذا الحد نستطيع أن نعرف المدخل الثقافي للتنمية بأنّه جهد تنموي يتصل برسم الإستراتيجية وتحديد السياسيات المتصلة بتحسين أو تحويل أو قل تحديث الوسط الثقافي الذي يتحرّك في داخله الفاعلون الأفراد والجماعات جنباً إلى جنب مع رفع مستوى معيشتهم وقدرتهم على المشاركة‏.‏ ويقصد بالوسط الثقافي هنا مجموعة الأفكار والمعتقدات والتصوّرات والعادات والرموز التي تتحكم في سلوك الفاعل الاجتماعي‏،‏ ومنظومة القيم التي توجّه اختياراته‏،‏ وأساليب السلوك‏،‏ وأنماط التفاعل التي تحرّكها هذه الاختيارات‏،‏ ونمط الوعي الاجتماعي الذي يصاحب هذه الاختيارات‏.‏

ويقوم مدخل تحديث البنية الثقافية بهذا المعنى على عدد من الاعتبارات‏:‏

‏(1)‏ إنّ تغيير نمط المستوي المعيشي‏ (‏المرتبط بتحقيق النمو‏)‏ ورفع مستوي المشاركة ‏(المرتبط بالتحديث السياسي‏)‏ لا يؤتي ثماره بمعزل عن تغيير الوسط الثقافي للأفراد‏.‏ فهذا الوسط هو الذي يحدد للأفراد أهدافهم وطموحاتهم‏،‏ ومن ثم فإنّ اكتساب القدرات الاقتصادية والاجتماعية لا يتم إلّا عبر توجّهات تأتي من الوسط الثقافي‏.‏

‏(2)‏ إنّ هذا الفهم للبعد الثقافي للتنمية ليس فهماً اختزاليا يقدم بديلاً لمدخل النمو الاقتصادي ولمدخل المشاركة الاجتماعية والسياسية‏.‏ ولكنّه في مقابل ذلك يفترض تساوقاً في عملية التغير الاجتماعي بين الجوانب الاقتصادية‏،‏ والجوانب الاجتماعية السياسية‏،‏ والجوانب الثقافية‏.‏

(3)‏ وفي ضوء ذلك فإنّ المدخل الثقافي يقوم على مسلّمة أساسية مفادها أنّ تغيير الثقافة يعد مطلباً أساسياً لتغيير الوجود الاجتماعي‏.‏ فهذا الوجود هو في جوهره وجود ثقافي وليس مجرد وجود اقتصادي‏.‏

(4)‏ وقد يدفع البعض في وجه هذا الاعتبار الأخير دفعاً قد يستقونه من أيديولوجيات معينة يقول بأنّ تغيير الوجود الاقتصادي يستتبعه بالضرورة تغيير للوجود الثقافي‏،‏ وفقاً للمقولة الشهيرة التي تذهب إلى أنّ الوجود الاجتماعي الاقتصادي هو الذي يحدد الوعي‏ (‏الثقافي‏)‏ وليس العكس‏.‏ ولكن التجارب أكدت عكس هذا‏،‏ فلم يؤدِ التحسّن الاقتصادي الذي طرأ على أوضاع بعض الفئات الاجتماعية في مصر مثلاً إلى تحسّن أوضاع المرأة‏،‏ أو إلى التحرّك نحو مزيد من الإنتاجية‏،‏ أو التخلي عن المعتقدات البالية‏.‏ ومن هنا تأتي أهمية طرح القضية على نحو آخر‏،‏ بالتركيز على أهمية تغيير الوجود الثقافي جنباً إلى جنب مع تغيير الوجود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي‏.‏

(5)‏ إنّ العمل في المجال الثقافي بغرض تغيير الوسط الثقافي للأفراد والجماعات يؤدي بالضرورة إلى إكساب القدرة على تحسين الوجود الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية والسياسية‏.‏ ولقد استخدمنا هنا عبارة القدرة على تحسين الوجود‏،‏ ولم نستخدم عبارة تحسين الوجود‏.‏ ذلك أنّنا لا ندعي أن تحسين الوجود الثقافي يؤدي بالضرورة إلى تحسين الوجود الاقتصادي ‏(‏فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً‏).‏ ولكنّه يفتح الأُفق أمام الإنسان لتحسين وجوده أي يكسبه الدافعية والرغبة الملحة في تحسين هذا الوجود‏.‏

(6)‏ ولا ينطلق المدخل الثقافي من مقولة إنّ ثقافة الشعب متخلّفة على إطلاقها‏،‏ وأنّها لابّد أن تتغير تغيراً جذرياً‏.‏ لا يستطيع أحد ذو معرفة أن يفترض ذلك‏.‏ فالثقافة هي حضور تاريخي‏،‏ وهي طاقة وجودية لا يمكن نعتها بنعوت التخلّف أو السمو أو الرقي أو غير ذلك من نعوت‏.‏ ولكن في مقابل ذلك يسلّم مدخل تحديث البنية الثقافية بأنّ الثقافة يجب أن تتحوّل إلى قوّة دافعة للتغيير والانطلاق‏،‏ ويجب أن تدفع حاملها باستمرار نحو آفاق أفضل من الوجود‏.‏ ومن ثم فإذا دفعته هذه الثقافة إلى الارتكاس أو النكوص أو الردة إلى الخلف‏،‏ فإنّ معنى ذلك أنّ عملاً تنموياً يجب أن يبذل على المستوى الثقافي لتحويل الثقافة إلى طاقة خلق وإبداع‏،‏ وإلى طاقة وجودية لتحسين وجود الإنسان لا للارتكاس (Reflexology)‏‏ به إلى مجاهل الماضي‏.‏

‏وإذا ما اتجهنا إلى الإجابة على السؤال الخاص بمتطلبات تحقيق التنمية بواسطة مدخل ثقافي‏،‏ فإنّنا يمكن أن نشير إلى المتطلبات التالية‏:‏

‏(1)‏ رغم أنّ هناك خطاباً قوياً حول انحسار دور الدولة أمام زحف التكيفات الهيكلية وتحرير السوق والاقتصاد‏،‏ إلّا أنّ دور الدولة يعد متطلباً جوهرياً في تطوير مفهومات وإستراتيجيات التغيير في الوسط الثقافي وتكيفه ليتواكب مع التغيرات الحادثة وليتحوّل إلى طاقة خلّاقة ومبدعة‏.‏ وفي اعتقادي أنّ أحد المثالب الأساسية المرتبطة بخطاب تحرير التجارة والاقتصاد والدعوة إلى ربط التنمية بهدف تحقيق النمو الاقتصادي‏،‏ أقول إنّ أحد مثالب هذا الخطاب أنّها تعتبر أنّ الثقافي والاجتماعي معطي يجب أن يتغير من تلقاء ذاته‏،‏ وأن يتكيّف من تلقاء ذاته‏،‏ وعندما ترفع الأصوات بمراعاة الجوانب الاجتماعية في التنمية يكون معنى ذلك تقديم الدعم لغير القادرين‏.‏ نعم، هذا مفيد ولكن لا يجب على الدولة أن تترك الثقافي والاجتماعي ليتطوّرا تطوّراً ذاتياً‏. فالملاحظ من خلال خبرة العقدين الماضيين أنّ هذا التطوّر يخلق موجات من المقاومة لعمليات التغير التي تستهدفها الدولة‏،‏ بحيث نجد أنّ الجوانب الاقتصادية تتغير في اتّجاه الانفتاح والتحرر في حين تتطوّر الثقافة في اتّجاه الانغلاق والجمود ‏(‏لدى فئات معينة‏)‏ أو في اتّجاه تحرر استهلاكي ترفي‏ (‏لدى فئات أخرى‏)‏ أو في اتّجاه انسحاب وانكفاء على الذات وهموم الحياة ‏(‏لدى فئات ثالثة‏).‏ في هذا الظرف يحق للدولة أن تضطلع بدور رئيسي في إعادة صياغة المفهومات الثقافية عبر مخططات عامّة لنهضة شاملة‏.‏

(2)‏ ولا يقتصر دور الدولة على وضع المخططات العامّة‏،‏ أو تأسيس خطاب للتنمية الثقافية‏،‏ بل يمتد دورها إلى رسم السياسات الثقافية في مختلف حقول الحياة‏.‏ وتتّجه هذه السياسات نحو العمل الثقافي في اتّجاهين‏:‏

الأوّل‏:‏ يرتبط بالتعريف العام للثقافة بوصفها أسلوب حياة للأفراد‏.‏ إنّ السياسات الثقافية هنا يجب أن تتّجه نحو اكتشاف الوجود الثقافي للأفراد‏،‏ ونحو مساعدتهم على فهمه‏،‏ وتجاوز ما كان يلجم حركتهم‏،‏ وتطويره والاستفادة منه كطاقة تنموية إذا كان يتّجه صوب التقدم والرقي‏.‏ إنّ الهدف الأسمى للسياسات الثقافية هنا هو أن‏ تنفض عن الوسط الثقافي للناس كلّ ما يغله أو يلجمه‏،‏ وكلّ ما يبطئ حركة المجتمع نحو الاندفاع بقوّة إلى اللحاق بركب الحياة المعاصرة‏.‏

الثاني‏:‏ يرتبط بالتعريف الخاص للثقافة بوصفها أفكاراً فلسفية ومنتجات فنية إبداعية‏.‏ إنّ السياسات الثقافية يجب أن تتّجه هنا نحو تحقيق غايتين‏:‏

أ‏-‏ الإعلاء من شأن الثقافة والمعرفة‏،‏ وتكريم الفكر والمفكرين‏،‏ وإعلاء النظرة إلى الأفكار وأصحابها‏،‏ وتأسيس كلّ ما في المجتمع والدولة ‏(‏صَغُر أو كَبُر‏)‏ على فكر ‏(‏ليته يكون فكراً لا يزدري الفلسفة والعلوم الاجتماعية‏).‏

ب‏-‏ استغلال الطاقات الإبداعية في مجالات الفنون المختلفة وتوجيهها لإحداث التغير الثقافي المطلوب‏.‏

(3)‏ وإذا كان للدولة كلّ هذا الدور فشريكها الأساسي في هذا هو المجتمع المدني‏.‏ فالمدخل الثقافي للتنمية يجب أن يقوم على شراكة بين الدولة وبين المنظمات التي يؤسسها الأفراد بإرادتهم الخاصة التي تشكّل الحياة المدنية للناس‏.‏

(4)‏ ومن المتطلبات الجوهرية للمدخل الثقافي للتنمية الشاملة التعويل على أهمية الخطاب التعليمي‏،‏ والخطاب الديني‏،‏ والخطاب الإعلامي في عملية التنمية الثقافية‏.‏ لسنا هنا في موقف يدعو إلى مجرد أن تسهم هذه الخطابات في عملية التنمية‏.‏ ولكنّنا نفترض أنّ هذه الخطابات هي جزء من الإرث الثقافي‏،‏ وهي نفسها تحتاج إلى أن تتغير وتتطوّر لتواكب الإستراتيجية العامّة للتغيير الثقافي‏.‏ إنّ هذه الخطابات هي الأكثر تأثيراً على حياة الأفراد والجماعات‏،‏ ومن ثم فإنّها لا يجب أن تثقل بموروثات ثقافية جامدة‏،‏ أو أن تدفع صراحة أو ضمناً إلى الجمود والتخلّف‏،‏ بل يجب أن تطوّر من نفسها باستمرار‏،‏ وأن تفتح للأفراد آفاقاً للرؤية‏.‏

‏3-‏ حقول تحديث البنية الثقافية‏:‏

كما أكدنا من قبل فإنّ الثقافة هي الوعاء الذي يحوي كلّ علاقات المجتمع‏.‏ ومن ثم فلا يمكن إحداث تنمية ثقافية بشكل مستقل عن الحياة الاجتماعية في مجموعها‏.‏ فليس هناك من مكان أو زمان تتجمع فيه الثقافة لكي نضع أيدينا عليها ونحاول تنميتها‏.‏ فالتنمية الثقافية لابدّ وأن تسود كلّ حقول الحياة‏.‏ ونقدم فيما يلي فكرة مختصرة عن هذه الحقول مع إشارة خاصّة إلى أوضاع المرأة‏.‏

أ‏-‏ الحقل الاقتصادي‏:‏ يتأسس الحقل الاقتصادي على قيم ومعايير ثقافية ترتبط بالإنتاج ‏(‏العمل‏)‏ وبالاستهلاك والإدخار أو ترتبط بقيم وأساليب حياة أحد الفاعلين الأساسيين داخل هذا الحقل كرجال الأعمال مثلاً. ولا يمكن تأسيس حقل اقتصادي قادر على تحقيق نمو اقتصادي حقيقي عبر إنتاج قيم مضافة حقيقية إلّا من خلال تغيير ثقافة الفاعلين داخل هذا الحقل‏،‏ كثقافة رجال الأعمال‏،‏ وثقافة المدخرين‏،‏ وثقافة الاستهلاك‏.‏ وكثيراً ما يفرز هذا الحقل صوراً من التمييز ضد فئات معينة كالمرأة التي يحرمها من مزاولة مهن بعينها‏،‏ ويحجب عنها مهارات معينة فتكون النتيجة توزيع المهارات بشكل غير عادل‏،‏ فتتردى المرأة مهارياً في مقابل نمو وتعدد مهارات الرجل‏.‏ ويخسر المجتمع بذلك طاقة كبيرة‏.‏ كما أنّ قادة هذا الحقل إذا لم يؤمنوا بمبادئ العدالة والإنجاز والمسئولية الاجتماعية فلن يكونوا قادرين على إنتاج قيم مضافة حقيقية‏،‏ ولن يكونوا قادرين على المسيرة الاقتصادية نحو آفاق التقدم والنمو‏.‏

ب‏-‏ الحقل السياسي‏:‏ وإذا كان الحقل السياسي يتّجه إلى بث قيم الديموقراطية والمشاركة والمواطنة والثقة‏،‏ فإنّ هذه القيم لا يمكن أن يصنعها إلّا ديموقراطيون حقيقيون‏.‏ يلاحظ المرء أنّه رغم التعدد الحزبي‏،‏ ورغم الدعوة الخالصة من قبل القيادة السياسية بتطبيق مبادئ الديموقراطية إلّا أنّ الممارسات اليومية للديموقراطية تعكس ثقافة قديمة ربما تكون ثقافة موروثة من نظام الحزب الواحد ما تزال تطلّ برأسها فتصبح الديموقراطية حبراً على ورق‏،‏ أو كلاماً مرسلاً ما يلبث أن يمحي عندما تشرق الشمس‏.‏ ولذلك فإنّ المدخل الثقافي للتنمية يدعو إلى فكرة مؤداها أنّ لا ديموقراطية دون ثقافة ديموقراطية تنتشر في البيت والمدرسة والجامعة ومؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة‏.‏

ج‏-‏ الحقل التعليمي‏:‏ ويجسّد الحقل التعليمي عنوان الحداثة بحقّ فهو الحقل الذي يتلقى فيه الطفل والشاب العلوم الحديثة والمهارات الحديثة‏.‏ ولكن قد يطوّر المجتمع ثقافة تعليم مضادة لما يصبو هذا الحقل إلى تحقيقه‏.‏ فإذا ما تأمّلنا الهدف من التعليم لدى الأسرة المصرية نجد أنّه يرتبط بتحصيل الدرجات والحصول على شهادة بأي وسيلة‏،‏ حتى وإن كانت من خلال تشجيع صور من الانحراف كالدروس الخصوصية والغش‏.‏ إنّ منظومة التعليم لها هدف أبعد من ذلك بكثير‏،‏ وهو إنتاج المواطنين الصالحين‏.‏ فالتعليم هو المنظومة التي يصنع فيها الالتزام الأخلاقي والاختلاف الثقافي‏.‏ فالتعلّم ليس أداة للتلقين والحفظ والحصول على شهادات لا معنى لها‏،‏ ولكن هناك في المدارس والجامعات تُصنع عقول البشر‏،‏ القادرين على تأكيد قيم المواطنة والمشاركة والثقة والتنافسية المؤسسة على الإنجاز والشفافية والنزاهة‏،‏ والقادرين وفي نفس الوقت‏ -‏ على أن يكونوا مختلفين‏،‏ وأن يرتفعوا بأنفسهم عن كلّ المثالب الكابحة للتطوّر مثل التفكير الخرافي‏،‏ واتخاذ التعليم مصدراً للسلطة والزهو‏،‏ والتشبيك الشللي‏،‏ والسعي نحو استخدام ثمرات التعليم في الحصول على مكاسب فردية محضة دون توحّد يذكر مع أهداف الأُمّة‏.‏

د‏-‏ الحقل الصحّي‏:‏ ويجسّد هذا الحقل نموذجاً على وجود ثقافة صحّية تحتاج إلى تغيير‏،‏ خاصّة فيما يتصل بأنماط الغذاء‏،‏ ومفاهيم الصحّة والمرض‏،‏ وأنماط المعتقدات الشعبية التي تربط بين الصحّة وصور من الخرافة كالسحر والحسد وغيرهما‏.‏ وتقف هذه الثقافة الصحّية الجامدة حجر عثرة أمام التكوين الجسدي والإنساني السليم‏.‏ إنّ مدخل تحديث البنية الثقافية يفترض أنّ التنمية تحتاج إلى استثمار في مجال بناء الجسد البشري للذكور والإناث على حد سواء‏.‏ وإذا كانت الثقافة هي وعاء المعرفة والمعلومات‏،‏ فإنّ بناء مجتمع المعرفة لا يتحقق إلّا ببناء الأجساد أيضاً التي هي وعاء الطاقة المنتجة والحاملة للمعرفة‏.‏ فسكّان المجتمع لا يقدرون بأعدادهم وإنّما بنوعية حياتهم ونوعية عقولهم‏.‏ إنّ تحديث البنية الثقافية يحوّل المجتمع من مستوى الطاقة الجسدية‏،‏ إلى مستوى السيطرة العقلية وبذلك يتحوّل أفراد المجتمع من أجساد تبحث عن الطعام تدافعاً وعُنفاً وامتعاضاً،‏ إلى أفراد فاعلين ومتفاعلين يتكاتفون سوياً من أجل بناء مجتمع واحد‏.‏

هـ‏-‏ الحقل المدني‏:‏ وأخيراً نشير إلى الحقل المدني الذي يتكوّن من شبكة العلاقات التي يقيمها الأفراد في حياتهم اليومية وما يقيمونه من منظمات طوعية‏.‏ إنّ هذا الحقل هو الذي يمثّل الحقل العلائقي الذي يتجسّد فيه علاقة المواطن بالمواطن الآخر‏.‏ ويعد هذا الحقل أهم الحقول جميعاً‏،‏ ففيه تُبنى علاقات المواطنة‏،‏ وفيه تتأسس ثقافتها‏،‏ كما تتأسس فيه ثقافة الدعم والمساندة الاجتماعية والسياسية‏.‏ وتشير الدراسات‏،‏ كما تشير الملاحظات العابرة أيضاً‏،‏ إلى أنّ ثقافة المواطنة في ظرفنا الراهن قد تنتج صوراً مضادة لما نصبوا إليه من تقدّم وحداثة‏،‏ مثل نفي الآخر‏،‏ وتسييج الحدود بين الطبقات‏،‏ وتكوين أنماط جامدة عن فئات اجتماعية كالفقراء والمرأة وأصحاب الديانات الأخرى. ويفترض مدخل تحديث البنية الثقافية أن تكون عملية تطوير الثقافة المدنية جزءاً لا يتجزأ من حركة تغيير المجتمع وذلك لتأسيس علاقات مواطنة تقوم على فهم الحقوق والواجبات‏،‏ وتفاعل اجتماعي يقوم على أُسس من المساواة والاحترام‏،‏ وكذلك تأسيس ثقافة للدعم والمساندة تبتعد بالأفراد عن اللامبالاة والانسحاب‏،‏ وتدفعهم إلى مزيد من الثقة والهمة والإقدام‏.

ارسال التعليق

Top