• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جماليات التشبيه في القرآن الكريم

د. محمد عليّ أبو حمدة

جماليات التشبيه في القرآن الكريم

◄ (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).

التذوق الجمالي للنصوص هو استشراف ذاتي لها بكلِّ ما للذاتية من تفرد في الخلق ودرجة الاستجابة والعلم والمعطيات الحضارية. وهذا الاستشراف يعبر النص جمالياً بعد أن يعبره لغوياً. وعبور النص لغة – في حالة القرآن الكريم – يكون أقرب منالاً من خلال فهم الأسلاف وبخاصة من عاصر رسول الله (ص) منهم أو ممن تلاهم. كما أنّ عبوره جمالاً يكون أكثر عمقاً وأوسع دائرة كلما اقتربنا من العصر الحديث بما أفادته الدراسات الحديثة وفاضت به المخترعات. وإذن يكون التعامل مع كتاب الله تعالى بشكل أخص معادلة لها حدان: حد يسعى إلى القديم يستوحيه ويستنطقه المعاني وأسرار اللغة وحد يسعى إلى الحديث يتابعه ويغنى به ويوظفه في استجلاء شفافيات النص ولطائف الجمال فيه. فإن يستطع المتذوق نقل إحساسه بجماليات النصوص نقلاً يصح أن يكون حواراً وتعليلاً فقد غدا ذلك التذوق في الإضافة إلى ربما أوحت لأناس معينين في أوقات مختلفة أفكاراً في التعامل مع النصوص جديدة. وفي ذلك مكسب كبير للقراءة وللنصوص على حد سواء.

أوّل ما يطالعنا في الآية القرآنية الكريمة قوله تعالى: إنما وإنما هذه لها في البيان العربي مدلول؛ إذ إنا خالي الذهن يلقى إليه الخبر جملة إسمية أو جملة فعلية. أما إذا كان الخبر مؤكداً فإنّ ذلك يكون في معرض الجواب عن سؤال. فقولهم في العربية: (عبدالله قائم) إخبار عن قيامه. وقولهم: (إنّ عبدالله قائم) جواب عن سؤال. وقولهم: (إنّ عبدالله لقائم) جواب إنكار منكر قيامه.

وإذا كان الأمر كذلك، فاللغة العربية لغة حيّة، تأخذ الجُمَلُ فيها بعين الاعتبار نوعية السامعين والمخاطبين وأحوالهم. والحقيقة التي ينبغي التنويه بها، أنّ اللغة العربية هي لغة حية، تأخذ بعين الاعتبار الأحوال النفسية والاجتماعية والثقافية، بل والخلقية، لنوعية السامعين والمخاطبين. ولأنّها لغة راسخة التشكل والحياة لتكون الاستجابة الصحيحة للمقام الصحيح أو كما قال البلاغيون العرب: (لكلِّ مقامٍ مقال) فإنها لغة تستعصي على المستشرقين والأعاجم، ولا يكادون ينتهون عند بحرها إلى ساحل.

وإذن: فهل لنا أن ننتظر أن يكون ما بعد إنما في الآية القرآنية الكريمة جواباً عن سؤال؟ إنّ هذا ما يغري به وجود إنما. وهذا يقتضينا أن نعود إلى الآيات القرآنية الكريمة، التي وطأت لهذه الآية الكريمة كي نراها مطمئنة في سياقها؛ كي نراها خيوطاً متشابكة في لُحمة نسيج متجانس. وكلما كانت بقعة الضوء أكبر، كان ذلك في الوضوح الذي يسمح بالرؤية الأكثر شمولاً والأكثر تفصيلاً. وإذا جاز لنا التشبيه، قلنا إنّ ذلك مثله مَثَلُ دراسة ماهية جدار في قاعة. فكلما أخذت دراسة الجدار من حيث صلة الجدار بالقاعة، والقاعة بالطابق كله، والطابق من حيث انسجامه مع خطة المبنى الكبير في التصميم والبناء، كان ذلك أدعى لتكون التقديرات أجود وأفضل. فكذلك النص الأدبي في نسقه العام.

وحين نعود إلى أمام تبادرنا هذه الآيات بالنص:

(وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس/ 20).

وهنا يتقرر بأنّ أمر الغيث، هو من إختصاص رب العالمين وهو الذي يقدّر الأمور ويزنها، ويعرف مجرياتها ومآلها. فإن تنزل الله تعالى بآية للبشر، فقد فهموا عن ربهم. وهنا التوكيد على أنّ الآيات المنزلة (كتاب الله المسطور) هي التلطف الأوسع للحصول على "معلومات لدنّية" و"ومقاييس ربانية". وهذا في انسجام تام، مع ما تقرره آيات القرآن الكريم، من ابتعاث كلّ رسول إلى أمته، بلسان قومه ليبيّن لهم. ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم/ 4).

ومن ذلك قوله تعالى عن محمد (ص): (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الدخان/ 58).

ثمّ تدلف الآيات إلى جوِّ الرحمة يضفيه رب العالمين على الناس بعد ضراء مستهم. قال تعالى:

(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) (يونس/ 21).

وهذا التذوق لهذا التعاقب، حقيق أن يعقب في النفس الإنسانية إحساساً أكثر رهافة مما يعهده الناس العاديون. لقد تعاقب على هؤلاء حالتنان متطرفتان: فأولى بهم أن تَحْدُث لهم استجابات تغاير مألوف حياة الناس. ولا يقف الأمر عند مجرد أخذ العبرة من هذا الانقلاب المفاجئ في حياتهم، وتعميق الإحساس بمجريات الأمور، بل انّ قطاعاً من الناس كبيراً يكون هذا التذوق بداية لانعطافهم نحو طريق الخير، أو حتى مجرد تحييدهم بين معسكري الكفر والإيمان، إذا لهم مكر وتطوع إلى التضليل وقتل الخير. إنّ هؤلاء ينبغي أن لا يظنوا أنهم بنجوة من العذاب. إنّ هذه الأمور، كانت دروساً: إما ليقظة وإمّا لتأكيد خسرانهم، كي تكون أخذتهم رابية.

مثل هذا التذوق لهذا التعاقب، بين الرحمة والضر، له في الحياة الدنيا وتجاربها أمثلة نابضة بالحياة، غنية بتوهج الأحداث. من ذلك: السير في البر والبحر. قال تعالى:

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (تعلمون/ 22-23).

يُلْقَى الضوء على سفر البر ثمّ يركز على مواقف من البحر حيث تكون عوامل انحباس اللطف والإفاضة، أكثر نشاطاً واستحضاراً. وها هو الضوء يسلّط على المسافرين، بعد أن جازوا مرحلة تدقيق الأسماء، ورسوم المغادرة، وتحميل الأمتعة، وتوديع الأقارب والأحبة وإعادة التفتيش. ثمّ ها هو الضوء يسلّط مرة أخرى على لقطة أخرى، تختصر عامل التحول من الشاطيء، أو من الميناء إلى البحر في ماكنات القيادة، ونشر السواري وتوجيه الإشارات. وها هي السفينة تجري بريح طيبة محمودة حتى لا يبقى لأحد واحد في المليون من التردد في إمكان السفر، أو عدمه. وبذلك يكون أمر حشر هؤلاء في السفينة المصيدة قد تم. ولا يقف الأمر عند ذلك بل يتعداه إلى شعور القوم بالسعادة على الظروف الجوية المؤاتية. ثمّ يأتي التحول المذهل، الذي يفقد معه المرء القدرة على مواجهة الاحتمالات: عواصف هوج، وموج متلاطم من سائر الجهات، وأمل في النجاة يضعف ويبهت. في مثل هذا الموقف، الذي يرى المرء فيه الموت، وشيك الوصول تبدأ ذاكرته في عرض شريط المعلومات والأعمال والمواقف عرضاً بالغ السرعة. في مثل هذا الموقف يفزع كلّ صاحب معتقد إلى ربّ معتقده ينشد عنده الأمان في مثل هذا الموقف يستجلي بعض الناس حقيقة أنّ الكون كله يدبره إله واحد فرد صمد فيعاهد هؤلاء الله تعالى على السير في طريق الحقِّ، إن فازوا بالنجاة من الهلاك. ومن عجب، أنّ هؤلاء الذين كان لهم عهد مع ربهم يعودون سيرتهم الأولى، من الضلال، بل يعودون أكثر شراسة وأقل خيراً.

إنّ هؤلاء مهما أفلتوا من أسباب المنايا، وهما تقادمت بهم السن، وتطاول بهم العمر مآلهم إلى الموت. عشرون سنة، مئة سنة، مائتا سنة ثمّ تنتهي حياتهم الدنيا ويعودون إلى لقاء ربهم حيث يطول حسابهم.

إنّ هؤلاء الذين كان لهم عهد مع ربهم، هم المعنيون بشكل أخص في هذا الخطاب. وإن كان الناس جميعاً إنسهم وجنّهم، مشمولين بالدعوة إلى التفكر في هذه التفصيلات. إنّ الذين يكون لهم عهد مع ربهم سيجدون للقرآن الكريم طعماً مميزاً، غيّره روتين الحياة ومألوف العادات. إنّ الذين يكون لهم عهد مع ربهم، سيجدون لآثار ربوبية الله تعالى في الكون سحراً، لا يتراءى مثله لغيرهم لو صدّقوا الله تعالى العهد.

من هنا فإنّ القرآن الكريم، وإن كان يتلى للأجر وثواب التلاوة إلّا أنّ موقفاً واحداً من الحياة، يكون فيه عهد، مع نص مباشر يذكر به، سيكون للإنسان العاقل بداية انقلاب حقيقي في حياته وموقفه، من الكون ربّ الكون وظواهر الكون. إنّ التذكير حين يلامس تجربة شخصية، يحسّ المرء وكأنّه وحده المعني بالخطاب، وإن شمل الخطاب الناس جميعاً وإنّ ذلك له الانعكاس الإيجابي، الذي لا يخفى أثره حين يكون المرء قادراً على الانتفاع من تجاربه. ومن هنا يتبين في عصرنا الحاضر خطر تلاوة القرآن الكريم، من إذاعات يهود ولندن ومونت كارلو ومشبوهي أمة العرب. إنّ هذه التلاوة تقتل في السامعين تدبر القرآن، وتصيد مواقف العهد، التي إن لامست أسماعهم ووعتها قلوبهم، سوف تجعل منهم بشراً غير البشر ولهم مواقف غير المواقف.

ولأنّ مثل هذه العوامل واضحة أكثر في البحر، حيث صورة الماء الزاحف، والرياح الهوج اكثر تصادفاً؛ فإنّ صورة البر في الطيران والنقل الجوي، هي الآن على درجة عالية من الوضوح. وإذن فتقديم البر على البحر في الآية، ليس تقديماً عفوياً. انّه بعد اختراع الطيران وكثرة الكوارث الجوية بالقياس إلى الكوارث البحرية يصبح السفر براً أكثر تعاملاً مع تجارب مثل هذا العهد في جو الهلاك بحراً. وهذا ما يجعل الآية القرآنية متألقة الدلالة على المستويين معاً: البر والبحر. وهذه لطيفة كان إحساس الناس بها في الماضي أقل. وإنّ الحجة بها على المعاصرين لهي أكثر بهراً، بسبب من تقدم المعطيات الحضارية. وهذا في انسجام مع تنافي إعجاز القرآن الكريم مع اطراد التقدم العلمي للعقل البشري.

وحتى تكون الصورة أكثر تبكيتاً لهؤلاء الذين كان لهم عهد وتجربة فريدة من نوعها أنزل الله تعلى بقوله إنما، هؤلاء الناس منزلة السائل عن ماهية الحياة الدنيا. وإنزالهم منزلة السائل طريقة فنية يستخدمها القرآن الكريم في إثارة جو الترقب وانعطاف السامعين نحو السياق. ومثله في القرآن الكريم كثير. من ذلك قوله تعالى:

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...) (البقرة/ 186).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...) (البقرة/ 189).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...) (البقرة/ 217).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ...) (البقرة/ 219).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى...) (البقرة/ 222).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ...) (الأعراف/ 187).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ...) (الأنفال/ 1).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (الإسراء/ 85).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ...) (الكهف/ 83).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ...) (طه/ 105).

ولم يشأ الله أن تبدأ الآية بجملة غير مؤكدة تلقى لخالي الذهن لأنّ هؤلاء الناس ليسوا خالي الذهن. وإذن فإنّ التوكيد – علاوة على إنزالهم منزلة السائل – يزيد من تعميق الإحساس بالصورة المطلوبة.

ومن هذا الموقع يتبين فضل البيان على النحو. إذ انّ النحو، يحدد دور "إنما" كما يحدد الإنسان في تمايزه عن الحيوان. ولكن ليست "إنما" هي واحدة في جميع مواطن الكلم، كما أنّ الإنسان ليس ذاته في سائر بني البشر. إنّ "إنما" لها خصوصية معينة حسب موقعها من السياق. ومن طبيعة المقام ومن درجة إصغاء السامعين ونوعيتهم. إنّ "إنمان" في كلِّ موقع لها طعم مميز، ودور مميز وتوظيف مميز. وإنّه لمن عمل البيان، النفاذ إلى هذه الخصوصية وتبينها والوقوف عندها والتعليم عليها.

وعلاوة على دور "إنّ" في التوكيد، فإنّ "ما" تكفها عن العمل. وكفّ إنّ عن العمل، وإن لم يكن له خصيصة في النحو، إلّا أنّه هناك كأنّه وضع ما بعد إنّ في مرتبة المبتدأ والخبر، من حيث تساويهما في الشأن، أو من حيث هما طرفا معادلة التشبيه. وبذلك يكون الخبر على درجة من التنويه به عالية. ثمّ إنّ "ما" لها فضل إشباع الألف إشباعاً يتيح للمتلقي فرصة أكبر يحضر ذهنه ويستجمع من إصغائه غيره لو كانت إنّ وحدها.

ثمّ يَعْقُبُ ما مَثلُ. والمَثَلُ مقصود به تقريب الأشباه والنظائر والبحث عن المتشابهات. قال تعالى:

(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم/ 25).

(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت/ 43).

(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر/ 21).

وَمثَل الحياة الدنيا على أنّ المقصود ليس هو ماهية الحياة الدنيا من حيث هي بلازما ودم وأنسجة وخلايا ونمو وانما ماهية الحياة الدنيا من حيث وزنها عند الله تعالى وما ينبغي للمؤمن أن يراه فيها وحولها.

ثمّ تأتي معادلة التشبيه:

مثل الحياة الدنيا – (ماء أنزلناه من السماء... حصيداً).

نلاحظ أنّ المشبه به هو عشر جمل إذا فصّلت. وهي لوحات مختلفة نسق بعضها على بعض بترتيب زماني ومكاني، ووجه الشبه وأصل من تكاملها ضمن هذا النسق. انّ الشبه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض وإفراد شطر عن شطر، حتى إنك – كما يقول عبدالقاهر الجرجاني – لو حذفت منها جملة واحدة من أي موضع كان أخل ذلك بالمغزى من التشبيه. ولو شئنا التعبير الرياضي لقلنا إنّ س – ما داخل القوس جميعاً ويعامل كوحدة واحدة وعلى ذات النسق.

إنّ مثل الحياة الدنيا هو فيلم يتكون من عشر لوحات:

اللوحة الأولى: الماء ينزل من السماء. هل بالإمكان أن تؤخذ لقطة تصويرية لمنظر ماء ينزل من السماء؟ والجواب حتماً بالإيجاب. وإذن يؤخذ منظر هذا شأنه ولنعطه الرقم (1). ويلاحظ ربط إنزال الماء بالله تعالى وبالتالي فالمشبه والمشبه به ينتميان إلى ذات النظام.

اللوحة الثانية: فاختلط به نبات الأرض. الفاء تفيد النسق والترتيب. وإذن فهذه اللوحة تنسق على اللوحة الأولى. هل بالإمكان تصوير قطرات ماء السماء وقد داخلت نبات الأرض في مقطع عرضي للجذر أو الساق مثلاً؟ والجواب حتماً بالإيجاب. وإذن يؤخذ منظر رقم (2).

اللوحة الثالثة: أكل الناس هل بالإمكان أخذ لقطة مصورة لإنسان يأكل فاكهة؟ نعم.

اللوحة الرابعة: هل بالإمكان أخذ لقطة مصورة لبعير يأكل عشباً؟ نعم.

وإذن تؤخذ مناظر تمثل ذلك.

اللوحة الخامسة: أخذت الأرض زخرفها. هل يمكن أخذ لقطة تصويرية لمنظر بدت فيه الأرض تكتسي خضرة وجمالاً في الربيع؟ نعم يمكن ذلك. وتشبيه الأرض هنا بالفتاة تأخذ زخرفها وزينتها، ونشر جو الحركة في هذا الزخرف، والعمد إليه، مما لا يخفى جماله وبيانه.

اللوحة السادسة: هل يمكن أخذ لقطة مصورة لوجه الأرض، وقد بدا بالغ التزين والحسن؟ نعم.

اللوحة السابعة: هل يمكن أخذ لقطة مصورة لجني المحصول أو لموسم الحصاد ووفرة الإنتاج؟ نعم يمكن ذلك، بل أكثر من ذلك يمكن تخيل لوحة فنية للشعور النفسي الذي يعكس الجذل والسعادة الضافية والثقة الكبيرة بمستقبل رخي.

اللوحة الثامنة: هل يمكن تصوير كارثة (كالزلزال أو الفيضان) تحل في الأرض في مكان ما ليلاً؟ نعم.

اللوحة التاسعة: هل يمكن تصوير الكارثة تحل بالأرض في مكان ما نهاراً. نعم يمكن ذلك.

اللوحة العاشرة: هل يمكن تصوير وجه الأرض بعد الكارثة؟ نعم يمكن ذلك.

إنّ جماع هذه اللوحات والمشاهد هي مثل الحياة الدنيا. وواضح أنّه كلما  كانت اللوحات أكثر تحريكاً للنفس، وأكثر اتصالاً بالحياة، كان الانطباع العام الذي تتركه أكثر وضوحاً وأشد تأثيراً. وواضح أنّ هذه اللوحات يستمدها كلّ واحد من بيئته بقدر غناها البيئي، من قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ) (يونس/ 24)، وبقدر الجمال الذي يتراءى للعينين والنفس. كما أنّ هذه اللوحات على تتابعها وفق نسق معين، ينسق ثانيه على أوّله وثالثه على ثانيه وهكذا، إلا انّها متكثرة في اللون، والنكهة والطعم والحركة والصوت، تكثراً لا نهاية له. فكثافة الماء النازل من السماء وصفته، يتفاوت بتفاوت البيئات المختلفة. ثمّ نوعية الأرض والنبات والناس والأنعام، وكلّ هذه الجزئيات، لهي في التكثر الذي لا يعرف حدوداً.

وواضح أنّه كلما خطا العقل خطوات أفضل في عالم الجماليات، وفي دنيا التصوير والفنون، كان أقدر على التغلغل إلى دنيا التمثيل في القرآن الكريم، وأكثر استجابة لشفافيات الجمال واللطائف فيه، وذلك ما يتفق وموافقة الإعجاز البياني لكلّ زمان ومكان. إنّ الحُجة بالقرآن الكريم لا تكسب مع مرور الزمن إلّا ازدياداً.

إنّ جمال المركب يفضل المفرد. لأنّ الحسّ انما يدرك المركب من حيث هو شيء واحد؛ فأما تفصيل تلك الأجزاء بعضها عن بعض، وتمييز ما يكون داخلاً في حقيقته عما يكون خارجاً، فذلك إنما يتم بالعقل، لأنّ الحس كما يقول – فخرالدين الرازي – بما هو أشدّ اجمالاً أقدم من شعوره بما هو أشدّ تفصيلاً، فإنك بالنظر الأوّل إنما تدرك المرئي إدراكاً اجمالياً ثمّ ترى التفصيل بعد ذلك، وهكذا السمع فإنك تقف من تفاصيل الصوت بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية على ما لم تقف عليه بالسماع الأوّل. ومن المعلوم – كما يقول فخرالدين الرازي – إن بإدراك التفصيل تقع التفاضيل بين راء وراء وسامع وسامع.

وواضح من تفصيل الآية ومن التعقيب عليها (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، أنّ المقصود من عرض هذا الفيلم هو إحداث رجة في التفكير مع ضمان استمرار التدبر. وصيغة الفعل المضارع (يتفكرون) تزيد هذا الأمر وضوحاً وتوكيداً. ولأنّ هذه اللوحات هي من دورة الحياة التي تتجدد كلّ عام فإنّ الشعور بأثرها هو من التجدد بمكان كبير. وهكذا يصبح القرآن الكريم من خلال عرض لوحاته المتصلة بظواهر الكون شباباً يتجدد وألقاً يزداد. وأين من ذلك الأوصاف والنعوت والأفكار التي تعالج أمراً ثمّ تمضي بمضيه.

إنّ الأثر الحاصل من عرض هذا الشريط الذي هو الحياة لن يتأتى قبل أن تُعرض التفصيلات، وفق ذات النسق من حيث الزمان والمكان. ووفق ذات النسق من حيث التدرج والترتيب. وفي هذا الدليل على أنّ أي استنتاج يمكن أن يبنى على جزئية من جزئيات التفصيل، لتنعقد منه المشابهة مع الحياة الدنيا لن يكون مقصوداً، وإن بدت المتشابهات في الإغراء الكبير. إنّ ما داخل القوس يؤخذ جميعاً كوحدة تامة حتى تقوم المشابهة بين حدي المعادلة.

أمّا أن تقوم بعض جزئيات المركب بتعميق الإحساس ببعض الظواهر والمواقف والمقاصد، فهذا ما لا سبيل إلى دفعه. إنّ ذلك في الإغراء الذي يدفع الدارس والمدقق إلى تقليب النظر في المتشابه والمتكرر من جزئيات الصورة في القرآن الكريم، وفي أنساق الآيات والموضوعات المختلفة. وإنّ هذا الإحساس بها ليزيده التفرس في ملكوت السماوات والأرض، وفي تقدم وسائل التقنية والسمعيات والبصريات، وفي اختلاف المناطق الجغرافية وتفاوت ما بينها في المناخ، وكثافة الهواء ونوعية الأمطار ودرجات الحرارة والضغط عمقاً وتقديراً. ومن هنا تبيّن الفوارق ما بين مؤمن ملاحظ متدبر، وبين مؤمن تالٍ مكرر، ما بين مؤمن تهاداه الفلوات سائحاً مسافراً معتبراً، وبين مؤمن لزيم مكان بعينه ومناخ بعينه وجغرافية بعينها. ومن هنا تبيّن الفوارق ما بين مؤمن تخدمه معطيات الاختراع والاتصال والتصوير والفنون وبين مؤمن لم تمده معطيات عصره الحضارية بما يزيده إحساساً بجماليات جزئيات التشبيه وفنية الفيلم والصورة.

ولو شئنا استنطاق جزئية المركب حول موقف الإسلام من الإحساس بجمال الطبيعة لتبيّن لنا أنّ المؤمن لن يحسّ بجوهر الاستنتاج وحقيقة المقصد الإلهي ما لم يكن إحساسه بفنية الصورة في الزخرف والزينة عظيماً. وليست الصورة ظاهرة وحسب ولكن الصورة النفسية هي أيضاً في الحسبان. وأي صورة نفسية يمكن أن تكون أدعى إلى إبداع وتخيل بريشة الرسام من تصوير الجذل والشعور بالرضى والطمأنينة في قوله تعالى: (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) (يونس/ 24). إنّ نفسية المؤمن ينبغي أن تكون في الشفافية المتناهية التي تسمح لها بأن تستجلي اللطائف الجمالية والمواقف المعقودة عليها في الجزئيات وفي الكليات. وهذا لن يتأتى ما لم يعش المؤمن الحياة وأدوارها وظواهرها وتعدد أطوارها وتفاوت صورها وألوانها وعناصر الافتنان الفني فيها. ومن هنا يبيّن أنّ التصوف الذي يقصد به إلغاء توظيف البصر والسمع والتفكر إنما هو النسك الأعجمي كما أثر عن عبدالله بن المبارك وأنّ التصوف الذي يسعى إلى رؤية الوحدة في عين التعدد هو في علياء التفكر والتدبر وإرهاف العقل والحس معاً.

ولو أنا شئنا التفرس في تلمس الأثر الحادث في نفوسنا بعد مشاهدة هذا الفيلم عن دورة الحياة وتعاقب الأحوال واختلاف الألوان وتوظيف عناصر الحركة والصوت والوقت واختلاف الضمائر والتفاوت بين صيغ الأفعال على ما تحدثه من تناغم إنسيابي في لفظية السياق والتلفظ أيضاً – لوجدنا أنّ عدم الاغترار بالحياة الدنيا ونعيمها وزينتها هو أس المقاصف ومحمور التركيز. وإنّ هذا الاستنتاج ليغري به ربط الحياة الدنيا بالطمأنينة والغفلة في آية قرآنية كريمة متقدمة في ذات السورة: سورة يونس. يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/ 7-8).

ومن هنا يظهر أثر الحاجة إلى تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم فالآيات القرآنية الكريمة تنتمي إلى ذات النظام وفي ذلك ما فيه من استرواح النفس إلى صدق الاستنتاج حين يكون على ذلك السند من القرآن الكريم.

ولو أنا شئنا استقراء الآيات بشكل أوسع لتزداد بقعة الضوء على نسيج البحث والتدبر لوجدنا المزيد من الإغراء على ذات الاستنتاج. ففي سورة الكهف مثلاً، تطالعنا الآية القرآنية الكريمة: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) (الكهف/ 7-8). فزينة الأرض في هذه الآية و(أخذت الأرض زخرفها وازينت) في الآية السابقة هما في الاغراء الذي يوحد الرؤية. وكذلك الصعيد والحصيد ثمّ كذلك الابتلاء وتفاوت الناس في التفكر والاستنتاج والاستفادة من الظواهر الطبيعية والكونية في اتخاذ المواقف العملية في الحياة.

وإنا لنجد سنداً آخر من القرآن فيما يتصل بالغيب الذي فرش لدور الآية الكريمة موضوع الدراسة والغفلة عن آيات الله تعالى المسطورة منها والمنظورة التي اقترنت بالحياة الدنيا في الآية السابعة من ذات السورة. ففي سورة الأنبياء يطالعنا قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (الأنبياء/ 48-50).

فالمتقون مشفقون من عذاب ربهم ولا يصلون إلى درجة البطر في القدرة على الأرض ومواردها من قوله تعالى: (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْه) (يونس/ 24). ولإخفاء بجمال الربط بين إنزال الماء من السماء في قوله تعالى: (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) وبين إنزال القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء/ 50)، وانتماء الضمائر إلى ذات النظام – بما يضع المرء أمام صفحات الكون وأمام صفحات القرآن الكريم في ذات الوقت – وأنهما وجهان لعملة واحدة – إن جاز لنا التعبير.

ثمّ ها هو سند آخر لهذا الموقف من القرآن الكريم. قال تعالى: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف/ 99). وأما المتقون فعين على التفرس في خلق الله تعالى وآثار ربوبيته في الكون وعين على العاقبة حتى تكون العاقبة لهم. وفي ذلك استمرارية التفكر واستمرارية استلهام العبر واستمرارية التجدد الذي يزيده دوران الحياة واطراد الغنى الحضاري والبيئي – شباباً وتألقاً وتوهجاً. وفي ذلك ما فيه من استمرار توظيف السمع والبصر والفؤاد وأخذ العبرة وتغيير المواقف والأعمال والاتجاهات نحو الخير والحقّ والطاعات. وفي ذلك ما فيه من استدراج الطغاة من خلال الزخرف والزينة والظن بالقدرة على الأرض ومواردها. وهذا يقودنا إلى استنتاج واضحة مقدماته: إنّ زينة الحياة الدنيا وخيراتها تزيد المؤمنين إيماناً وتزيد الكافرين كفراً وتأثيماً. وهكذا يزيد دوران الحياة الفجوة ما بين معسكر الإيمان وبين معسكر الكفر ويعمل الوقت لحساب الإيمان ضد معسكر الكافرين.

ولأنّ الأثر الحاديث من رؤية الفيلم مقصود به استمرارية التفكر بما يغري به قوله تعالى عقب التفصيل (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) بصيغة المضارعة في (يتفكرون) فإنّ أمر تفسير مناظر الفيلم والإحساس بها مقصود به الذاتية أيضاً. أي انّ كلّ إنسان مدعو إلى أن يوظف سمعه وبصره وفؤاده في التغلغل إلى جزئيات الصورة وحنايا تفصيلاتها. وانّ كلّ إنسان يستطيع أن يتذوق فيها طعماً ويجد فيها متعة من نوع خاص. فإنّ استطاع المستجلي لجماليات الآيات الكريمة أن ينقل إحساسه بالجمال الفني والمقاصد الربانية بعد أن يكون قد عبّر الآيات لغة وأسرار لغة – إلى لغة تصح أن تكون تعليلاً وحواراً فذلك في غنى التراث الفكري والأدبي الذي يراد. وعليه فإنّ تفسير القرآن الكريم ينبغي أن لا يكون مرتبطاً بشخص دون آخرين أو بعصر دون عصور وذلك لأنّ الإحساس بجمال النصوص القرآنية وفنيتها ومقاصدها في الأمثال والتشبيهات والاستعارات والمجازات يعمقه غنى التجارب وخصب الأرض وتقدم وسائل التقنية والتلوين والإضاءة والتصوير والفنون الجميلة – ناهيك عن تقدم أسباب التحليل والتعليل والمحاورة والإقناع. وعليه فإن تعميق إحساسنا بجمال النصوص القرآنية وفنيتها ومقاصدها وإنّ أمة يمكن لها أن تمسك بالأمرين معاً ستكون حتماً وارثة الدنيا والآخرة وارثة عمل واستحقاق ومكافأة وتهنئة. ولن يكون السبيل إلى ذلك ممكناً ما لم تتوج اللغة العربية أعمال المتقين وما لم يتوج البيان العربي أولويات التخصص والدراسة في ميادين الفقه واللغة العربية. فهل يعود الإحساس بجمال النصوص القرآنية الكريمة غضاً كما كان في نفوس الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان؟ ذلك ما نرجو أن يكون.

 

المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد السابع لسنة 1982م

◄ (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).

التذوق الجمالي للنصوص هو استشراف ذاتي لها بكلِّ ما للذاتية من تفرد في الخلق ودرجة الاستجابة والعلم والمعطيات الحضارية. وهذا الاستشراف يعبر النص جمالياً بعد أن يعبره لغوياً. وعبور النص لغة – في حالة القرآن الكريم – يكون أقرب منالاً من خلال فهم الأسلاف وبخاصة من عاصر رسول الله (ص) منهم أو ممن تلاهم. كما أنّ عبوره جمالاً يكون أكثر عمقاً وأوسع دائرة كلما اقتربنا من العصر الحديث بما أفادته الدراسات الحديثة وفاضت به المخترعات. وإذن يكون التعامل مع كتاب الله تعالى بشكل أخص معادلة لها حدان: حد يسعى إلى القديم يستوحيه ويستنطقه المعاني وأسرار اللغة وحد يسعى إلى الحديث يتابعه ويغنى به ويوظفه في استجلاء شفافيات النص ولطائف الجمال فيه. فإن يستطع المتذوق نقل إحساسه بجماليات النصوص نقلاً يصح أن يكون حواراً وتعليلاً فقد غدا ذلك التذوق في الإضافة إلى ربما أوحت لأناس معينين في أوقات مختلفة أفكاراً في التعامل مع النصوص جديدة. وفي ذلك مكسب كبير للقراءة وللنصوص على حد سواء.

أوّل ما يطالعنا في الآية القرآنية الكريمة قوله تعالى: إنما وإنما هذه لها في البيان العربي مدلول؛ إذ إنا خالي الذهن يلقى إليه الخبر جملة إسمية أو جملة فعلية. أما إذا كان الخبر مؤكداً فإنّ ذلك يكون في معرض الجواب عن سؤال. فقولهم في العربية: (عبدالله قائم) إخبار عن قيامه. وقولهم: (إنّ عبدالله قائم) جواب عن سؤال. وقولهم: (إنّ عبدالله لقائم) جواب إنكار منكر قيامه.

وإذا كان الأمر كذلك، فاللغة العربية لغة حيّة، تأخذ الجُمَلُ فيها بعين الاعتبار نوعية السامعين والمخاطبين وأحوالهم. والحقيقة التي ينبغي التنويه بها، أنّ اللغة العربية هي لغة حية، تأخذ بعين الاعتبار الأحوال النفسية والاجتماعية والثقافية، بل والخلقية، لنوعية السامعين والمخاطبين. ولأنّها لغة راسخة التشكل والحياة لتكون الاستجابة الصحيحة للمقام الصحيح أو كما قال البلاغيون العرب: (لكلِّ مقامٍ مقال) فإنها لغة تستعصي على المستشرقين والأعاجم، ولا يكادون ينتهون عند بحرها إلى ساحل.

وإذن: فهل لنا أن ننتظر أن يكون ما بعد إنما في الآية القرآنية الكريمة جواباً عن سؤال؟ إنّ هذا ما يغري به وجود إنما. وهذا يقتضينا أن نعود إلى الآيات القرآنية الكريمة، التي وطأت لهذه الآية الكريمة كي نراها مطمئنة في سياقها؛ كي نراها خيوطاً متشابكة في لُحمة نسيج متجانس. وكلما كانت بقعة الضوء أكبر، كان ذلك في الوضوح الذي يسمح بالرؤية الأكثر شمولاً والأكثر تفصيلاً. وإذا جاز لنا التشبيه، قلنا إنّ ذلك مثله مَثَلُ دراسة ماهية جدار في قاعة. فكلما أخذت دراسة الجدار من حيث صلة الجدار بالقاعة، والقاعة بالطابق كله، والطابق من حيث انسجامه مع خطة المبنى الكبير في التصميم والبناء، كان ذلك أدعى لتكون التقديرات أجود وأفضل. فكذلك النص الأدبي في نسقه العام.

وحين نعود إلى أمام تبادرنا هذه الآيات بالنص:

(وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس/ 20).

وهنا يتقرر بأنّ أمر الغيث، هو من إختصاص رب العالمين وهو الذي يقدّر الأمور ويزنها، ويعرف مجرياتها ومآلها. فإن تنزل الله تعالى بآية للبشر، فقد فهموا عن ربهم. وهنا التوكيد على أنّ الآيات المنزلة (كتاب الله المسطور) هي التلطف الأوسع للحصول على "معلومات لدنّية" و"ومقاييس ربانية". وهذا في انسجام تام، مع ما تقرره آيات القرآن الكريم، من ابتعاث كلّ رسول إلى أمته، بلسان قومه ليبيّن لهم. ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم/ 4).

ومن ذلك قوله تعالى عن محمد (ص): (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الدخان/ 58).

ثمّ تدلف الآيات إلى جوِّ الرحمة يضفيه رب العالمين على الناس بعد ضراء مستهم. قال تعالى:

(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) (يونس/ 21).

وهذا التذوق لهذا التعاقب، حقيق أن يعقب في النفس الإنسانية إحساساً أكثر رهافة مما يعهده الناس العاديون. لقد تعاقب على هؤلاء حالتنان متطرفتان: فأولى بهم أن تَحْدُث لهم استجابات تغاير مألوف حياة الناس. ولا يقف الأمر عند مجرد أخذ العبرة من هذا الانقلاب المفاجئ في حياتهم، وتعميق الإحساس بمجريات الأمور، بل انّ قطاعاً من الناس كبيراً يكون هذا التذوق بداية لانعطافهم نحو طريق الخير، أو حتى مجرد تحييدهم بين معسكري الكفر والإيمان، إذا لهم مكر وتطوع إلى التضليل وقتل الخير. إنّ هؤلاء ينبغي أن لا يظنوا أنهم بنجوة من العذاب. إنّ هذه الأمور، كانت دروساً: إما ليقظة وإمّا لتأكيد خسرانهم، كي تكون أخذتهم رابية.

مثل هذا التذوق لهذا التعاقب، بين الرحمة والضر، له في الحياة الدنيا وتجاربها أمثلة نابضة بالحياة، غنية بتوهج الأحداث. من ذلك: السير في البر والبحر. قال تعالى:

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (تعلمون/ 22-23).

يُلْقَى الضوء على سفر البر ثمّ يركز على مواقف من البحر حيث تكون عوامل انحباس اللطف والإفاضة، أكثر نشاطاً واستحضاراً. وها هو الضوء يسلّط على المسافرين، بعد أن جازوا مرحلة تدقيق الأسماء، ورسوم المغادرة، وتحميل الأمتعة، وتوديع الأقارب والأحبة وإعادة التفتيش. ثمّ ها هو الضوء يسلّط مرة أخرى على لقطة أخرى، تختصر عامل التحول من الشاطيء، أو من الميناء إلى البحر في ماكنات القيادة، ونشر السواري وتوجيه الإشارات. وها هي السفينة تجري بريح طيبة محمودة حتى لا يبقى لأحد واحد في المليون من التردد في إمكان السفر، أو عدمه. وبذلك يكون أمر حشر هؤلاء في السفينة المصيدة قد تم. ولا يقف الأمر عند ذلك بل يتعداه إلى شعور القوم بالسعادة على الظروف الجوية المؤاتية. ثمّ يأتي التحول المذهل، الذي يفقد معه المرء القدرة على مواجهة الاحتمالات: عواصف هوج، وموج متلاطم من سائر الجهات، وأمل في النجاة يضعف ويبهت. في مثل هذا الموقف، الذي يرى المرء فيه الموت، وشيك الوصول تبدأ ذاكرته في عرض شريط المعلومات والأعمال والمواقف عرضاً بالغ السرعة. في مثل هذا الموقف يفزع كلّ صاحب معتقد إلى ربّ معتقده ينشد عنده الأمان في مثل هذا الموقف يستجلي بعض الناس حقيقة أنّ الكون كله يدبره إله واحد فرد صمد فيعاهد هؤلاء الله تعالى على السير في طريق الحقِّ، إن فازوا بالنجاة من الهلاك. ومن عجب، أنّ هؤلاء الذين كان لهم عهد مع ربهم يعودون سيرتهم الأولى، من الضلال، بل يعودون أكثر شراسة وأقل خيراً.

إنّ هؤلاء مهما أفلتوا من أسباب المنايا، وهما تقادمت بهم السن، وتطاول بهم العمر مآلهم إلى الموت. عشرون سنة، مئة سنة، مائتا سنة ثمّ تنتهي حياتهم الدنيا ويعودون إلى لقاء ربهم حيث يطول حسابهم.

إنّ هؤلاء الذين كان لهم عهد مع ربهم، هم المعنيون بشكل أخص في هذا الخطاب. وإن كان الناس جميعاً إنسهم وجنّهم، مشمولين بالدعوة إلى التفكر في هذه التفصيلات. إنّ الذين يكون لهم عهد مع ربهم سيجدون للقرآن الكريم طعماً مميزاً، غيّره روتين الحياة ومألوف العادات. إنّ الذين يكون لهم عهد مع ربهم، سيجدون لآثار ربوبية الله تعالى في الكون سحراً، لا يتراءى مثله لغيرهم لو صدّقوا الله تعالى العهد.

من هنا فإنّ القرآن الكريم، وإن كان يتلى للأجر وثواب التلاوة إلّا أنّ موقفاً واحداً من الحياة، يكون فيه عهد، مع نص مباشر يذكر به، سيكون للإنسان العاقل بداية انقلاب حقيقي في حياته وموقفه، من الكون ربّ الكون وظواهر الكون. إنّ التذكير حين يلامس تجربة شخصية، يحسّ المرء وكأنّه وحده المعني بالخطاب، وإن شمل الخطاب الناس جميعاً وإنّ ذلك له الانعكاس الإيجابي، الذي لا يخفى أثره حين يكون المرء قادراً على الانتفاع من تجاربه. ومن هنا يتبين في عصرنا الحاضر خطر تلاوة القرآن الكريم، من إذاعات يهود ولندن ومونت كارلو ومشبوهي أمة العرب. إنّ هذه التلاوة تقتل في السامعين تدبر القرآن، وتصيد مواقف العهد، التي إن لامست أسماعهم ووعتها قلوبهم، سوف تجعل منهم بشراً غير البشر ولهم مواقف غير المواقف.

ولأنّ مثل هذه العوامل واضحة أكثر في البحر، حيث صورة الماء الزاحف، والرياح الهوج اكثر تصادفاً؛ فإنّ صورة البر في الطيران والنقل الجوي، هي الآن على درجة عالية من الوضوح. وإذن فتقديم البر على البحر في الآية، ليس تقديماً عفوياً. انّه بعد اختراع الطيران وكثرة الكوارث الجوية بالقياس إلى الكوارث البحرية يصبح السفر براً أكثر تعاملاً مع تجارب مثل هذا العهد في جو الهلاك بحراً. وهذا ما يجعل الآية القرآنية متألقة الدلالة على المستويين معاً: البر والبحر. وهذه لطيفة كان إحساس الناس بها في الماضي أقل. وإنّ الحجة بها على المعاصرين لهي أكثر بهراً، بسبب من تقدم المعطيات الحضارية. وهذا في انسجام مع تنافي إعجاز القرآن الكريم مع اطراد التقدم العلمي للعقل البشري.

وحتى تكون الصورة أكثر تبكيتاً لهؤلاء الذين كان لهم عهد وتجربة فريدة من نوعها أنزل الله تعلى بقوله إنما، هؤلاء الناس منزلة السائل عن ماهية الحياة الدنيا. وإنزالهم منزلة السائل طريقة فنية يستخدمها القرآن الكريم في إثارة جو الترقب وانعطاف السامعين نحو السياق. ومثله في القرآن الكريم كثير. من ذلك قوله تعالى:

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...) (البقرة/ 186).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...) (البقرة/ 189).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...) (البقرة/ 217).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ...) (البقرة/ 219).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى...) (البقرة/ 222).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ...) (الأعراف/ 187).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ...) (الأنفال/ 1).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (الإسراء/ 85).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ...) (الكهف/ 83).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ...) (طه/ 105).

ولم يشأ الله أن تبدأ الآية بجملة غير مؤكدة تلقى لخالي الذهن لأنّ هؤلاء الناس ليسوا خالي الذهن. وإذن فإنّ التوكيد – علاوة على إنزالهم منزلة السائل – يزيد من تعميق الإحساس بالصورة المطلوبة.

ومن هذا الموقع يتبين فضل البيان على النحو. إذ انّ النحو، يحدد دور "إنما" كما يحدد الإنسان في تمايزه عن الحيوان. ولكن ليست "إنما" هي واحدة في جميع مواطن الكلم، كما أنّ الإنسان ليس ذاته في سائر بني البشر. إنّ "إنما" لها خصوصية معينة حسب موقعها من السياق. ومن طبيعة المقام ومن درجة إصغاء السامعين ونوعيتهم. إنّ "إنمان" في كلِّ موقع لها طعم مميز، ودور مميز وتوظيف مميز. وإنّه لمن عمل البيان، النفاذ إلى هذه الخصوصية وتبينها والوقوف عندها والتعليم عليها.

وعلاوة على دور "إنّ" في التوكيد، فإنّ "ما" تكفها عن العمل. وكفّ إنّ عن العمل، وإن لم يكن له خصيصة في النحو، إلّا أنّه هناك كأنّه وضع ما بعد إنّ في مرتبة المبتدأ والخبر، من حيث تساويهما في الشأن، أو من حيث هما طرفا معادلة التشبيه. وبذلك يكون الخبر على درجة من التنويه به عالية. ثمّ إنّ "ما" لها فضل إشباع الألف إشباعاً يتيح للمتلقي فرصة أكبر يحضر ذهنه ويستجمع من إصغائه غيره لو كانت إنّ وحدها.

ثمّ يَعْقُبُ ما مَثلُ. والمَثَلُ مقصود به تقريب الأشباه والنظائر والبحث عن المتشابهات. قال تعالى:

(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم/ 25).

(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت/ 43).

(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر/ 21).

وَمثَل الحياة الدنيا على أنّ المقصود ليس هو ماهية الحياة الدنيا من حيث هي بلازما ودم وأنسجة وخلايا ونمو وانما ماهية الحياة الدنيا من حيث وزنها عند الله تعالى وما ينبغي للمؤمن أن يراه فيها وحولها.

ثمّ تأتي معادلة التشبيه:

مثل الحياة الدنيا – (ماء أنزلناه من السماء... حصيداً).

نلاحظ أنّ المشبه به هو عشر جمل إذا فصّلت. وهي لوحات مختلفة نسق بعضها على بعض بترتيب زماني ومكاني، ووجه الشبه وأصل من تكاملها ضمن هذا النسق. انّ الشبه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض وإفراد شطر عن شطر، حتى إنك – كما يقول عبدالقاهر الجرجاني – لو حذفت منها جملة واحدة من أي موضع كان أخل ذلك بالمغزى من التشبيه. ولو شئنا التعبير الرياضي لقلنا إنّ س – ما داخل القوس جميعاً ويعامل كوحدة واحدة وعلى ذات النسق.

إنّ مثل الحياة الدنيا هو فيلم يتكون من عشر لوحات:

اللوحة الأولى: الماء ينزل من السماء. هل بالإمكان أن تؤخذ لقطة تصويرية لمنظر ماء ينزل من السماء؟ والجواب حتماً بالإيجاب. وإذن يؤخذ منظر هذا شأنه ولنعطه الرقم (1). ويلاحظ ربط إنزال الماء بالله تعالى وبالتالي فالمشبه والمشبه به ينتميان إلى ذات النظام.

اللوحة الثانية: فاختلط به نبات الأرض. الفاء تفيد النسق والترتيب. وإذن فهذه اللوحة تنسق على اللوحة الأولى. هل بالإمكان تصوير قطرات ماء السماء وقد داخلت نبات الأرض في مقطع عرضي للجذر أو الساق مثلاً؟ والجواب حتماً بالإيجاب. وإذن يؤخذ منظر رقم (2).

اللوحة الثالثة: أكل الناس هل بالإمكان أخذ لقطة مصورة لإنسان يأكل فاكهة؟ نعم.

اللوحة الرابعة: هل بالإمكان أخذ لقطة مصورة لبعير يأكل عشباً؟ نعم.

وإذن تؤخذ مناظر تمثل ذلك.

اللوحة الخامسة: أخذت الأرض زخرفها. هل يمكن أخذ لقطة تصويرية لمنظر بدت فيه الأرض تكتسي خضرة وجمالاً في الربيع؟ نعم يمكن ذلك. وتشبيه الأرض هنا بالفتاة تأخذ زخرفها وزينتها، ونشر جو الحركة في هذا الزخرف، والعمد إليه، مما لا يخفى جماله وبيانه.

اللوحة السادسة: هل يمكن أخذ لقطة مصورة لوجه الأرض، وقد بدا بالغ التزين والحسن؟ نعم.

اللوحة السابعة: هل يمكن أخذ لقطة مصورة لجني المحصول أو لموسم الحصاد ووفرة الإنتاج؟ نعم يمكن ذلك، بل أكثر من ذلك يمكن تخيل لوحة فنية للشعور النفسي الذي يعكس الجذل والسعادة الضافية والثقة الكبيرة بمستقبل رخي.

اللوحة الثامنة: هل يمكن تصوير كارثة (كالزلزال أو الفيضان) تحل في الأرض في مكان ما ليلاً؟ نعم.

اللوحة التاسعة: هل يمكن تصوير الكارثة تحل بالأرض في مكان ما نهاراً. نعم يمكن ذلك.

اللوحة العاشرة: هل يمكن تصوير وجه الأرض بعد الكارثة؟ نعم يمكن ذلك.

إنّ جماع هذه اللوحات والمشاهد هي مثل الحياة الدنيا. وواضح أنّه كلما  كانت اللوحات أكثر تحريكاً للنفس، وأكثر اتصالاً بالحياة، كان الانطباع العام الذي تتركه أكثر وضوحاً وأشد تأثيراً. وواضح أنّ هذه اللوحات يستمدها كلّ واحد من بيئته بقدر غناها البيئي، من قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ) (يونس/ 24)، وبقدر الجمال الذي يتراءى للعينين والنفس. كما أنّ هذه اللوحات على تتابعها وفق نسق معين، ينسق ثانيه على أوّله وثالثه على ثانيه وهكذا، إلا انّها متكثرة في اللون، والنكهة والطعم والحركة والصوت، تكثراً لا نهاية له. فكثافة الماء النازل من السماء وصفته، يتفاوت بتفاوت البيئات المختلفة. ثمّ نوعية الأرض والنبات والناس والأنعام، وكلّ هذه الجزئيات، لهي في التكثر الذي لا يعرف حدوداً.

وواضح أنّه كلما خطا العقل خطوات أفضل في عالم الجماليات، وفي دنيا التصوير والفنون، كان أقدر على التغلغل إلى دنيا التمثيل في القرآن الكريم، وأكثر استجابة لشفافيات الجمال واللطائف فيه، وذلك ما يتفق وموافقة الإعجاز البياني لكلّ زمان ومكان. إنّ الحُجة بالقرآن الكريم لا تكسب مع مرور الزمن إلّا ازدياداً.

إنّ جمال المركب يفضل المفرد. لأنّ الحسّ انما يدرك المركب من حيث هو شيء واحد؛ فأما تفصيل تلك الأجزاء بعضها عن بعض، وتمييز ما يكون داخلاً في حقيقته عما يكون خارجاً، فذلك إنما يتم بالعقل، لأنّ الحس كما يقول – فخرالدين الرازي – بما هو أشدّ اجمالاً أقدم من شعوره بما هو أشدّ تفصيلاً، فإنك بالنظر الأوّل إنما تدرك المرئي إدراكاً اجمالياً ثمّ ترى التفصيل بعد ذلك، وهكذا السمع فإنك تقف من تفاصيل الصوت بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية على ما لم تقف عليه بالسماع الأوّل. ومن المعلوم – كما يقول فخرالدين الرازي – إن بإدراك التفصيل تقع التفاضيل بين راء وراء وسامع وسامع.

وواضح من تفصيل الآية ومن التعقيب عليها (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، أنّ المقصود من عرض هذا الفيلم هو إحداث رجة في التفكير مع ضمان استمرار التدبر. وصيغة الفعل المضارع (يتفكرون) تزيد هذا الأمر وضوحاً وتوكيداً. ولأنّ هذه اللوحات هي من دورة الحياة التي تتجدد كلّ عام فإنّ الشعور بأثرها هو من التجدد بمكان كبير. وهكذا يصبح القرآن الكريم من خلال عرض لوحاته المتصلة بظواهر الكون شباباً يتجدد وألقاً يزداد. وأين من ذلك الأوصاف والنعوت والأفكار التي تعالج أمراً ثمّ تمضي بمضيه.

إنّ الأثر الحاصل من عرض هذا الشريط الذي هو الحياة لن يتأتى قبل أن تُعرض التفصيلات، وفق ذات النسق من حيث الزمان والمكان. ووفق ذات النسق من حيث التدرج والترتيب. وفي هذا الدليل على أنّ أي استنتاج يمكن أن يبنى على جزئية من جزئيات التفصيل، لتنعقد منه المشابهة مع الحياة الدنيا لن يكون مقصوداً، وإن بدت المتشابهات في الإغراء الكبير. إنّ ما داخل القوس يؤخذ جميعاً كوحدة تامة حتى تقوم المشابهة بين حدي المعادلة.

أمّا أن تقوم بعض جزئيات المركب بتعميق الإحساس ببعض الظواهر والمواقف والمقاصد، فهذا ما لا سبيل إلى دفعه. إنّ ذلك في الإغراء الذي يدفع الدارس والمدقق إلى تقليب النظر في المتشابه والمتكرر من جزئيات الصورة في القرآن الكريم، وفي أنساق الآيات والموضوعات المختلفة. وإنّ هذا الإحساس بها ليزيده التفرس في ملكوت السماوات والأرض، وفي تقدم وسائل التقنية والسمعيات والبصريات، وفي اختلاف المناطق الجغرافية وتفاوت ما بينها في المناخ، وكثافة الهواء ونوعية الأمطار ودرجات الحرارة والضغط عمقاً وتقديراً. ومن هنا تبيّن الفوارق ما بين مؤمن ملاحظ متدبر، وبين مؤمن تالٍ مكرر، ما بين مؤمن تهاداه الفلوات سائحاً مسافراً معتبراً، وبين مؤمن لزيم مكان بعينه ومناخ بعينه وجغرافية بعينها. ومن هنا تبيّن الفوارق ما بين مؤمن تخدمه معطيات الاختراع والاتصال والتصوير والفنون وبين مؤمن لم تمده معطيات عصره الحضارية بما يزيده إحساساً بجماليات جزئيات التشبيه وفنية الفيلم والصورة.

ولو شئنا استنطاق جزئية المركب حول موقف الإسلام من الإحساس بجمال الطبيعة لتبيّن لنا أنّ المؤمن لن يحسّ بجوهر الاستنتاج وحقيقة المقصد الإلهي ما لم يكن إحساسه بفنية الصورة في الزخرف والزينة عظيماً. وليست الصورة ظاهرة وحسب ولكن الصورة النفسية هي أيضاً في الحسبان. وأي صورة نفسية يمكن أن تكون أدعى إلى إبداع وتخيل بريشة الرسام من تصوير الجذل والشعور بالرضى والطمأنينة في قوله تعالى: (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) (يونس/ 24). إنّ نفسية المؤمن ينبغي أن تكون في الشفافية المتناهية التي تسمح لها بأن تستجلي اللطائف الجمالية والمواقف المعقودة عليها في الجزئيات وفي الكليات. وهذا لن يتأتى ما لم يعش المؤمن الحياة وأدوارها وظواهرها وتعدد أطوارها وتفاوت صورها وألوانها وعناصر الافتنان الفني فيها. ومن هنا يبيّن أنّ التصوف الذي يقصد به إلغاء توظيف البصر والسمع والتفكر إنما هو النسك الأعجمي كما أثر عن عبدالله بن المبارك وأنّ التصوف الذي يسعى إلى رؤية الوحدة في عين التعدد هو في علياء التفكر والتدبر وإرهاف العقل والحس معاً.

ولو أنا شئنا التفرس في تلمس الأثر الحادث في نفوسنا بعد مشاهدة هذا الفيلم عن دورة الحياة وتعاقب الأحوال واختلاف الألوان وتوظيف عناصر الحركة والصوت والوقت واختلاف الضمائر والتفاوت بين صيغ الأفعال على ما تحدثه من تناغم إنسيابي في لفظية السياق والتلفظ أيضاً – لوجدنا أنّ عدم الاغترار بالحياة الدنيا ونعيمها وزينتها هو أس المقاصف ومحمور التركيز. وإنّ هذا الاستنتاج ليغري به ربط الحياة الدنيا بالطمأنينة والغفلة في آية قرآنية كريمة متقدمة في ذات السورة: سورة يونس. يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/ 7-8).

ومن هنا يظهر أثر الحاجة إلى تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم فالآيات القرآنية الكريمة تنتمي إلى ذات النظام وفي ذلك ما فيه من استرواح النفس إلى صدق الاستنتاج حين يكون على ذلك السند من القرآن الكريم.

ولو أنا شئنا استقراء الآيات بشكل أوسع لتزداد بقعة الضوء على نسيج البحث والتدبر لوجدنا المزيد من الإغراء على ذات الاستنتاج. ففي سورة الكهف مثلاً، تطالعنا الآية القرآنية الكريمة: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) (الكهف/ 7-8). فزينة الأرض في هذه الآية و(أخذت الأرض زخرفها وازينت) في الآية السابقة هما في الاغراء الذي يوحد الرؤية. وكذلك الصعيد والحصيد ثمّ كذلك الابتلاء وتفاوت الناس في التفكر والاستنتاج والاستفادة من الظواهر الطبيعية والكونية في اتخاذ المواقف العملية في الحياة.

وإنا لنجد سنداً آخر من القرآن فيما يتصل بالغيب الذي فرش لدور الآية الكريمة موضوع الدراسة والغفلة عن آيات الله تعالى المسطورة منها والمنظورة التي اقترنت بالحياة الدنيا في الآية السابعة من ذات السورة. ففي سورة الأنبياء يطالعنا قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (الأنبياء/ 48-50).

فالمتقون مشفقون من عذاب ربهم ولا يصلون إلى درجة البطر في القدرة على الأرض ومواردها من قوله تعالى: (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْه) (يونس/ 24). ولإخفاء بجمال الربط بين إنزال الماء من السماء في قوله تعالى: (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) وبين إنزال القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء/ 50)، وانتماء الضمائر إلى ذات النظام – بما يضع المرء أمام صفحات الكون وأمام صفحات القرآن الكريم في ذات الوقت – وأنهما وجهان لعملة واحدة – إن جاز لنا التعبير.

ثمّ ها هو سند آخر لهذا الموقف من القرآن الكريم. قال تعالى: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف/ 99). وأما المتقون فعين على التفرس في خلق الله تعالى وآثار ربوبيته في الكون وعين على العاقبة حتى تكون العاقبة لهم. وفي ذلك استمرارية التفكر واستمرارية استلهام العبر واستمرارية التجدد الذي يزيده دوران الحياة واطراد الغنى الحضاري والبيئي – شباباً وتألقاً وتوهجاً. وفي ذلك ما فيه من استمرار توظيف السمع والبصر والفؤاد وأخذ العبرة وتغيير المواقف والأعمال والاتجاهات نحو الخير والحقّ والطاعات. وفي ذلك ما فيه من استدراج الطغاة من خلال الزخرف والزينة والظن بالقدرة على الأرض ومواردها. وهذا يقودنا إلى استنتاج واضحة مقدماته: إنّ زينة الحياة الدنيا وخيراتها تزيد المؤمنين إيماناً وتزيد الكافرين كفراً وتأثيماً. وهكذا يزيد دوران الحياة الفجوة ما بين معسكر الإيمان وبين معسكر الكفر ويعمل الوقت لحساب الإيمان ضد معسكر الكافرين.

ولأنّ الأثر الحاديث من رؤية الفيلم مقصود به استمرارية التفكر بما يغري به قوله تعالى عقب التفصيل (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) بصيغة المضارعة في (يتفكرون) فإنّ أمر تفسير مناظر الفيلم والإحساس بها مقصود به الذاتية أيضاً. أي انّ كلّ إنسان مدعو إلى أن يوظف سمعه وبصره وفؤاده في التغلغل إلى جزئيات الصورة وحنايا تفصيلاتها. وانّ كلّ إنسان يستطيع أن يتذوق فيها طعماً ويجد فيها متعة من نوع خاص. فإنّ استطاع المستجلي لجماليات الآيات الكريمة أن ينقل إحساسه بالجمال الفني والمقاصد الربانية بعد أن يكون قد عبّر الآيات لغة وأسرار لغة – إلى لغة تصح أن تكون تعليلاً وحواراً فذلك في غنى التراث الفكري والأدبي الذي يراد. وعليه فإنّ تفسير القرآن الكريم ينبغي أن لا يكون مرتبطاً بشخص دون آخرين أو بعصر دون عصور وذلك لأنّ الإحساس بجمال النصوص القرآنية وفنيتها ومقاصدها في الأمثال والتشبيهات والاستعارات والمجازات يعمقه غنى التجارب وخصب الأرض وتقدم وسائل التقنية والتلوين والإضاءة والتصوير والفنون الجميلة – ناهيك عن تقدم أسباب التحليل والتعليل والمحاورة والإقناع. وعليه فإن تعميق إحساسنا بجمال النصوص القرآنية وفنيتها ومقاصدها وإنّ أمة يمكن لها أن تمسك بالأمرين معاً ستكون حتماً وارثة الدنيا والآخرة وارثة عمل واستحقاق ومكافأة وتهنئة. ولن يكون السبيل إلى ذلك ممكناً ما لم تتوج اللغة العربية أعمال المتقين وما لم يتوج البيان العربي أولويات التخصص والدراسة في ميادين الفقه واللغة العربية. فهل يعود الإحساس بجمال النصوص القرآنية الكريمة غضاً كما كان في نفوس الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان؟ ذلك ما نرجو أن يكون.

 

المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد السابع لسنة 1982م

ارسال التعليق

Top