• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

غياب الأخلاق وأثرها في إنهيار النظام الاقتصادي العالمي

د. رفيق يونس المصري

غياب الأخلاق وأثرها في إنهيار النظام الاقتصادي العالمي

إنّ القول بأنّ النظام الاقتصادي الرأسمالي نظام غير أخلاقي ليس قولنا نحن المسلمين، بل هو من شهادة أهله أنفسهم. فهؤلاء الرأسماليون الإصلاحيون يقولون إنّ الفكر الاقتصادي فكر قاصر وضال وظالم وغير أخلاقي.

نعم، هناك نزعة فكرية غربية تربط بين الاقتصاد والأخلاق، ولكنّها نزعة غير فاعلة. فالنزعة السائدة في الحياة العلمية والعملية هي الفصل بين الاقتصاد والأخلاق. فبعضهم يرى أنّ الاقتصاد علم مستقل لا علاقة له بالأخلاق (Amorale)، وبعضهم يرى أنّ الاقتصاد لا بأس أن يتعارض مع الأخلاق (Immorale)، فليس من شأنه أن يراعي الأخلاق. وليس لعلماء الأخلاق حكم عليه، والأحكام الأخلاقية فيه أحكام مرفوضة، فهو يهتم بما هو كائن، ولا يهتم بما يجب أن يكون.

ويرى العلماء الغربيون المذكورون أنّ أهم أربعة مجالات تتجلّى فيها المظاهر غير الأخلاقية للنظام الرأسمالي هي: البنوك، والبورصات، والوظائف المالية (الضرائب)، وتوزيع الدخول والثروات.

 

- في مجال البنوك:

البنوك في النظام الرأسمالي قائمة على الفائدة التي هي سبب من أسباب التقلُّبات والدورات والأزمات. ولأجل الفائدة يتم التوسع في الائتمان، بواسطة الاحتياطي النقدي الجزئي، بحيث تقرض البنوك أموالَ المودعين بصورة مضاعفة أضعافاً كثيرة، بغية تعظيم الفوائد والأرباح. وقد تستعمل هذه البنوك الودائع القصيرة الأجل في قروض طويلة الأجل، لتحقيق فوائد أعلى. ولهذا السبب نادى بعض رجال الاقتصاد، إثر أزمة الكساد الكبير عام 1929م، بأن تكفّ البنوك عن الائتمان، وأن تُترك مهمّة إصدار النقود وخلقِها جميعاً للدولة، لكي تعود أرباح إصدار النقود للدولة والمجتمع. والبنوك تقترض من الفقراء، ولكنّها لا تقرض إلّا الأغنياء. وتُتهم البنوك بأنّها تعطي للناس المظلة عندما لا يحتاجون إليها كثيراً، وتسحبها منهم عندما يحتاجون إليها. وربّما يتملّص هؤلاء الأغنياء من السداد، فيهتز البنك المقرض، وقد يتعرّض للإفلاس، وإذا أفلس بنك فقد تلحق به بنوك أخرى كثيرة.

 

- في مجال البورصات:

كما أنّ البنوك قائمة على الفائدة، فإنّ البورصات في النظام الرأسمالي قائمة على المضاربة على الأسعار (Specualtion)، وهذه المضاربة هي أشبه بعمليات المقامرة والمراهنة. وهي ليست منتجة، لأنّ ما يربحه أحدهم يخسره الآخر، بالإضافة إلى ما فيها من كيد وخداع. فالمتنفذون فيها والمطلعون على الأسرار يعتمدون على معلومات داخلية (Inside Information)، فيربحون على الدوام. أمّا الصغار، فلا يربحون إلّا على أساس الحظ أو اليانصيب، وغالباً ما يتعرّضون لخسائر ماحقة تودي بثرواتهم وتخرّب بيوتهم. لذلك قال الغربيون أنفسهم: إنّ البورصة صارت نادياً كبيراً للقمار، وانسحبت هذه الصفة ليوصم بها النظام الرأسمالي كلّه. فالنظام الرأسمالي قائم على القمار والخداع، بالإضافة إلى الرِّبا والاحتكار، وكلّ هذا وأمثالُه منافٍ للأخلاق والأديان.

 

- في مجال الوظائف المالية (الضرائب):

عندما كنت أقرأ الحديث النبويّ المتعلِّق بالزكاة بأنّها تؤخذ من أغنيائهم وتعطى لفقرائهم، كنت أستغرب هذا التفصيل وأراه بدهياً، لكني لمّا رأيت أنّ الضرائب في النظام الرأسمالي تؤخذ من فقرائهم وتُعطى لأغنيائهم، وأغنياؤهم يتهرّبون منها، أدركت قيمة هذا التفصيل والبيان في الحديث النبويّ الشريف. ففي النظام الرأسمالي كما أنّ الودائع تؤخذ من الفقراء وتُعطى للأغنياء، فكذلك الوظائف المالية. ولهذا تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

 

- في مجال توزيع السلطات والثروات والدخول:

النظام الرأسمالي يكرّس التفاوت الكبير بين الأغنياء والفقراء، بين الأقوياء والضعفاء. والسلطة والثراء ليسا ناتجين في هذا النظام من أسباب مشروعة دائماً. فهناك دور كبير للاحتكار والاستئثار واستغلال النفوذ والكسب غير المشروع والإثراء بلا سبب والمافيات وتجّار السلاح والجنس والفجور. والذين يضعون التشريعات واللوائح هم الأثرياء، يضعونها حسب مصالحهم، ولو أضرّت بمصالح الآخرين. والعلاقات بين الناس هي علاقات قوّة  (Rappors de Force)، وليست علاقات حقّ. والقوّة عندهم هي الحقّ (Might is Right)، والحقّ لا قوّة له، ولا يؤخذ من القوي للضعيف. القوي يخافونه، والضعيف يزدرونه ولا يبالون به، بل قد يتكاثرون ضدّه، ويسلبونه ماله وأرضه وعرضه. الغني مرفّه، بل ينفق ماله في السرف والترف، والفقير لا يجد حاجاته الأساسية ولقمة عيشه.

 

- في مجال الإدارة:

بسبب غياب الدِّين والخُلق من الاقتصاد والإدارة والتجارة، فقد انتشر الفساد الإداري، وتفشّت الرشوة، وساد الترهُّل والتسيُّب، وأفلست شركات عالمية كبيرة، في غياب المحاسبة والمراقبة والمساءلة والجزاء ومكاتب المراجعة الجادة ووكالات التصنيف الأمينة. وصار المديرون يسعون للحصول على أعلى الرواتب. وبالإضافة إلى ذلك، يسعون إلى دعم رواتبهم بمصادر أخرى غير مشروعة، كالرشاوى والسرقات واستغلال النفوذ. وكثيراً ما يحدث تنازع مصالح بين المالكين والمديرين، نتيجة الفصل بين الملكية والإدارة، ونتيجة عدم التكافؤ في المعلومات بين المالك والمدير، وبروز ظاهرة الخطر الأخلاقي (Moral Hazard). وليس من السهل إيجاد حلول لهذا التنازع. وهناك محاولات في علمي الاقتصاد والإدارة في هذا الباب، لاختيار عقود مصممة بشكل يخفف من هذه المخاطر الأخلاقية. وتنتشر في أسواقنا كُتُب مترجمة في مجال الإدارة وغيرها من العلوم، لا تعلِّم الناس العلم، بل تعلِّمهم الثرثرة والكذب والدجل والخداع.

كيف يتكلّم ولو كلاماً فارغاً، وكيف يبدي ثقته بنفسه ولو كان جاهلاً، وكيف يقنع الناس ولو كان بلا حجّة ولا برهان، ولا كتاب ولا سلطان. كيف يكون إدارياً ناجحاً أو محللاً مالياً بارعاً أو مفكراً اقتصادياً بارزاً... إلى آخر هذه الأكاذيب. فيقول لك: أثبتت الدراسات ولم تثبت، ويقول لك: الأرقام لا تكذب، صحيح أنّ الأرقام لا تكذب ولكن أصحابها يكذبون.

في عام 1980م، نشرتُ في مجلة الأمان اللبنانية في بيروت مقالاً مترجماً لجاك آتالي بعنوان (شنّ الهجوم على أكاذيب العلوم)، وهو اقتصادي فرنسي بارز كان مستشاراً للرئيس فرانسوا ميتيران، يُبيِّن فيه صاحبه أنّ الكذب انتشر حتى في العلوم. ومَن أراد الاطلاع على هذا المقال فهو منشور في كتابي (بحوث اقتصادية).

أخيراً، أحبّ أن أقول بأنّ الحديث عن الأخلاق عندهم في الغرب وعندنا في البلدان الإسلامية لا يكفي، وقد يقصد به التعتيم على المشكلات الأساسية، والإيحاء بأنّ المشكلات في طريقها إلى الحل، لكن الأخلاق ما لم تتحوّل إلى قوانين ولوائح ومؤسسات، فإنّها تبقى غير فاعلة.

وأحبّ أن أقول أيضاً بأنّ هذه المفاسد الأخلاقية المنتشرة في النظام الرأسمالي، منتشرة في مجتمعاتنا أيضاً، لأنّنا نقلِّدهم ونحاكيهم في سلوكهم وتصرُّفاتهم وعلومهم وإعلامهم. وإذا كان ثمة اقتصاد رأسمالي أو إقطاعي، قيل عنه إنّه اقتصاد إسلامي، فإنّما يقال زُوراً وبُهتاناً، والإسلام بريء منه. علينا أن نخلص الاقتصاد الإسلامي من التلبيسات والتشويهات لكي يكون اقتصاداً حقيقياً لا صورياً، وفاعلاً لا شكلياً.

 

المصدر: كتاب الأزمة المالية العالمية.. هل نجد لها في الإسلام حلاً؟

ارسال التعليق

Top