• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كونية الأديان ومركزية الإنسان

د. عزّالدين عناية

كونية الأديان ومركزية الإنسان

لقد أتى الإسلام تصحيحاً للعديد من المفاهيم، التي تلبّست بدلالات خاطئة داخل الأديان السابقة، مثل الكونية والشمولية. فقد سادت نزعات تضييق لرسالات الأديان الإبراهيمية، مما أدّى إلى تسرّب بعض المفاهيم المغلوطة التي امتدّت إلى ثنايا الفكر الإسلامي. فالراجح بشأن الديانة اليهودية لدى أغلب المسلمين، أنها أتت لهداية جماعة محدّدة، وهو ما يتضارب كلّياً مع روح الرسالات السماوية. ولعلّ توجّه موسى وهارون بدعوتهما نحو فرعون وآله وقومه خير دليل على تهافت هذا الفهم الخاطئ لدى بعض الباحثين بإغماط الديانة الموسوية حقيقة عالمية رسالتها.

فالمركزيّة الإنسانية التي حاولت الأديان الثلاثة بالتساوي ترسيخها في العقل البشري، تحوّلت بفعل تأويلات الأتباع اللاحقة إلى مركزية فيالدين. ولعلّ الزيغ عن التقديس والتكريم للإنسان إلى التقوقع داخل حصون الدين الأوحد، بمفاهيمه الخاطئة، كان أكثر الانزلاقات خطراً في الفكر الديني. ليست المركزية الإنسانية تجاوزاً للإلهي أو نفياً أوإلغاءً لدوره، وإنما هي تجسّد لاكتمال التكليف النبوي الإلهي واختتامه. وقد آن للعفل الإنساني الذي بلغ آخر مطافات ترشيده أن يتحمّل شجاعة وجوده في غياب أي فعل تنبؤي رسولي، كما عبّر عن ذلك إقبال في قوله: "إنّ النبوّة في الإسلام إنما تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمِداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأنّ الإنسان لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك لكي يعتمد في النهاية على وسائله هو. إن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة المُلكن ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدّوام، وإصراره على النظر في الكون والوقوف على أخبار الأوّلين من مصادر المعرفة الإنسانية، كلّ ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة"[1]. ومن هذا المنطلق تصبح كافة الرؤى الفكرية في الحياة مشروعة التواجد، باعتبارها التماس لصياغة المشروع الاستخلافي الذي يتحمّل فيه الإنسان مسؤوليته التامة، بعد غلق باب النبوّة واكتمالها في التاريخ، وهو ما ينبغي التنبّه له من خلال وعي أصيل بمبدأ استخلاف الإنسان. وتتميّز المركزية الإنسانية النابعة من الأديان الإبراهيمية بكونها إيمانية في توجهاتها وأهدافها. فوعيها بالتشوّهات اللاحقة بالأديان عبر مسار تاريخ تأويلات الدّين، من شأنه أن يعيدها إلى المنابع النقيّة المصدرية، ليس بافتنان أسطوري ولكن بوعي تاريخي مدرك لأصالة التوجّهات الرسولية مع موسى وعيسى ومحمد. إذ إن ما سقطت فيه المركزية الإنسان مع التحوّلات الفكرية في العصور الحديثة، مع طابع إلحادي مع الألوهية وإلغائي للروحانيات، الذي قاد البشرية إلى مطافات القلق الوجودي، الباطني والظاهري، بجميع آثاره وتجلّياته، انجرّت عنه في الأحقاب الأخيرة عودة مسعورة للمركزية الألوهية المشوّهة مع الأصولية، وهو ما يتنافى مع رسالات الأديان التي نشأت في أصلها عوناً للإنسان وما خُلق الإنسان لخدمتها حتى يفتقد رسالته ودوره في الكون، وقد عبّر المسيح عن ذلك بقوله الشهير: "ما جُعِل الإنسان لخدمة السّبت وإنما جُعِل السبت خدمة للإنسان"[2]. فإفراغ الإنسان من كينونته، من خلال نزع وازع الفطرة الساكن فيه وتعبئته بالأوهام، وحشره باللامعقول باسم الإلهي والغيبي فعلة خطرة، التنبّه إليها مستلزم لإعادة تشكيل الإنسان على سويّة. فأخطر المآزق التي ألمت بالإنسان الحديث وقوعه تحت انجذابين: التنصّل من الدين كليّاً والارتماء في أحضان النشاط اللاديني، أو العودة إلى الدين طبق الصورة الهلامية الساكنة في اللاوعي والمتولّدة عن التجارب التأسيسية المبكّرة. والواقع أن حالات القلق بائنة في العديد من التجلّيات في تلك الفضاءات التابعة لذلك التراث، حيث إن أطرافاً عدّة داخل التجمّعات اليهودية والمسيحية والإسلامية على رهب وتخوّف كبيرين من التجربة الدينية، كما نجد أطرافاً أخرى، ولعلّها قلّة، على تحفّز وإصرار بأنّ الخلاص يكمن في العودة إلى الأصول التأسيسية. فدعوى التنصّل من الدين واعتبار حدوده لا تتجاوز المشاعر القلبية، لا بصفته مشروعاً شاملاً ومتجاوزاً للفعل الطقسي فحسب، تهدف إلى تأسيس الإنسان في ظاهريته لا في فطريته، أي في السعي لتأليهه واستبداله بإلهه، وهي نزعة متطرّفة ومؤسِّسة لتشويه خطير في الذات البشرية. أما التوجّه الثاني فهو مسكون بالشغف البدئي، أي بمرحلة التجربة النبوية، التي لم يتخلّص فيها الإنسان من السند الإلهي، وهو توجّه ارتجاعي بالاستخلاف الإنساني ومسؤوليته في الكون، وفيه تفريط كلّي بما حقّقه الإنسان من استقلالية وتقدّم على مستوى التحكّم بمقدّرات وجوده. ويبدو أن تحقيق الوحدة، بوعي بما لدى كلّ من الطرفين من منزع صادق وفاعل، هو الأساس الحق الذي يتأسس على مرتكزاته مشروع الإنسان.
الهامش: [1]- محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود العقّاد، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1955، ص 144.

[2]- إنجيل مرقس 2: 27.

المصدر: كتاب العقل الإسلامي.. عوائق التحرر وتحديات الانبعاث

ارسال التعليق

Top