• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف نسهم في تنشئة الأجيال الصالحة؟

زكية حسين

كيف نسهم في تنشئة الأجيال الصالحة؟

على الرغم مما اتحفنا به الفكر المعاصر من نظريات برّاقة، فقد سلب هذا الفكر في الوقت ذاته، إنسانية الإنسان وافرغه من محتواه وجعله هيكلاً فارغاً وقشوراً خاوية، لا معنى له ولا هدف ولا غاية سوى انّه يعيش ليأكل ولا يأكل ليعيش.

وهكذا أصبح الإنسان في مدرسة الفكر الحديث حيواناً مسعوراً، يفتّش عن المادة المفقودة بشراهة وشراسة.. حيواناً يسعى وراء المادة والجنس! هذا هو الإنسان كله. ولما كانت المادة – بنظر هؤلاء – هي التي تيسّر كل ضروب اللذة والاحترام والتقدير.. تحوّلت علاقات الإنسان إلى صراع وتنافر ونزاع وجدل مستمر وقتال متواصل. انّ المادة إذا لم تهذّبها الأخلاق والقيم الروحية تنقلب إلى وحش كاسر لا يعرف للرحمة معنى. فما هو الحل؟ وكيف نستطيع تحويل علاقات الناس والمجتمع من الصراع والتناحر المدمّر، إلى تواصل ومحبة ومنافسة شريفة؟ إذ لا نستطيع ذلك من خلال المقاييس المادية، وقد واجه الإسلام في ما مضى نفس المشكلة، فطرح مقياساً آخر، هو القيم الروحية النابعة من تقوى الله ورضاه. نلمح ذلك في الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). ويلاحظ القارئ انّ الله تعالى قال لتعارفوا ولم يقل لتتصارعوا أو تتناحروا، لأنّ الحياة مع الصراع والتناحر والقتال، لا توفّر للإنسان جو الطمأنينة والسعادة والازدهار، ولا تحل مشاكله الأساسية. ولا يتوفر هذا الجو الرقيق إلا مع التراحم والتعاطف والانفتاح والتواصل الاجتماعي، بين الشعوب والمجتمعات، والمنافسة الشريفة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران/ 103). ولا يتم ذلك إلا مع سيادة القيم الروحية ومقاييسها وعنصرها الأساسي المتمثل بالتقوى، فالتقوى هو المحور، وعلى أساسها تقوم القيم والمبادئ العملية، وهي المقياس في احترام الإنسان أو إهانته.   - نحو برنامج موجّه: إنّنا بحاجة إلى برنامج تربوي موجّه، وثورة في التخطيط والتعليم لتغيير المجتمع وارساء القيم الجديدة. ولكن هل يمكن أن يجنح الإنسان للقيم الروحية كما يجنح اليوم للمال؟ أجل يمكن ذلك، فلو تم تدريب المجتمعات الإنسانية على القيم بدل تقديس المال، فسيصبح المال وسيلة لا غاية، وتصبح القيم الروحية هي المقياس الجديد. فإذا دعمنا جانب القيم في الإنسان قبل أي شيء آخر وربّيناه عليها، فستكون القيم هي العملة الجديدة التي يتعامل بها الإنسان، وسيكون تقوى الله محط أنظار الجميع. وسيتم كل ذلك بواسطة التربية الجديدة، وتنشئة جيل جديد من الشباب والفتيات وأعداده ليحمل هموم القيم الروحية وطموحاتها. وبالتربية القويمة سيتم بناء النفوس وحمايتها، بالإضافة إلى أنّ التغيير الداخلي في عمق النفس والشخصية، وتربية الإرادة، هو السلاح الذي يمكّن الإنسان من بناء الحضارات ومواجهة المستقبل.   - الآباء والأبناء.. مسؤوليات متبادلة: يجب أن تبنى العلاقة بين الطلاب والمربين على أساس المحبة والاحترام المتبادل، ولابدّ من تمرين الشباب وتدريبهم وإعدادهم وشحنهم بالقيم من خلال القدوة الحسنة والمثال الصحيح والنموذج الكريم المتمثّل بالآباء والأُمّهات والمربين، وعلى ضوء القرآن، الينبوع الأوّل الذي استقى منه المسلمون الأوائل مبادئهم وقيمهم، فكانوا رواد العلم وقادة في الأُمم والحضارات.. وهكذا ينشأ الإنسان الصالح المفعم بالمبادئ والقيم النبيلة.   - دين الآباء على الأبناء: إنّ أكثر التصرُّفات الخاطئة التي يرتكبها الإنسان في حياته ناجمة عن إهمال الأبوين وتقصيرهما في تربية ولدهما منذ الصغر. انّ أكثر العباقرة والمصلحين ممن اناروا سبيل الإنسانية وحملوا مشاعل الخير للعالم، مدينون في حياتهم ونجاحهم لتوجيه والديهم ومربّيهم. فالنتائج العظيمة والمُثمرة، لا تأتي إلا مع التخطيط والاعداد والتربية والتوجيه. وبودّنا أن نؤكد في هذا النطاق، انّ الحق والصدق والعدل والمحبة والتعاون والإيثار والأخلاق والتضحية والعزّة والكرامة واطاعة الله في السرّ والعلن، كلها ظواهر القيم الروحية المختزنة في شخصية الإنسان، وهي الينبوع الأساس الذي تستمد منه كل القيم وجودها وصدقها واستمرارها.   - دور الأسلوب.. جوهري أيضاً: لكي تكون الفكرة مؤثرة وفعالة، لا يكفي أن تكون صحيحة فقط، وإنما تحتاج أيضاً إلى رجال صالحين ونساء صالحات كفوءات يعلّمنها اتقن الأساليب واحكمها. فكيف تجمع بين الفكرة الحسنة والمعلم الجيِّد؟ هنا يكمن أحد أسرار النجاح في أسلوب التعليم ومضمونه، أما إذا كانت الفكرة سيئة والمعلم غير كفوء، فها هنا يكمن أحد أسباب اخفاق التعليم. فالطريقة الصحيحة هي تعليم القيم بالقول والفعل، ويُروى عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة انّه قال: "من نصّب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها احق بالاجلال من معلم الناس ومؤدّبهم".   - قدوة أخرى: بعد الوالدين، يأتي دور المعلم ليصبح قدوة لتلاميذه، يراقبونه ويقلّدونه من حيث لا يعلم، فالمفروض أن يكون صالحاً حتى ينعكس ذلك على سلوك تلاميذه. ولتربية الطفل على الوجه الصحيح، يجب اعداد المعلم والمعلمة اعداداً سليماً، لأنهما المفتاح للاصلاح التربوي والضمان للأسلوب الناجح. ومن المسلّم به أنّ دور المعلم والمعلمة خطير، لأنّهما أحد أهم وسائل تغيير المجتمع والإنسان، وتنمية الأفكار والأخلاق والتأثير في المجتمع، فلا يجوز أن يحوّلها إلى وجهة أخرى منحرفة. فدور المعلم والمعلمة، نشر الحقيقة جنباً إلى جنب مع القيم والفضيلة، ووعي مشاكل الشعوب وآلامها، والعمل على تحقيق تطلّعاتها وآمالها العريضة، وليست تلقين المعلومات بشكل تقليدي دون وعي إبداعي وتغييري بنّاء. ولا شك انّ المعلم الذليل المقهور يخرج جيلاً ذليلاً خنوعاً، والمعلم القوي المحترم الناجح يبني جيلاً قوياً ناجحاً. وقد اهتم الإسلام بالمعلم لأنّه أحد أهم وسائل تغيير المجتمع والإنسان والسلوك والتأثير على الناس وتنمية الأفكار والأخلاق والمناهج قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 43). قدور المعلم لا ينحصر في الانماء الفكري وتلقين المعلومات، بل يمتد إلى الإلهام الروحي والإنساني والأخلاقي والاجتماعي.   المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد (92)

ارسال التعليق

Top