• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مدرسة التأريخ

أسرة البلاغ

مدرسة التأريخ

◄ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/ 111).

(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) (إبراهيم/ 45).

(لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة/ 12).

ويتحدث القرآن عن تجارب الشعوب والأمم، ومسيرة التأريخ، وحوادث الماضي، خيرها وشرها ليثقف الأجيال، وليتخد من التأريخ مُعلماً ومدرسة وخبرة إنسانية فاعلة. يتحدث له عن الهدى والضلال وعن الصراع الفكري والعقيدي بين الأنبياء (ع) وبين الطواغيت والمجرمين، ويتحدث عن تسلط الطواغيت والإرهاب ويتحدث عن خيرات الطبيعة وظروف المعيشة والاقتصاد، وما فيها من رخاء ونعمة واستقرار، ومن ضيق وعسر ويتحدث عن الظلم والاستكبار والمستضعفين ويتحدث عن كوارث الطبيعة وآثرها في حياة الإنسان.

ويتحدث عن السُنن والقوانين التي تتحكم في مسيرة الحوادث والوقائع، ليثقف الإنسان ويوضح له انّ حركة التأريخ والمجتمع تجري وفق قوانين وسنن، وليست حركة عشوائية.

إنّ هذه القوانين والسنن تنطبق على إنحلال الدول والحضارات وسقوط الأمم وتدهورها، كما تنطبق على رقيها وتقدمها، فكلّ أحداث التأريخ وحركة المجتمع، سواء التصاعدية المتطورة منها، أو الحركة التنازلية نحو السقوط والتدهور والانهيارـ انما تجري وفق قوانين وسنن إلهية، وبعبارة أخرى كما تنطبق قوانين العلية والسببية في عالم الطبيعة، كما في قوانين الفيزياء والكيمياء وعالم الأحياء، فكلما وجد السبب وتوفرت الشروط والظروف اللازمة والمتماثلة أعطت نتائج متماثلة وفي أي زمان ومكان.. فإنها تجري على وقائع المجتمع والتاريخ الإنساني وحوداثه، فكلّ حركة التاريخ والمجتمع تجري وفق قوانين وسنن، وانّ تكرر تلك العلل والأسباب أو الظروف ينتج عنه تكرر الوضع الاجتماعي والتأريخي نفسه، وينبغي أن نوضح هنا انّ الفارق بين حوادث الطبيعة، سواء الطبيعية أو المختبرية تجري بصورة قسرية، اما في عالم الإنسان والمجتمع فتجري الوقائع والحوادث بصورة اختيارية فالإنسان حر مختار وهو الذي يدفع نفسه تحت طائلة القانون التاريخي فيفقد اختياره باختياره.

لذا نجد القرآن يحذر من تكرار الأوضاع التأريخية التي مارسها الطغاة والمفسدون والمجرمون والظالمون، وقادة الكفر والجاهلية والضلال لئلا يحل بالأجيال المتلقية لهذا التحذير والتثقيف ما حل بالماضي من كوارث وخراب ودمار، ذلك ما نقرأه في قوله تعالى:

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/ 111).

عبرة وموعظة ودرسا لأصحاب العقول الذين يعون فلسفة التأريخ، وتجربة الماضي، ودلالة الحدث مفسراً بعلله وأسباب حدوثه، وتجسد آثاره ونتائجه.

والقرآن يتحدث عن طواغيت الأرض والمفدسين فيها، وعن المصير الذي حل بهم، ويحذر من تكرار المشهد والسلوك الطاغوتي والتسلطي، وكثيراً ما يركز القرآن على الظاهرة الفرعونية باعتبارها اسوأ مظاهر الظلم والطغيان والفساد.

نقرأ هذا البيان في خطابه تعالى للنبي موسى (ع): (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (طه/ 24).

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (الفجر/ 10ـ13).

ثم يتحدث عن صورة من صور هذا الطغيان والاستبداد والتكبر الذي عبَّر عنه فرعون بموقفه وقوله:

 (فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) (النازعات/ 23ـ26).

وهكذا يلفت القرآن الأنظار، ويوجّه العقول للعبرة والموعظة، ويدعو لاستفادة التجربة ووعي الماضي: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) (النازعات/ 26).

والقرآن يوضح انّ هناك قوانين وسنناً إلهية، كما أسلفنا، تجري وفقها حوادث التأريخ، وأوضاع المجتمع البشري.. نقرأ هذه البيانات في قوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الفتح/ 23).

(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 137ـ138).

(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) (فاطر/ 42ـ44).

ومن سنن الله تعالى وقوانين التغيير الاجتماعي ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).

وهكذا يعرض القرآن تعريفاً واضحا للإنسان، ويوضح انّ ما جرى في الماضي قد جرى وفق سنن وقوانين انطبقت لأسباب وموجبات، وذكر من هذه الأسباب الظلم والطغيان والكفر والاستكبار والفساد والظلم والجريمة، وانّ أي مجتمع تكثر فيه هذه الظواهر فسينطبق عليه القانون الإلهي، قانون العقاب والدمار والخراب.

وفي هذه الآيات، وفي آيات أُخر يدعو القرآن الإنسان إلى أن يسير في الأرض فينظر آثار الأمم والشعوب الماضية، ويرى ما حلَّ بها من خراب ودمار؛ ليكون ما يشاهده درساً وموعظة فلا يكرر ما فعلوه؛ لئلا يحل بالحاضرين ما حل بالماضين.. نقرأ من هذه البيانات: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل/ 69).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (يونس/ 13).

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) (القصص/ 58).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46).

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) (الروم/ 41ـ42).

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) (السجدة/ 26).

وفي هذا السياق يتحدث القرآن عن الاستبدال عندما تنحرف مسيرة الإنسان عن جادة الصواب والهوى والإصلاح، واستبدال أمة مكان أمة وزعامة ورئاسة مكان رئاسة وزعامة، ذلك ما نقرأه في البينات الآتية:

(إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة/ 39).

(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/ 38).

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (هود/ 57).

(فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام/ 89).

وكما عرض القرآن نماذج من الشعوب والأمم والحكام الطغاة، وما لاقوا من دمار وعقاب، كذلك عرض نماذج أخرى من الذين أقاموا العدل واستقاموا وسلكوا السلوك السوِّي فعاشوا في ظل العدل والمحبة والسلام.

نسجل من هذه الآيات قوله تعالى:

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) (الحج/ 41).

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 55).

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص/ 5).

(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة/ 24).

تلك مدرسة التأريخ، وتجربة الإنسان وموعظة القرآن (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق/ 37).

ارسال التعليق

Top