• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مفاهيم أساسية في القانون العام لحماية البيئة/ج1

د. داود عبدالرازق الباز

مفاهيم أساسية في القانون العام لحماية البيئة/ج1

مقدمة:
اهتم الدارسون والمفكرون بالبيئة في العديد من مجالات تخصصاتهم حتى صار من المسلم به أنّ حماية البيئة من التلوث تعد إحدى مفردات الخطأ العالمي، التي تلقى كثيراً من الاهتمام الدولي.
ومن أجل ذلك عقدت المؤتمرات الدولية والإقليمية من أجل حماية البيئة، كان آخرها المؤتمر الذي عقد في أغسطس 2002 في جنوب أفريقيا، وعلى مستوى الإقليمي عقدت دولة الكويت أحدث مؤتمر عن دور القضاء في تطوير القانون البيئي في منطقة العربية في أواخر أكتوبر 2002، ومن قبل ذلك عقدت كلية الحقوق بجامعة الكويت مؤتمراً عن التشريعات البيئية في سبتمبر 2000.
ومفاد ذلك أنّ الفقه والقضاء في دولة الكويت – وبالطبع في غيرها من الدول – حريصان على المحافظة على البيئة من خلال التشريعات التي تضعها الدولة لحماية الصحة العامة وكذلك لوائح الضبط الإداري، ثم قيام القضاء بتطبيقها فما يعرض عليه من منازعات، كل ذلك بهدف حماية البيئة من التلوث.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، يزود المشرع السلطة العامة بتشريعات ضبطية ذات جزاءات فعالة، ليؤكد فرض احترامها على الكافة، وحماية النظام العام من أجل المحافظة على كيان الدولة المرتبط بنظامها.
ومن خصائص الضبط الإداري أنّه نشاط وقائي، يستهدف وضع تدابير وقائية، غايتها منع أو محاولة منع ارتكاب الجرائم وغيرها من الأفعال التي تهدد النظام العام أو تخل به.
ولا يقف معنى الوقاية عند حد سبق الضبط لوقوع المخالفة، ولكنه يتعدى ذلك إلى منع التمادي في ارتكاب المخالفة، وهو ما لا يتحقق إلا عن طريق تدابير الضبط الإداري.
ولما كانت البيئة هي الإطار الذي يمارس فيه الإنسان حياته ونشاطاته المختلفة، بات من الضروري حماية تلك البيئة من أي اعتداء عليها، يؤدي إلى تعطيل عجلة التنمية، ويشكل في الوقت ذاته اعتداء مباشراً على المجتمع الذي يحيا فيه الإنسان ويستمد منه كل مقومات حياته، الأمر الذي ينعكس بالطبع على صحة الفرد ويعد اعتداء مباشراً عليه.
وإذا كان الفرد أساس المجتمع، والمجتمع عماد الدولة، وكان الضبط تنظيم الدولة وتوجيه سلوك الفرد فيها سلبياً كان أم إيجابياً، كان طبيعياً أن ترتبط سلطة الضبط في إطار القانون الإداري ارتباطاً لا تنفصم عراه بمكافحة تلوث البيئة وسوف نقوم بعرض عدد من المفاهيم الأساسية للقانون العام في مجال حماية البيئة على النحو التالي:

1- البيئة: (موضة العصر) مفهوم متعدد ومتداخل:
تعبر كلمة البيئة (موضة العصر) بقوة – ولأول وهلة – عن الشغف بتحقق الأمل في إدراك الإنسان لنعم خالقه. ويعد مفهوم البيئة من المفاهيم التي راجت حديثاً، وكثر استخدامها في النصف الثاني من القرن العشرين، بصورة لافتة للنظر في المجالات العلمية كما لو كان واضحاً تماماً، ولكنه عند تحليله يغدو جسماً هلامياً غير محدد الأبعاد. وبادئ ذي بدء نشير إلى أن تحديد مفهوم البيئة ليس أمراً ميسوراً، كما قد يتصور البعض، وإنما يتعذر أحياناً تقدم مفهوم محدد للفظ شائع الاستعمال، يفهمه كل فرد في حدود استخدامه المباشر له. وقد يغني في هذا المقام استحضار القول المأثور: "فسر الماء بعد الجهد بالماء".
وكان من أثر شيوع استخدام لفظ البيئة أن تعددت مفاهيمه، نظراً لارتباط كل مفهوم له بنمط العلاقة بينه وبين مستخدمه. بعبارة أخرى يتعدد هذا المفهوم باختلاف رؤية الباحث في كل فرع من فروع العلوم المختلفة، إذ يعرف البيئة وفقاً لرؤيته ومن زاوية تخصصه الدقيق.
ومعنى ذلك أنّ وضع تعريف شامل للبيئة – يستوعب المجالات المختلفة لاستخدام لفظ البيئة – هو أمر نراه بعيداً ولا أظن أنّ أحداً يراه قريباً، لما يقتضيه ذلك من الإلمام بإطار كل هذه المجالات. وبناء على ما سبق نقول: وردت عدة تعريفات للبيئة، اتفق بعضها في المضمون والعناصر (الإطار العام) واختلف البعض الآخر في الجزئيات والحدود.
ويعزو البعض هذا الاختلاف إلى التداخل والاستيعاب بين مفهوم البيئة ومفهوم الإيكولوجيا ecology حيث يستوعب المفهوم الأخير معنى البيئة ويشمله.
فالبيئة أحد المكونات الأساسية لمفهوم الإيكولوجيا (العلاقة بين البيئة والكائن الحي، إنساناً كان أو نباتاً أو حيواناً)، والذي يعني: مجموع كل المؤثرات والظروف الخارجية المباشرة وغير المباشرة المؤثرة في حياة ونمو الكائنات الحية.
وعلى العموم يمكن أن نلحظ من التعريفات التي قدمت للبيئة علاقة عموم وخصوص بينها وبين الإيكولوجيا، أو تقابل في الاتجاهات بين مضيق وموسع.
فمن التعريفات التي وردت للبيئة بالمعنى الواسع أنّها "كل شيء يحيط بالإنسان". أو هي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويمارس فيه نشاطه الزراعي والصناعي والاقتصادي والاجتماعي. وهناك تعريفات أخرى تدور حول هذا المعنى، منها أنّ البيئة هي "مجموع العوامل الطبيعية والبيولوجية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تتجاور في توازن وتؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في الإنسان والكائنات الأخرى"، "ومنها أنّ البيئة هي مجموعة العوامل التي تؤثر في الوسط الذي يحيا فيه الإنسان".
(… Lensemble des facteurs qui influent sur Le milieu dans lequel Lhomme vit)
ويبين من التعريفات التي تدور حول المعنى الواسع أنّ البيئة لا يقتصر مفهومها على الوسط المادي، وإنما يشمل كل ما يحيط بالإنسان. Ce qui est auteur, Ce qui environne.
فالماء والهواء والأرض والنبات، تشكل الوسط الذي يعيش فيه الإنسان.
أما الاتجاه المضيق لتعريف البيئة، فيعتمد على أنّ لفظ "البيئة" لفظ عام يفتقر إلى التحديد والحصر، على عكس ما يعطى له في نطاق الاتجاه الموسع من معان قريبة منه غالباً، كالطبيعة، وإطار الحياة، ونمط المعيشة والأرض الموروثة. فالبيئة وفقاً للاتجاه المضيق هي "كل ما يثير سلوك الفرد أو الجماعة ويؤثر فيه". وفي سبيل وضع مفهوم أكثر تحديداً، اتجه مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية – الذي عقد في استوكهولم عاصمة السويد عام 1972 تحت شعار رفعه علماء البيئة "نحن لا نملك إلا كرة أرضية واحدة – إلى تعريف البيئة بأنّها جملة الموارد المادية والاجتماعية المتاحة في وقت ما وفي مكان ما لإشباع حاجات الإنسان وتطلعاته".
ويبين لنا ممن سبق أنّ العامل الرئيسي في إعطاء مفهوم عام أو خاص للبيئة هو مدى تأثير البيئة في الإنسان. والذي تؤكد عليه بعض التعريفات، في حين يركز البعض الآخر على التأثير المتبادل بين عناصر البيئة – بما في ذلك الإنسان – وبعضها البعض. والتعريف الأفضل من وجهة نظرنا هو الذي يجمع بين المفهومين، ذلك أنّ البيئة – فضلاً عن كونها الإطار الذي يحيا فيه الإنسان – فإنها أيضاً مصدر عطاء لكل ما يلزم لحياته واستمرارها. ومن ثم كان تأثيرها الواضح في حياة البشر من كل وجوه الاتصال بينها وبينهم.

2- تلوث البيئة: مشكلة العصر:
برز التلوث بوضوح – كمشكلة بيئية ومعضلة في حياة الإنسان – من بداية القرن التاسع عشر، مصاحباً لاتساع النشاط الإنساني، خصوصاً حول تجمعات المدن، ونتيجة لعصر النهضة الذي عرف الصناعة. فالثورة الصناعية التي ظهرت في الأربعينيات أحدثت تغييراً في الصفات الفيزيقية والكيميائية والبيولوجية لإطار حياة الإنسان (البيئة). وكان لهذا التغيير آثاره الضارة في الإنسان نفسه وممتلكاته، إذ أخل بالكثير من الأنظمة البيئية التي كانت تتسم بالتوازن، ليحل محلها تلوث مؤذ شمل في الغالب، كل مجالات الحياة البشرية: مادية وصحية ونفسية واجتماعية، الأمر الذي تولد عنه حالة " انفصام بيئي" جعلت الإنسان يعيش في دوامه من القلق والحيرة.
ولقد طغى التلوث كمظهر سلبي للتقدم التكنولوجي الذي جرى وراءه الإنسان بكل قواه دون أن يفطن إلى أنّه قد أسهم – بقصد أو من دون قصد – في إلحاق أبلغ الأضرار بالبيئة على نحو أدى إلى قلب الأوضاع، فما يستهدفه الإنسان، من مساعيه نحو تحسين المعيشة بالتصنيع والأخذ بأسباب وأساليب التقدم التكنولوجي، أصبح وبالاً وكابوساً عليه وعلى صحته وأمواله وحيواناته المستأنسة وهو ما يهدم البيئة. ويمكن القول بأنّ التلوث هو الوريث الذي حل محل المجاعات والأوبئة تعبيراً عن درجة خطورته وعمق أذاه وسوء عاقبته. وقد أحست كثير من الهيئات بخطورة الحالة التي وصل إليها تلوث البيئة اليوم، وأصبح خطره الداهم هو الشغل الشاغل لجهات وأجهزة علمية كثيرة. كما نال الاهتمام الزائد في معظم صحف ومجلات العالم، وأقيمت المؤتمرات وعقدت الندوات من أجل توعية الإنسان أينما كان بأبعاد وحجم مشكلة العصر: تلوث البيئة. فالحديث عن هذه المشكلة شائع في هذه الأيام، ويشكل جانباً من البيئة الثقافية التي يألفها الطفل أو اليافع.
وقد كان وضع تعريف للتلوث إحدى نتائج الاهتمام به من الدول المتقدمة والنامية على السواء. ولكي نصل إلى تعريف مناسب لمعنى تلوث البيئة يجب أن يرسخ في الأذهان أنّ البيئة الملائمة للحياة تعتمد على مواصفات خاصة ومقاييس تتميز بها مستلزمات الحياة في هذه البيئة أو الوسط الذي يعيش فيه كائن بذاته. فإذا ما أدخل على هذا الوسط عوامل إضافية أو فقد جزءاً من الرصيد الإجمالي المكون لمستلزمات الحياة بشكل مفاجئ أو متتابع، فالنتيجة الطبيعية هي الخطر الداهم والضرر البالغ بصحة الإنسان والكائنات التي توجد في البيئة الملوثة.
كما ننوه، من جهة أخرى، إلى صعوبة وضع تعريف جامع مانع للتلوث، يحيط على نحو دقيق بحدوده ومكوناته؛ ولذا فإنّ المحاولات التي بذلت في سبيل وضع تعريف للتلوث حرصت على أن يحتوي التعريف على أغلب عناصر المعرف. ومع هذا فإنّ الوصول إلى تعريف علمي شامل، يحتاج إلى مزيد من الوقت، إن لم يكن مستحيلاً في نظر البعض.
بيد أنّ هذه الحقيقة لم تثبط من همم المجهودات التي بذلت في محاولة وضع تعريف للتلوث يستفاد من الاتفاقيات والوثائق الدولية.
ومن ثم فإنّ التلوث – بوجه عام – هو: "إدخال الإنسان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لمواد أو طاقة في داخل البيئة يمكنها أن تسبب ضرراً أو تعرض صحة الإنسان للخطر وتلحق ضرراً بالمصادر الحيوية والأنظمة البيئية أو تشكل اعتداء على مناهج الحياة أو تعوق الاستخدامات الأخرى المشروعة للبيئة على نحو أفضل".
وعرفه البعض بأنّه: "كل تغيير في الصفات الطبيعية للماء أو الهواء أو التربة، بحيث تصبح غير مناسبة للاستعمالات المقصودة منها، وذلك من خلال إضافة مواد غريبة أو زيادة في كميات بعض المواد الموجودة في هذه الأوساط تحت الظروف الطبيعية".
كما عرّفه البعض بأنّه "التغيير الذي يحدث في الوسط الطبيعي الناشئ عن فعل الإنسان على نحو يحمل معه نتائج ضارة بكل كائن حي".
ويعرف "قاموس وبستر" التلوث بأنّه "حالة من عدم النقاء أو عدم النظافة أو كل عملية تنتج مثل هذه الحالة".
وبالنظر في التعريفات التي قدمت للتلوث، نجد أنّها تميل إلى التعميم والشمول باستخدام لفظ "كل" الذي يفيد العموم والشمول.
وبناء عليه فإنّ التلوث يشمل كل ما يؤثر في جميع عناصر البيئة، بما فيها من نبات وحيوان وإنسان، وكذلك كل ما يؤثر في تركيب العناصر الطبيعية غير الحية كالهواء والتربة والبحيرات والبحار.
وبعبارة بسيطة فإنّ التلوث يوجد عندما توجد أي مادة أو طاقة في غير مكانها وزمانها وكميتها المناسبة.
فالتغيير في المكان لبعض المواد الموجودة في الطبيعة، قد يؤدي إلى تلوث البيئة وإلحاق الضرر بالإنسان والكائنات الأخرى؛ فنقل البترول من باطن الأرض وسكبه في البحار أو الأنهار يؤدي إلى تلوثها، والتغيير في زمان وجود بعض المواد بالبيئة، يترتب عليه التلوث، فوجود المياه في الأراضي الزراعية في غير أوقات الري يضر بالزراعة الموجودة فيها.
وأخيراً فإن التغيير في كمية بعض المواد في مجال معين يمكن أن ينشأ عنه التلوث، فزيادة كمية ثاني أكسيد الكربون أو نقص كمية الأكسجين في الجو بدرجة معينة يضر بالإنسان والكائنات الحية.
ويستفاد من ذلك أنّ التلوث إما أن يكون طبيعياً، ينشأ بفعل العوامل الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات، وإما أن يكون بشرياً يرجع إلى فعل الإنسان ويحدث خللاً في توازن البيئة بسبب إهماله وعدم اكتراثه.
ومثل ذلك: التلوث الناشئ من الإشعاعات الذرية.

3- فساد البيئة أدق من تلوثها: نبوءة قرآنية:
إنّ إطلاق مسمى "فساد البيئة" أعم وأدق وأشمل من المصطلح الشائع الاستخدام "تلوث البيئة". ومسمى الفساد مسمى قرآني. وما دام من عند الله فلن تجد على دقته اختلافاً كثيراً بين المؤمنين به والراسخين في العلم الذين يقولون: "هو من عند ربنا". أما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وسنين وجه الدقة لمسمى الفساد بما يلي:
جاء في المعاجم لوث الشيء: خلطه به، ولوث الماء: كدره. والتاث عليه الأمر: اختلط والتبس. وتلوث الماء والهواء ونحوهما: أي خالطتهما مواد غريبة ضارة.
ويقال: لوث التبن بالقت، أي خلطه بالأعشاب الكلئية والتاث بالدم: تلطخ به، وفلان به لوثة: أي به مس أو جنون.
ونستنتج من هذا أنّ التلوث له معنيان في اللغة:
الأول: مادي، وهو اختلاط أي شيء غريب عن مكونات المادة بالمادة مما يؤثر فيها ويفسدها، كتلوث الماء والهواء.
الثاني: معنوي، ويقصد به ذلك التغيير الذي ينتاب النفس فيكدرها، أو الفكر فيفسده، أو الروح فيؤذيها. وهذا المعنى كما يبين من مقصوده يكون التغيير فيه إلى الأسوأ.
ومثاله: الحقد والحسد والظلم والجشع والطمع.
أما الفساد في اللغة، فإنّه ضد الصلاح، يقال: فسد الشيء يفسد فساداً.
والفساد: هو التلف والعطب والخلل. والمفسدة: الضرر. وما يؤدي إلى الفساد من لهو ولعب ونحوهما، وهي ضد المصلحة.
مما سبق، يتضح لنا أنّ لفظ الفساد أدق في الاستعمال من لفظ التلوث وأعم منه.
فالفساد يعبر عن أي خلل في البيئة يصدر عن الإنسان من سلوك شائن، أو فعل قبيح، أو صفة مرذولة. وكذلك كل تغيير كمي أو كيفي يحدثه الإنسان فيما خلقه الله وسخره غير المرغوب في تغيير أو تعديل قوانين البيئة التي سنها الخالق عز وجل، وإخلاله بتوازن عناصرها ومكوناتها.
ويستمر إعجاز القرآن الكريم ما دامت السماوات والأرض، فيعبر بأسلوب بياني رائع عن معنى الفساد الذي ذكرناه في قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/ 41).
لقد سبقت نبوءة القرآن الكريم في الكشف عما أصاب اليابسة واليم من تلوث وفساد، نتيجة للثورة الصناعية والتطور التكنولوجي والنمو العمراني وما طرأ على البيئة من تغيير في الصفات الفيزيقية والكيميائية والبيولوجية، محدثاً تلوثاً للهواء والتربة والغذاء.
فالآية التي سبق ذكرها تشير بجلاء ووضوح إلى أنّ تلوث التربة والبحر، إنما هو نتيجة لما تصنعه يد الإنسان من تدخل في قوانين البيئة. كما يستفاد منها أنّ الضرر الذي يصيب الإنسان إنما يرتبط بفعله الخاطئ برابطة سببية. وهو ما يستنبط من قوله تعالى: (.. لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا...) (الروم/ 41). كما يستفاد من الآية أنّ تعطيل موارد البيئة والحيلولة بينها وبين أداء الدور الذي خلقت له دون مسوغ شرعي يعد أمراً محرماً، لأنّه يدخل في حكم الإفساد في الأرض.
وما يحدث في العصر الحاضر لهو لسان صدق وشاهد عدل على ما أنبأت به الآية؛ إذ يحاول الناس في أغلب الدول ومعهم الحكومات، العدول والإقلاع عن إفسادهم للبيئة، من خلال إزالة أسباب الفساد، ومعالجة ما ظهر منه في البر والبحر ولو كان ذلك في الأصقاع القريبة منهم فقط.
وتتوالى النبوءات المعجزة في الآية الكريمة، فهي تكشف من جانب ثالث عن "ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم، وأنّ فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، يملؤها براً وبحراً بهذا الفساد، ويجعله مسيطراً على أقدارهما غالباً عليها".
ويتجلى البعد الاجتماعي في تعريف البيئة واضحاً من تفسير الآية الكريمة، ويتعلق ذلك البعد بالنظم التي تحدد أنماط حياة البشر فيما بينهم، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو قانونية، كما يشمل القيم الروحية والخلقية والتربوية وأنماط السلوك الإنساني وتطورها.
والبيئة الاجتماعية – ببعدها السابق – هي ذاتها التي ذكرها الرسول (ص): "إياكم وخضراء الدمن، قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء". فالمنبت هنا هو البيئة الاجتماعية بكل عواملها التي تحيا فيها المرأة وتتأثر فيها بعلاقتها مع غيرها من بني الإنسان. وكان طبيعياً إزاء النبوءات والحقائق السابقة أن تعنى الدراسات القانونية – وفي مقدمها القانون الإداري (قانون السلطة العامة) – بإفساد "التلوث" البشري، الذي يصدق فيه قول من قال: بدأ الإنسان حياته على الأرض وهو يحاول أن يحمي نفسه من عوامل الطبيعة. وانتهى به الأمر بعد آلاف السنين، وهو يحاول أن يحمي الطبيعة من نفسه.

4- حماية البيئة من الفساد (التلوث) ضرورة من ضرورات الحياة:
تعد حماية البيئة من الموضوعات التي حظيت باهتمام متزايد من غالبية الدول – ولا سيما في الآونة الأخيرة – والمنظمات والهيئات الدولية. ويرجع ذلك الاهتمام في الواقع إلى إدراك الدول لخطورة الآثار الناجمة عن فساد البيئة (تلوثها)، التي يعاني منها الإنسان بوجه خاص والكائنات الحية بوجه عام.
وتوضح الدراسات والإحصاءات المتعلقة بالبيئة، أنّها تتدهور يوماً بعد يوم لأسباب عديدة ترتد في معظمها إلى الإنسان، الأمر الذي يمكن معه القول بأنّ الإنسان هو مشكلة البيئة فعلاً. فالبيئة تتظلم وتشكو من أنواع التلوث المختلفة التي لحقت بها نتيجة لتدخل الإنسان وممارساته غير السليمة في إطار البيئة ولو كانت البيئة تنطق بما تنوء به من آثار التلوث لوجهت للإنسان رسالة مضمونها: أيها الإنسان، كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت، فأنت سر مشكلة البيئة.
ومن أجل اعتدال الإنسان – وليس اعتزاله – في تعامله مع البيئة. يأتي دور حماية البيئة والمحافظة عليها. وتلكم هي الشغل الشاغل للدول والهيئات والمنظمات في الوقت الحالي. كما طغت قضية حماية البيئة على غيرها من القضايا حتى رسخ في الأذهان أنّ الفساد (التلوث) هو المشكلة الوحيدة للبيئة وانّ حمايتها منه ضرورة من ضرورات الحياة.
وانطلاقاً من هذه المسلمة نقول: إنّ دراسة حماية البيئة ليست دراسة ترفيهية أو ترفاً فكرياً، وإنما هي في حقيقة الأمر دراسة أساسية في قضية جوهرية تتصل بتنمية المجتمع.

5- حماية البيئة من الفساد جمعت الدول على كلمة سواء:
أضحت حماية البيئة، من الموضوعات الرئيسة التي تستحوذ على جل اهتمام الدول، باعتبارها من الأفكار الرائدة التي تتبناها كل بلاد العالم، سواء منها من أوتي بسطة في العلم وسعة من المال (المتقدمة)، ومن لم تؤت سعة من المال وبسطة في العلم (النامية).
وحتى زمن قريب كانت حماية البيئة من الأفكار الكمالية التي يمكن للمجتمعات المتقدمة تطبيقها، بعكس الدول النامية التي تصطدم حماية البيئة فيها بمتطلبات التنمية والتي ينبغي عليها أن تدع فكرة حماية البيئة جانباً إذا أرادت السير على طريق التنمية والتقدم.
بيد أنّ هذه الفكرة سرعان ما ظهر خطؤها، واتضح أنّه إذا أرادت الدول النامية تحقيق تنمية اقتصادية فعالة، فإنّها لا تستطيع ذلك دون الحفاظ على مواردها الطبيعية (البيئة).
لقد بات من المؤكد أنّ الدول النامية ذات مصالح ثابتة في حماية البيئة سواء على النطاق الجغرافي لها، أو على الصعيد الدولي. وذلك لكي تحسن من ظروف الحياة فيها، وترفع من المستوى الصحي لمواطنيها. ومن جانب آخر، فإن حماية البيئة في الدول الرابية (المتقدمة) تستفيد منها الدول النامية، إذ تقيها من التعرض للتلوث الصناعي وغيره، القادم من الدول المتقدمة والذي يجهل الحدود بين الدول (La pollution ignore les frontiers ).
وفي ضوء ما تقدم أصبحت حماية البيئة أكثر الأفكار بلورة وتجسيداً للتضامن بين الدول. فلم يحدث أن اتفقت الدول الرابية والنامية، الشرقية والغربية على هدف سواء مثلما اتفقت على ضرورة حماية البيئة. وتضمن هذا الاتفاق، وثائق المؤتمرات الدولية التي عقدت من أجل بلوغ هذا الهدف. وبلوره التضامن بين شعوب الدول الذين يقطنون كوكباً واحداً، يعدون فيه جيراناً في عالم واحد.
يتبع...

المصدر: مجلة عالم الفكر/ العدد 3 المجلد 32 لسنة 2004م

ارسال التعليق

Top