• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نظرة إلى عصر صدر الإسلام

مرتضى مطهري

نظرة إلى عصر صدر الإسلام

القضاء والقدر عبر تاريخنا

سُئل الرسول محمد (ص) عن الأحراز المتداولة لأجل الشفاء (وأضاف الغزالي أنّ السؤال كان عن الحرز والدواء) وهل تستطيع أن توقف مسير القدر؟ فأجاب (ص) (إنها من قدر الله). ومما ينقل عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنّه كان مرة تحت حائط مايل فقام وانتقل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفر من قضاء الله؟ فقال (ع): "أفر من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ" فهو إذن يفر من نوع من القضاء إلى نوع آخر منه. فسقوط الجدار الآيل إلى السقوط قضاء إلهي باعتبار أنّه من الطبيعي أن ينهدم على رأس الإنسان عند تحقق شروطه. ولكنه إن جرَّ نفسه عنه فسوف يبقى مصوناً من الأذى وهذا قضاء إلهي أيضاً. على أنّه يمكن أن تصيبه وهو في حالته الثانية حالة ناتجة من عوامل أخرى وهي بدورها من القضاء والقدر. يقول الشاعر الحكيم المولوي: وترك الوهم يعلمنا بان الـ **** ـمفرَّ من القضاء إلى القضاء وما ضد القضاء يصح سعي **** لأنّ السعي من سنن القضاء والدارس لحياة المسلمين الأوائل يلاحظ بوضوح أنهم فهموا القضاء والقدر بشكل لا يتنافى مع تحكم الإنسان بمصيره، وأن نفس التغييرات الحاصلة فيه إنما هي في إطار القضاء والقدر. فلم يكونوا جبريين مطلقاً بل كانوا يطلبون العلى بجهادهم وجهودهم، يدعون الله أن يرزقهم أفضل (قضاء) باعتبار أنّ المحتملات كثيرة في أيِّ مورد متصور، فهم يطلبون أفضلها، والملاحظ أنهم يطلبون أفضل (قضاء) ولا يطلبون أفضل (مقتضٍ ومقدر). وهذا المضمون نجده في كثير من الأدعية الإسلامية، ويمكن أن يكون الأعجاب من هذا أن نجد هذه المضامين حتى عند بعض المسلمين العاديين في صدر الإسلام. فقد جاء في الجزء الثاني من (الكامل) لابن الأثير صفحة 313 نقلاً عن تاريخ الطبري ذكرٌ لرسالة سعد بن أبي وقاص التي بعث بها عمر يقول فيها: "وأمر الله بعد ماضٍ، وقضاؤه مسلَّمٌ إلى ما قدر لنا وعلينا فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية". وجاء في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة الخطبة 132 ان: عمر بن الخطاب في أحد أسفاره إلى الشام وقبل ان يدخلها اطلع على انتشار الطاعون فشاور من كانوا معه فمنعوه جميعاً غير أبي عبيدة بن الجرّاح الذي كان قائداً للمسلمين في الشام فقد قال لعمر: يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله؟ فأجابه عمر: نعم أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله. وهناك ادَّعى شخص أنّه سمع من رسول الله (ص) أنّه أمر من كانوا خارج البلد المصاب بالطاعون بعدم الدخول فيه، ومن كانوا في داخل البلد بعدم الخروج منه وكان ذلك قاطعاً لتردد عمر فانصرف عن دخول البلد. فالذي يظهر من خلال اخبار الفريقين الشيعة والسنة أنّ النبي (ص) طرح مسألة القضاء والقدر لأصحابه، وكذلك تحدث عنها أمير المؤمنين (ع) مراراً... ومما يبعث على الاعجاب انّ هذا التعليم الرائع قد أعطى للمسلمين بكل مهارة ودقة تبعدانه عن الجبر تماماً، وانّه لم يدفعهم مطلقاً نحو الجبر، وبالنتيجة لم يجعلهم يتصورون أنفسهم فاقدي الإرادة والاختيار. وهذا المعنى يثبته عملهم في صدر الإسلام وأقوالهم المنقولة هنا وهناك. وعندما جاء المتكلمون بعد ذلك وأرادوا تحليل هذا الموضوع والاستدلال عليه لم يستطيعوا أن يفرقوا بين القضاء والقدر و(الجبر)... وانا لنشاهد حتى اليوم حيث انقضت قرون أربعة عشر تقريباً من ذلك العصر أنّ قليلاً من الأفراد في الشرق والغرب هم الذين استطاعوا التفريق بين الاعتقادين. والمنبع الأصيل للرأي الحق هو القرآن الكريم حيث يعبِّر عن أنواع القدر كما في الآية المباركة، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ...) (الأنعام/ 2)، والقرآن الكريم في الوقت الذي يتحدث فيه عن اللوح المحفوظ والكتاب الأزلي والتقدير المسبق ويقول: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ويقول: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) نجده يقول: (كل يوم هو في شأن) (الرحمن/ 29). وقد سئل رسول الله (ص) أنحن في أمرٍ قد فرغ منه أم في أمر مستأنف؟ فقال (ص) في أمرٍ فرغ منه وفي أمرٍ مستأنف[1].   - الطبيعة التي لا تقبل التغيير: قلنا انّه جاء الحديث عن نوعي القضاء والقدر على لسان القادة سواء في الدعاء أو غيره: وقد أوضحنا أنّ المجردات العلوية لها قضاء وقدر حتمي خلافاً للموجودات الطبيعية، ويجب أن نضيف هنا أنّه توجد في الطبيعة أيضاً أمور حتمية أي قضاء وقدر محتم لا يقبل التغيير فإن كل موجود في الطبيعة مسبوق بالعدم، ولابدّ أن يكون معلولاً لموجود آخر وهذا قضاءٌ حتمي، ثمّ أنّه لابدّ لكل موجود طبيعي أن يتخذ سبيله للفناء والزوال ما لم يتبدّل إلى موجود غير مادي وهذا أيضاً قضاء وقدر حتمي. وإنّ الموجودات الطبيعية تصل إلى مرحلة لا يمكنها فيها أن تغير مسارها فإما أن تنعدم أو تطوي نفس المسار، ومعنى ذلك أنها تحت تقدير حتمي. فمثلاً الحيوان المنوي للرجل عندما يتصل ببويضة المرأة ويكون الخلية الملقحة (الزايكوت) يعين طينة وخميرة معينة لمستقبل الطفل مما يوجد في الطفل بعد ذلك صفات موروثة خاصة تؤثر لاريب في مصيره ومستقبله. ومن الواضح انّ الحيوان المنوي للرجل لو كان قد خصب بويضة امرأة أخرى لتشكلت طينة وخميرة أخرى. وبعد تشكيل الطينة لا يمكن تبديلها إلى طينة أخرى ومعنى ذلك انّ القضاء والقدر في هذه المرحلة محتم، وكذلك فإن كثيراً من الكيفيات التالية للرحم قطعية وحتمية. ومن هنا نجد الرحم قد جعل في بعض الروايات لوحاً من ألواح القدر.   - النظم الثابتة: كما أنّ القوانين والنظم الحاكمة في هذا العالم أيضاً لا تقبل التغيير والتبديل. فإنّ الموجودات الطبيعية متغيرة متبدلة ولكن النظم الطبيعية ثابتة لا تتغير. والموجودات الطبيعية متغيرة متكاملة وتتخذ لها مسارات مختلفة فتارة تصل إلى حد الكمال، وأخرى تتوقف، وتارة تسرع وأخرى تبطىء حيث تغير مصيرها العوامل المختلفة، ولكن النظم الطبعية ليست متغيرة ولا متكاملة بل هي ثابتة على منوال واحد. يقول القرآن الكريم متحدثاً عن النظم الثابتة ومعبراً عنها بتعبير "سنة الله": (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الأحزاب/ 62). فمثلا إن كون العاقبة للمتقين، وإنّ الأرض لعباد الله الصالحين في النهاية سنة إلهية لا تتغير: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء/ 105)، (إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف/ 128). ومن السنن الحتمية انّه ما لم يغير الناس أنفسهم وأوضاعهم وأحوالهم فإنّ الله لن يغير أوضاعهم العامة (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). وكذلك منها أيضاً، كون المسلطين على أناس مناسبين لوضع روحيتهم وأخلاقهم واستعداداتهم (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) (الأنعام/ 129)، ومنها أيضاً انّ المترفين لو وجدوا في شعبٍ ومارسوا البطر والفسق والفجور والإباحية فإنّهم سيجرون المجتمع إلى الاضمحلال: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء/ 16). وكذلك فإن قانون فوز المؤمنين المجهزين اللائقين للجهاد في ميدان تنازع البقاء بخلافة الأرض قانون قطعي لا يتغير: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ...) (النور/ 55).

ومنها أيضاً قانون ان عاقبة الظلم الفناء (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (الكهف/ 59)، وقد جاء عن النبي (ص) قوله: "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم".

 

الهامش:   

[1]- شرح أصول الكافي، للملاصدرا الشيرازي، ذيل الحديث 394.

 

المصدر: كتاب الإنسان والقدر

ارسال التعليق

Top