• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وظيفة المال وتنمية الموارد البشرية

د. زكريا أحمد محمد نور

وظيفة المال وتنمية الموارد البشرية

 

"عمل الإنسان وإن يكن أمثل سبيل إلى تحصيل المال لا يعطيه مطلق التصرف فيه"

 

من رحمة الله بالإنسان أنّ سخَّر له كلّ ما حوله ويسّر له ما تقوم عليه حياته وأسبغ عليه نعمة ظاهرة وباطنة، فالماء والهواء وأشعة الشمس ونور القمر وكثير من النعم العامة التي تقوم عليها الحياة لا تسمى مالاً، ولا تقوم بمال، مع انها إذا قيست منفعتها بمنفعة نفس ما نقتنيه ونشتريه كان القياس عبثاً أو لوناً من الخبل والجنون.

ويلاحظ مع ذلك انّ من رحمة الله كذلك كثرة الكمية في الأشياء التي تعد ضرورية كالملح والماء والنار والمواد الغذائية، وهذه على شدة الحاجة إليها ميسرة للناس يحصلون عليها بثمن زهيد، ولولا ما ركّز في طباع بعضهم من الطمع والجشع والأشرة ما وجد الفقراء.. ما يجدون من جهد وعناء في سبيل الحصول على القوت، ولعل هذا بعض ما يفهم من قول النبي (ص): "انّ الله فرض على أغنياء المسلمين بقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا إلّا بما يصنع أغنياؤهم" فإّن ذلك يفهم منه انّ جهد الفقراء وجوعهم سببه صنع الأغنياء، وإذا كان ذلك في المسلمين، وهم الذين فرض الله لفقرائهم حقوقاً في أموال أغنيائهم، فهو في غيرهم أظهر وأكثر، فالوفرة والكثرة في المواد الغذائية والمواد الطبيعية موجودة في هذا الأرض التي خلقها الله جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وفي السماء التي تمدنا بالضوء والدفء والماء المبارك كما يفهم من قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) (ق/ 9-11).

والمتأمل في قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) (العنكبوت/ 60)، وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الأعراف/ 96)، يجد صدق ذلك التجاوب التي رآها الناس، وفي الواقع الذي يراه: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ) (غافر/ 13)، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15)، ولكن الشيطان كما يقول الله فيه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (البقرة/ 268)، فالبخل وهو بعض ما يطلق عليه اسم الفحشاء والخوف من الفقر – والناس من خوف الفقر في فقر – مما يزينه الشيطان ويحسنه للإنسان، ثمّ الإسراف في حب المال وما ينشأ عنه أو يتصل به من الطمع والشره كما يفهم من قوله تعالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 19-20)، كلّ ذلك وما إليه يسبب اختلال التوازن في المجتمع وسوء التوزيع في الثروة وبغي الناس بعضهم على بعض واستغلال بعضهم لبعض، ومن هنا يدخل في المال ما يشوبه من الظلم والأثم والبغي والعدوان، ويفتح الشيطان لمحبيه طرقاً مختلفة غير مشروعة لاكتسابه، كالغش والربا والسرقة والرشوة والاحتكار توقعاً لارتفاع الأسعار، والتجارة في المحرمات كالخمور والخنازير والمخدرات، وكثير من المآثم والجرائم ترتكب للكسب الحرام.

والمال في ذاته خير كما يقول الله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 180)، وكما يقول تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 6-8)، فإنّ معنى الخير فيما ذكرناه المال، وقول الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف/ 46)، يدل – كذلك – على انّ المال خير، بدليل قوله تعالى: (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف/ 32)، ولكن هذا الخير دون ما أعده الله لعباده المؤمنين في الحياة الأخرى، وقد لفت القرآن الأنظار إلى انّ المال بكلِّ أنواعه هو لله، فهو خالق الحب والنوى وخالق الذهب والفضّة، وهو الذي ينزل الماء من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، كما يفهم من قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (البقرة/ 22)، وقوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) (عبس/ 24-329).

هذه الآيات وغيرها يفهم منها انّ عمل الإنسان وإن يكن أمثل سبيل إلى تحصيل المال لا يعطيه مطلق التصرف فيه، لأنّ المال في حقيقة أمر لله، كما يقول سبحانه: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور/ 33)، والإنسان وما ملكت يداه لله، بل... كما يقول الله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات/ 96)، ومن ثم كان عدلاً من الله وفضلاً أن يفرض عليه زكاة المال وأن يفرض عليه غير ذلك، الإنفاق على ذوي قرباه إذا اعسروا وأن يثيبه على ما ينفقه ويتصدق به على الفقراء والمساكين ذلك لأنّ ملكية الإنسان للملك انما هي ملكية نسبية ناقصة لا ملكية حقيقية تامة، والرزق الذي يحصل عليه بسعيه وعمله انما هو فضل من الله كما يفهم من قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة/ 10).

فالمال الحلال خير وفضل من الله، والإنسان فيه مستخلف عليه لا يحقّ له أن ينفق شيئاً منه في غير ما شرَّعه الله كما يفهم من قوله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7)، فالملكية في الأرض وفي المال مجرد استخلاف لا يخرج به المستَخْلَف عن طاعة المستَخْلِف وهو الله: (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك/ 1)، وهذه الملكية النسبية التي يحصل عليها الإنسان يجب أن تكتسب من الطرق المشروعة لتكون ملكية سليمة، وليكون المال حلالاً، فإنّ المال الحرام خبيث، والمال الحلال طيب، وقد قال تعالى: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 100).

 

المصدر: مجلة الرأي الآخر/ العدد 50 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top