• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

زملائي يكرهونني.. ما العمل؟

شاديا عواد

زملائي يكرهونني.. ما العمل؟
في استطاعتنا أن ننتقي أصدقاءنا وفق المعايير التي تناسبنا، لكننا لا نملك القدرة على أن نختار آباءنا وأمهاتنا، وكذلك ليس في إمكاننا اختيار زملائنا في العمل..
إنّها من الأمور المحتّمة التي يجب أن نتعلم التعايش معها، لاسيّما مع امتداد دوام العمل لثماني ساعات على الأقل، علينا أن نقضيها معهم، سواء شئنا أم أبينا، فلمَ لا تكون علاقتنا بهم جيِّدة بدلاً من أن يتحوّل عملنا إلى جحيم لا يُطاق؟
منذ اليوم الأوّل في الشركة، شعرت علياء (32 عاماً) بأنّ زملاءها لا يحبونها، ففي نظرهم هي منافسة لهم. حاولت بطرق مختلفة التقرب منهم، لكن ما إن كانت تقترح عليهم مشروعاً أو تقدّم فكرة، حتى كانوا يبادلونها بالانتقادات أو لا يظهرون الاهتمام لما تقوله. في النهاية، بات الذهاب إلى العمل بالنسبة إلى علياء كالقصاص، فهي لم يعد في إمكانها احتمال قضاء يوم آخر برفقتهم.
في مجال العمل، لطالما سادت مفاهيم كالاحترافية والإنتاجية والمردودية، إلى أن لاحظ علماء النفس أنّه من المفيد جدّاً تسود في العمل أجواء إيجابية وان يكون الفريق متحداً ومترابطاً. فكلما شعر الموظفون بأنهم راضون وسعداء، تحسّن وضع الشركة وازدهرت أعمالها. تحقيق التوازن هذا ليس دائماً بالأمر السهل، فارتفاع نسبة تسريح العمال في السنوات الأخيرة، والعقود غير المستقرة، والاستعانة المفرطة بالمتدربين أو بالموظفين المستقلين كلها عوامل تؤثر في الجو العام في العمل. إلى كلّ ذلك، يضاف واقع أنّ الإنسان بطبعه حسّاس، وأنّه في محيط من المفترض أن يسيطر عليه التفكير العقلاني، من الصعب كبح المشاعر البشرية بشكل كامل، فالإنسان لا يتحوّل إلى آلة للإنتاج فور جلوسه خلف حاسوبه. مديرك ليس والدتك:
بالنسبة إلى الطبيب النفسي الأميركي براين ديسروتش، يحقق الفرد في مجال العمل ثلاث حاجات مرتبطة بالعلاقات البشرية: الشعور بالانتماء إلى مجموعة والاعتراف بدوره، الشعور بكفاءته وبأن عمله موضع تقدير، والشعور بأنّه محبوب ومقبول من قبل الآخرين. من هنا، يلعب المحيط في العمل دوراً أساسياً في تلبية هذه الحاجات إذا كانت العلاقات جيدة في العمل.
بشكل عام، يلحظ ديسروتش في كتابه (Your Boss is Not Your Mother) أنّ الإنسان يميل إلى التصرّف في عمله كما يتصرّف في بيته، أي ضمن عائلته الخاصة، يفسّر ذلك بقوله: "كل شخص منا يحمل معه إلى العمل نمط العلاقة التي اعتادها في عائلته، ويستنسخها في المواقف الضاغطة التي تنتج في العادة عن أي تفاعل إنساني معقد". فالإنسان يميل إلى لعب الدور الذي تميّز به وهو طفل، كدور الضحية، المنقذ، المهرج، كبش الفداء.. لكن حين تكون هذه الأدوار غير واضحة ومحدّدة فيمكن للعلاقات بين زملاء العمل أن تسوء وللخلافات أن تنشب. الخوف من أحكام الآخرين:
مشاكل الثقة بالنفس هي أيضاً عامل إضافي يؤدي إلى تعقيد العلاقات في مجال العمل. فبعض الناس يتم تجاهل وجودهم كلياً في الشركة التي يعملون فيها إلى درجة أنهم يصبحون غير مرئيين، فيفسرون تجاهل زملائهم على أنّه كره وعداوة، في حين أنّه ليس أكثر من لا مبالاة وعدم اهتمام.
هذا ما حصل مع ناديا (38 عاماً) التي تم توظيفها في إحدى الشركات بعد ستة أشهر على تشكيل فريق العمل، الذي بدا أن أعضاءه متفقون ومنسجمون معاً، فشعرت ناديا بأنها مستبعدة وغير قادرة على التأقلم معهم، مع العلم أنّه في الحقيقة لم يحاول أحدهم استبعادها عن قصد، ما خلق جوّاً من التوتر في المكتب. يشرح أطباء علم النفس أنّ الأشخاص الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس غالباً ما يجدون أنفسهم في مواقف مشابهة، فهم لا يجرؤون على التحدث إلى زملائهم، ويتجنبون المجازفة خوفاً من أن ينفّروا الآخرين منهم، لكنهم في النهاية يتسببون في تهميش أنفسهم. لذا، ينصح الخبراء في العلاقات الإنسانية في هذه الحالة بأن يقوم الإنسان المهمّش بمساءلة نفسه عن سلوكه الخاص قبل اتهام الآخرين: فإذا لم يقترف أي خطأ يستأهل أن يتم تجاهله لأجله، وإذا لم يكن ضحية انتقادات زملائه ولا سخريتهم، وإذا لم يكن هدفاً لمؤامرات تسيء إليه في مقرّ العمل، فاللوم في استعباده وتهميشه إذن يقع على سلوكه الخاص وظنونه الشخصية. هل يمكننا العمل مع أشخاص لا نحبهم؟
يجيب عالم النفس الفرنسي أوليفييه ديفيارد أنّه من الممكن ذلك، من خلال البحث عن النقاط الإيجابية في الآخر. يجدر بنا مثلاً أن نركّز على صفاته الحسنة وعلى تصرّفاته الجيِّدة لنتفادى الشعور بالغضب مما يزعجنا فيه، فمن المعروف أنّ معظم انفعالاتنا السلبية تجاه الأشخاص ناجمة في الواقع عن "كرهنا في الآخرين لما لا نحبه في أنفسنا"، ذلك أنّ الإنسان غالباً ما يشعر بالانزعاج والاستفزاز من أشخاص لديهم صفات توقظ في نفسه تصرّفاً أو سلوكاً لا يحبه، ويحاول جاهداً أن يكبحه ويتخلّص منه، إنّه مبدأ "الإسقاط". زملائي.. أصدقائي؟
لبيئة عملية سليمة، من المهم جدّاً المشاركة في اللقاءات غير الرسمية التي تحصل خلال دوام العمل، كتناول طعام الغداء مع الفريق، وتمضية فترات الاستراحة مع الزملاء لاحتساء القهوة وغيره، وحضور أعياد الميلاد التي تقام في مقرّ العمل وغيرها من المناسبات. فهذه المواقف غير الرسمية تسمح في العادة بحلّ المشاكل الناشئة وتبديد المفاهيم الخاطئة بين الزملاء، فكم من خلافات في العمل كان سببها تفاهم بسيط أو تفسير خاطئ لتصرّف ما؟
من الضروري أن نكون متنبهين لمشاعر الناس من حولنا ومحاولة التقرب إليهم، لكن من المهم أيضاً ألا نسيء فهم ماهيّة العلاقة بين الزملاء وأين تنتهي حدودها. فالتقارب بين الموظفين ممكن، لكنه محكوم في الوقت نفسه بالميل الطبيعي إلى التنافس بين البشر، وبتسلسل هرمي يجدر احترامه. فمن الصعب مثلاً أن يصبح الموظف الصديق المقرّب إلى مديره، إنّها علاقة غير متجانسة، لأنّ الصداقة الوطيدة مع المدير تحرمه من إمكانية ممارسة سلطته على نحو فعّال. أسس بسيطة:
في الحياة العملية، كما في الحياة الاجتماعية، الصدق والقرب والبساطة والاحترام هي القواعد الأساسية لسلوك جيِّد يساعد على بناء علاقات سليمة. فمن الضروري أن نعطي الآخر المساحة للتعبير عن نفسه وعن كينونته، وأن نكون مستعدين للنقاش وتبادل الآراء من دون أحكام مسبقة أو مجحفة.

ارسال التعليق

Top