• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عندما تجف الدموع

د‌. سرى سبع العيش

عندما تجف الدموع
  لأنّ الدموع علامة من علامات الحزن والتأثر وشفافية العاطفة. وإذا كان للعين الدامعة تأثير على الآخرين فهي تثير الشفقة وتلين القلوب، فدموع الأطفال تثير عطف ذويهم ومن حولهم فيسرعون لنجدتهم ويغدقون عليهم الحب والحنان، ولقد قالوا قديماً أن دموع المرأة هي أحد أسلحتها القوية: فدموع المرأة "الجميلة" لها تأثير قوي على الرجال وقد يؤخذ بصدق شكواها عندما تنساب دموعها ولو لم تكن صادقة، ولا أدري لماذا اعتبرت الدموع علامة ضعف عند الرجال فهم يكابرون ويسارعون في تجفيف دموعهم أو يخفونها خشية أن يلحظها الآخرون، مع أنّ الدموع انعكاس عصبي إنساني للألم والفرح والتأثر والحزن، وإضافة لذلك فهي انعكاس لمخرشات ومؤذيات تعتري العين عندما تدخلها أجسام غريبة أو تمسها مواد كيماوية مؤذية أو يلفحها تيار هواء غباري، أو عندما يرهقها الضوء أو تتعبها القراءة أو يؤذيها الدخان والقطران المنبعث من لفائف المدخنين.   - أوّل خطوط الدفاع: الدموع هي الخط الدفاعي الأوّل وسلاح قوي لكل عين وليس لعيون النساء فقط، فالدمع يشطف سطح العين ويجرف ما يعتريه وما يؤذيه من جزيئات مخرشة مثيرة فيجلي عن العين الأذى ويعيد إليها البريق، أما عندما تشتط الدموع عن مساربها الضيقة، وتطفح منهمرة على الخدين فذلك يستدعى سبر مسالكها وفتحها وتسليك مجاري الدمع فيها. وبكاء المسنين يثير الشفقة والحزن والألم والجزع وتأنيب الضمير لدى أبنائهم وذويهم، لأن انهمار دموعهم التي كانت عصية أيام شبابهم وصلابة بأسهم، علامة انكسار وارتداد المحارب القديم الذي لانت قناته للزمن وتداعت قواه، ولكن إفراط الدماع وإزمانه لديهم، ليس إلا علامة على انسداد مجاري الدمع أو انصمامها أو نتيجة ارتخاء وتهدل أجفانهم وابتعاد فوهات الدمع عن مساربها، وفي هذه الحالة لابدّ من تقويم شتر الأجفان، ومصاقبة النقاط الدمعية مع منطقة التجمع في البركة الدمعية فيشفط الدمع وينسرب في الأنف. ولكن هنالك حالات مرضية موروثة أو مكتسبة يحدث فيها الدماغ فقط عندما يأكل الشخص فكلما مضغ وحرك فمه فتحاً واغلاقاً تنساب دموعه، وهي الحالة التي نسميها دموع التماسيح، ومع أنّ التماسيح بريئة من تهمة البكاء والدماغ لأنّه ثبت أن دموعها لا تستثار أبداً حتى عندما تقطر عصارة البصل الشديدة المثيرة في عيونها أو تفرك العين بقطعة من البصل، فهي لا تبكي ولا تدمع ولا تنهمر دموعها على وجهها، فربّما كان المثل ساخراً يدل على أنّ عملية الدماغ ليست حقيقية وأنّ الشخص الذي يتظاهر بالحزن ولا تدمع عيناه أبداً فهو منافق مخادع يتصنع الحزن ويماري به ولكن قلبه جلمود وعيناه جافتان لا تدمعان أبداً، الحقيقة هي أن هنالك حيوانات بحرية تسمى أسد البحر وكلب البحر، تبكي دائماً وتنهمر دموعها على خديها عندما تأكل فريستها، يحدث ذلك بسبب منعكس عصبي يربط بين غدة الدمع وعملية المضغ، ولأن تلك الحيوانات ليس لديها مجار للدمع فلابدّ للدمع المفرز أن ينسرب على خديها، لذلك فهي تبكي دائماً، وربما أتى المثل منها والمراد به أنّ القاتل يبكي على الضحية وهو ممعن في قتلها وتمزيقها بأنيابه، ولقد تطرق كتاب كليلة ودمنة إلى دموع الصياد التي كانت تنهمر انعكاساً من شدة البرد بينما كان ممعنا في القبض على قنصه وذبحه، عندها قالت القبرة: "لا تنظروا إلى دمع عينيه بل انظروا إلى فعل يديه"!   - مقاومة وترطيب: ومع أنّ الدماغ الذي يعتري العين حين تنسد مجاري تصريف الدمع يسبب إزعاجاً وحرجاً اجتماعياً وتراقصاً في الرؤية وتشوشاً آنيا في البصر وتكراراً في التهاب واحمرار حواف الجفن، فإنّه لا يشكل خطورة كبرى على البصر، فنحن، أطباء العين أكثر خشية على العين من شح الدمع وجفافه لا من فرط افرازه ودماعه، فعندما يفارق العين دمعها تتجرد من سلاحها القوي، وينهار خط دفاعها الأوّل أمام العاديات من جراثيم وحمات راشحة "فيروسات" فتنتهك حرماتها الأجسام الدقيقة الغريبة والأتربة والغبار، وأجنحة الحشرات الصغيرة وشعيرات النباتات الدقيقة فلا تستطيع غسلها وقذفها وطردها بماء الدمع بسبب الجفاف، كما أنّ الأشعة الشمسية الحارقة تبخر سطحها وتسلبها ألقها وبريقها والتماع سطحها فتفقدها الصفاء والشفافية فتحدث بها الألم واضطراب النظر ولا تستطيع تحمل الضياء فتضيق فتحتها وتزداد حركات الرمش فيها وتغمض بين حين وآخر، وقد تتراكم المفرزات وتنهار الطبقة القرنية وتتقشر على شكل أشرطة صغيرة كخيوط معلقة بالقرنية تزيغ البصر، ويثير نزعها الألم الشديد. السر في الدمع أنّه يحتوي على مواد مرطبة ومواد مصلية ومواد مخاطية ترتص على سطح العين بشكل طبقات أوّلها المخاطية، وأوسطها الدمعية المائية، وثالثها الدهنية، التي تمنع تبخر الطبقة الدمعية فتقي العين من الجفاف، والسر في الدمع أنّه يحتوي مواد كيميائية مغذية كالسكر والفيتامينات، وعناصر معدنية كالصوديوم، والبوتاسيوم، وغازات كالأكسجين النافذ إلى العين عبر الدمع لتتنفس طبقاتها السطحية، وغاز ثاني أكسيد الكربون وكل ما تطرحه الطبقات السطحية إلى الدمع خارج العين من فضلات وخلايا متوسفة. والسر في انسياب الدمع أنّه يحوي مواد تذب عن العين الغازيات الجرثومية والحمات الراشحة، لأنّها تحوي بروتين الليزوزيم الذي يحل جدر الجراثيم فيجردها من فوعتها ويمنعها من غزو العين وإيذائها، والدمع طريق للعلاج، تنفد خلاله القطرات العينية إلى العين، فتعالج خلاله الالتهابات أو ارتفاع ضغط العين، وتستطيع أن تضيق البؤبؤ أو توسعه. والدمع هو أيضاً طريق لعدوى الآخرين بالأمراض الالتهابية وبخاصة منها داء نقص المناعة "الإيدز" الذي قد ينتقل عن طريق دمع المصاب تماما كما ينتقل عن طريق لعابه لذلك لا يجوز تبادل استعمال العدسات اللاصقة ولا الاشتراك بالمناديل بين شخص وآخر، وقد خطت التكنولوجيا الطبية خطوات كبيرة حين أخذت تستعمل الدمع لإجراء بعض التحاليل بدلاً من أخذ الدم.   - في مجاري الدمع: والدموع تفرز من الغدة الدمعية التي تستقر كامنة في حفيرة قابعة في الزاوية العلوية الوحشية من جونة الحجاج وخلف حافته العلوية ويفصلها عن العين صفيحة العضلة الرافعة للجفن التي تعبرها القنوات الدمعية لتنتقل ما تفرزه غدة الدمع إلى القسم العلوي من العين، ثمّ يقوم الجفن بحركاته الرامشة فيوزع طبقة الدمع ويطلي بها كل السطوح الأمامية من العين، وغدة الدمع هذه مسؤولة عن إفراز الدمع في الحالات الطارئة كالأذيات العينية ودخول الأجسام الغريبة إلى العين، وشدة الوهج الضوئي إضافة إلى الدماع الانعكاسي الذي يستثيره البكاء والحزن، والألم والنعاس، والسعال والعطاس، أمّا الدمع الذي يفرز يومياً باعتدال ليفي حاجة العين من الرطوبة والألق وانتظام السطوح الكاسرة وسهولة الحركة فتساهم بإفرازه غدد دمعية صغيرة ملحقة تنتشر على حواف الأجفان وبين ثنيالت الملتحمة. وأخرى تزود الدمع بالمادة الزيتتية إضافة للخلايا المخاطية المنتشرة على سطح الملتحمة، وكل هذه العناصر الغذية تتأذى وتنطمر وتتليف في الحالات الالتهابية المنخرة كالتراخوما وفي الحروق الحرارية والكيميائية والشعاعية. والدموع تفرغ من العين بواسطة مجاري الدمعيتين التي تقبع في الزاوية الإنسية من العين حيث يشفط الدمع عبر النقطتين الدمعتين إلى القنيات الدمعية ثمّ يتجمع في كيس الدمع ومنه ينسرب إلى الأنف عبر القناة الدمعية الأنفية. إذن فالدموع من حيث إفرازها ومن ثم إفراغها تشكل دورة متكاملة متعادلة متزنة حسب الظرف المكاني ودرجة الحرارة والرطوبة وسرعة الرياح ونقاء الهواء والظرف النفساني الذي يكون عليه الإنسان، والحالة الصحية التي تكون عليها العين. إنها المعادلة بين غفراز الدمع مقدرا بالحاجة إليه، ومرتهنا بمدى ما يفرغ أو يتبخر أو يضيع منه، فإذا اختل توازن تلك الدورة بزيادة الافراز أو شحه أو بنقص الافراغ، فقد تتأذى العين ويضطرب بصرها وتظهر عليها الأعراض والعلامات المرضية. وهنالك أمراض تترافق مع جفاف العين كالتهاب المفاصل الرثياني وكذلك في الاضطرابات الهرمونية، وتصاب العين بالجفاف مع استعمال حبوب منع الحمل، وكذلك فإنّ الكثير من الأدوية المهدئة تسبب جفافاً في العين، وحديثاً أصبح الجلوس ساعات أمام شاشات الحواسيب من العوامل المسببة لإرهاق العين جفافها. وجفاف العين يعالج بقطرات الدمع الاصطناعي المعيضة والتي قد يضطر المريض لتقطيرها في العين مرات عديدة وقد توضع في العين عدسات لاصقة علاجية ذات محتوى عال من الماء تؤمن للعين ترطيبا طويل الأمد، أما إذا اشتدت حالة الجفاف وقتر إفراز الدمع فيلجأ عندها لإغلاق فوهات التسريب بمغاليق كولاجينية تسدها وتمنع انسراب الدمع إلى الأنف وتستبقيه في العين وقد يلجأ للعمليات الجراحية في الحالات المستفحلة العنيدة. ما أحوجنا للدموع الجيِّدة المتزنة فهي تغذي القرنية وترطب سطوحها، وتغيث العواطف وتنفس الكروب، وتسقي العين وتجلي بريقها وتبرئ البصر.   المصدر: مجلة العربي/ العدد 481

ارسال التعليق

Top