• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العنف والأمن الاجتماعي

العنف والأمن الاجتماعي

◄ما معنى (العنف)؟

العنف هو: الغلظة والخشونة والقوّة غير المشروعة المقرونة بفزع الإنسان، أو أيّة ممارسة تخلو من الرفق واللين، وتمثل التعدّي على الحريات.. وبكلمة مختصرة فهو يعني إلغاء الآخرين لأسباب وطرق غير قانونية وغير منطقية، كما في مثال (قابيل) و(هابيل).

الإنسان بطبعه ينفر من العنف لأنّه يخالف فطرته.. خذ مثلاً: فرض الرأي، الإكراه، الإرغام، التسلّط، القمع.. كلّها تُجابه بردّ فعل قويّ من الإنسان، قد يأخذ شكل الممانعة، أو المقاومة، أو التمرّد، أو العصيان، أو مواجهة العنف بالعنف أحياناً.

إزاء العنف يمكن أن نقف أحد المواقف التالية:

1-  أن نواجه العنف بالعنف..

2-  أن نواجه العنف بالتسامح والمغفرة.

3-  أن نواجه الإساءة (العنف) بالإحسان (اللطف).

التجربة الإنسانية أثبتت:

-         مقابلة العنف بالعنف تعني إشعال حرب لا يمكن توقّع نتائجها ولا إحصاء خسائرها..

-         مواجهة العنف بالتسامح يجنّب احتمال وقوع كارثة.. أو يقلِّص من الأضرار المحتملة..

-         مكافأة الإساءة بالإحسان.. أكثر الوسائل قدرة على تقريب القلوب وتوفير الأمن والسلام..

قريش جابهت النبيّ (ص) بالعنف.. لكنّه لم يواجه عنفهم بعنف.. وحين تمكّن منهم في فتح مكّة سألهم: ما تروني صانعاً بكم؟!

قالوا: أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم!

قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء!

لم يجدها فرصةً لينتقم أو ليثأر من أيّام كانوا يدمون وجهه وأقدامه، ويعذّبون أصحابه وأتباعه..

أهل بيته (عليهم السلام) فعلوا مثلما فعل.. قابلوا الإساءة الكبرى بالعفو والتسامح والصفح، ممّا حدا بالمسيئين إلى اعتناق الإسلام، أو التراجع عن مواقفهم الدنيئة..

أحدهم يسبّ علياً (ع) فيقول: "قاتله الله ما أفقهه من كافر". فيثب إليه أصحابه ليقتلوه.

الإمام صاح بهم: "هوّنوا عليكم، كفّوا.. إنّما هو سبٌّ بسبّ أو عفوٌ عن ذنب، وأنا أهل لأن أعفو"!

آخر.. يتهم الإمام الباقر (ع) بأنّه "بقرة" فلا يستثير حفيظته.. يقول له لقد سمّاني جدّي رسول الله (ص) بالباقر.. فيمعنُ المسيء بإساءته فيقول له: يا ابن الطبّاخة؟ فيردّ عليه الإمام ببرودة أعصابه المعهودة: تلك هي حرفتها!

فيحاول المسيء أن يستفزّه: يا ابن الزنجية البذيئة!

ولكنّه لم يُفلح في استفزازه قطّ.. الإمام على ما عرف عنه بضبطه لنفسه وكظمه لغيظه قال: إن كانت كما تقول غفر اللهُ لها.. وإن كانت ليست كما تقول غفر الله لك..

هذا الموقف الحكيم جعل المسيء يشهد أنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته..

هل كان الباقر (ع) في موقف ضعف؟

عدم الردّ على العنف بالعنف والإساءة بالإساءة ليس جُبناً.. هو (ترفّع)..

كأنّك تقول للمعتدي.. هذا هو شأنك.. وشأنك غيري شأني.. أنا قادرٌ على الردّ عليك بالمثل.. وربّما الصاع صاعين.. لكنني أرباً بنفسي أن أكون (صغيراً) و(حقيراً) و(دنيئاً) مثلك..

بمعنى آخر.. أُتركهُ يعاقبُ نفسه بنفسه.. فالشتيمةُ دائماً تعاقب نفسها لأنّها تفضحُ صاحبها أنّه ذو نفس خبيثة.. وهذا بحدّ ذاته عقاب..

في الحديث: "مَن أفحش شفا حسّاده".. فتأمّل بعمق:

عليّ (ع) بطل الإسلام.. قتل الكثير من المشركين والمنافقين والخوارج، لكنّك لو سألت علياً: أيّهما أحبّ إليك: أن يهتدي هؤلاء أو أن تقتلهم؟ لأجاب: "لئن تهتدي إليّ فئةٌ فتعشو إلى ضوئي أحبُّ إليَّ من أن أقاتلها أو تبوء بآثامها"!

القتال – في الأعم الأغلب – كان دفاعياً.

حتى المعارضة لم يكن يواجهها عليّ (ع) بالعنف، وهو قادرٌ على ردعها بذلك، لكنّه كان يقول لمن يخالفه ولا ينزل على حكمه: "أمّا أنا فلا أُهيجك بأذى، ولا أقطُع عنك عطاءً ما دام المسلمون منك في أمان"!

انظر إلى شرطه: (ما دام المسلمون منك في أمان) أي ما لم تتعرّض سلامة المواطنين إلى الخطر.. فكلُّ ما دون ذلك يهون!

 

الأمن الاجتماعي:

هذا مصطلح نريدُ به كلّ ما من شأنه أن يحقِّق الأمن والسلامة والسلام والاستقرار في المجتمع، وكلّ تهذيب اجتماعي، وتعامل اجتماعي سليم، ومراعاة ومداراة للآخر، واحترام مشاعره وخصوصياته وحرّياته وكرامته وآرائه. هو رافد من روافد الأمن الاجتماعي.

للأمن الاجتماعي مقومات ومرتكزات وضوابط.. لنتعرّف عليها ابتداءً، ثمّ لنرى كيف ولماذا حصل الخرق والتجاوز عليها؟

نحن نرى أنّ التعايش السلميّ هو الأصلُ الثابت بالنسبة لأي مجتمع متحضِّر.. وأنّ العنف والقسوة والتطرّف والإرهاب، أو استخدام الأساليب اللاسلمية هو الطارئ، وإن كان سائداً ومتفشياً.. وإن كانت خسائره فادحة وجسيمة.. وإن كان منبوذاً..

من حقّ (الأصل) علينا أن نقدّمه احتراماً له وتقديراً لمكانته، ثمّ نأتي إلى الأسباب التي دعت إلى تراجعه وانزوائه وأُفوله، لندخل منها إلى ما يمكن أن يعيد للأصل أصالته، وللآفل نضارته، وللمنزوي مكانته واعتباره..

الوحي الإلهيّ رائدنا في ذلك.. فـ(الزبد) زائل.. يذهب جُفاء.. لأنّه على هامش الحقيقة وليس هو الحقيقة.. هو غثاء لا فائدة فيه.. و(العنف) زبد..

وأمّا (ما ينفع الناس) فخالد.. يمكثُ في الأرض.. لأنّه الحقيقة.. و(السلام) ممّا ينفع الناس ويُصلح شأنهم.. وينظِّم حياتهم.. ويشيع الأمن والاستقرار والحضارة.

كم من الدول دخلت حروباً ضارية أكلت من أبنائها وأموالها الكثير.. لكنها – في النهاية – لم تجد سوى مائدة أو طاولة المفاوضات والحوار السلميّ حلّاً للمشكلات العالقة بينها.

الحروب تبدأ باشعال النيران.. شرارة من هنا.. وشرارة من هناك.. وتنتهي بالإطفائيات.. تبريد من هنا.. وتبريد من هناك..

(الأمن الاجتماعي) الذي يشعر معه كلّ فرد أو مواطن بالأمان والاطمئنان، هو الابن الشرعيّ البارّ للقيم والمُثل الأخلاقية.. أدرس حالة أي مجتمع وفي أيّة مرحلة زمنية، ستجد أنّ أمنه واستقراره لم يأت فقط من بسط الحكومة وسيطرتها عليه، أو من إظهار حزمها، واتخاذ الإجراءات الأمنية المشدّدة.. بل من التزام أبنائه بالقيم الحيّة.. وتقديرهم للضمير الحيّ.. وشعورهم العالي بالمسؤولية، واحترامهم الطوعي للقانون.►

ارسال التعليق

Top