• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

واقعية الأخلاق الإسلامية

واقعية الأخلاق الإسلامية

◄الأخلاق توضح من خلال المفاهيم الآتية:

 

"الأخلاق الإسلامية واقعية تخاطب الإنسان في مشاعره وأحاسيسه وأوضاعه الحياتية، ثمّ تحاول الارتفاع به إلى الأعلى من موقع إرادته واختياره".

 

واقعيّة الأخلاق الإسلامية:

من مميزات الأخلاق الإسلامية أنّها أخلاق واقعية تخاطب الإنسان في مشاعره وأحاسيسه، وفي أوضاعه الطبيعية في الحياة، ثم تحاول الارتفاع به إلى الأعلى من موقع إرادته واختياره، فمن ذلك أنّ الناس عندما يختلفون في حياتهم، ويتنازعون ويتقاتلون فيسيء إنسان إلى إنسان بحيث يكون هناك إنسان يسيء، وآخر يُساء إليه، إمّا بكلمة غير مسؤولة، وإمّا بحركة غير مسؤولة كما يضرب إنسان إنساناً، أو يجرحه، أو يشرّده من بلده، أو يعطّل مصالحه، ففي مثل هذه الحالة جعل الله للإنسان الحقّ – في الخط الأخلاقي الحقوقي الإسلامي – بأن يرد العدوان بمثله (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194)، (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل/ 126)، (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى/ 40).

فالخط الإسلامي هو أنّ لك أن تأخذ حقّك ممن اعتدى عليك بالعدل، أي بشرط أن لا تتجازوه قيد شعرة، فإذا سبّك إنسان فليس لك أن تضربه، وإذا ضربك فليس لك أن تجرحه، وهكذا إذا اغتابك فليس لك أن تبادره بطريقة عنيفة.

ففي القصاص لو قتل إنسان إنساناً، فإنّ القرآن يحدّد الموقف في ذلك في قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء/ 33)، فإذا أردت أن تقتل أُقتل قاتل ولدك أو قاتل أخيك، وليس لك أن تقتل أباه أو عمّه أو ولده أو مَن يحيط به، بل ليس لك أن تضرب القاتل ولا أن تجرحه، وليس لك أن تمثّل به.

 

مثل من سيرة عليّ (ع):

وهذا ما طبقه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) على نفسه، فعندما ضربه (ابن ملجم) جمع الإمام (ع) أهل بيته وعائلته وبني عبدالمطلب وتحدّث معهم في الخطوط العامة، ثمّ تحدّث بعد ذلك في القضية الخاصة، قال لهم فيما روي عنه:

(يا بني عبدالمطلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتِلَ أمير المؤمنين قُتِلَ أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي إلّا قاتلي، أُنظروا إذ أنا متُّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثّل بالرجل. فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور").

لا تقطعوا يديه ورجليه أو تشوهوا صورته، بل ليس لكم أن تبصقوا بوجهه، ليس لكم أن تشتموه، وليس لكم أن تذلّوه، أو أن تجيعوه، فهذه ليست من الحقوق التي جعلها الله لكم، إنما جعل أن تقتلوه فقط بالحقّ.

أمّا إذا كان مسلماً، فله حقّ المسلم على المسلم وإذا كان ذميّاً أو معاهداً، فله حقّ الذمي والمعاهد على المسلم وهكذا.

نموذج آخر:

وقد مارس أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) هذا الأمر في حادثة أُخرى، حيث كان جالساً مع أصحابه وهو يومئذ أمير المؤمنين أي (الخليفة)، فمرّت امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم هكذا في (نهج البلاغة) فالتفت إليهم الإمام عليّ (ع) معلماً وموجهاً، لم يتحدّث معهم بأسلوب عنيف، قال لهم "إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سببُ هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته" وسكت الإمام. وكان هناك شخص من الخوارج الذين كفّروا عليّاً (ع) لقبوله بالتحكيم قد أعجب بكلام الإمام، ولكنه يعتقد بأنّ الإمام كافر، فقال: "قاتله الله كافراً ما أفقهه!!" يعني كم يفهم هذا الكافر قاتله الله، فتصوّر أنّ خليفةً وبيده السلطة وأصحابه حوله، وهذا الخارجي يشتمه وهو بمفرده، ماذا يكون الموقف؟ لقد وثب إليه القوم ليقتلوه، فأومأ إليهم أمير المؤمنين وقال: "رويداً إنّما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفو عن ذنب" إنّ الرجل سبّني، فليس ردّ فعل السب هو القتل (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فإمّا أن أسبّه لآخذ حقِّي، وإمّا أن أترك ذلك فأعفو عنه.

هذا هو الخط الإسلامي الواقعي وهو أن يكون لك الحقّ ولكن بعدلٍ، لأنّك عندما تمنع إنساناً من أن يثأر لنفسه، فإنّك تخلق مشكلة اجتماعية لأنّ المسألة عند ذلك سوف تتحوّل إلى عقدة نفسية تتفجّر بأشياء أُخرى، لأنّ طبيعة ثأر الإنسان لذاته هي طبيعة إنسانية ذاتية يتحرّك نحوها الإنسان بشكل طبيعي، ولكنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أعطاك هذا الحقّ قال لك إنّك صاحب حقّ الآن، ولكن إذا عفوت عن هذا الإنسان وأنت قادر أن تقتص منه فإنّ الله يعطيك ثوابه وأجره، وإنّ ذلك يمكن أن يمثل وسيلة هي الأقرب في خط الانضباط في خط الله والالتزام بمواقع حجة الله ورضاه، ولذلك قال (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237).

 

الأجر على الله:

كذلك (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).

والآية التي قرأناها أيضاً (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه) (الشورى/ 40)، وكلمة (أجرهُ على الله) تدخلك في أمل كبير بأن يعطيك الله كلّ ما تتصوّر وكلّ ما لا تتصوّر حيث استخدمها القرآن في آية أُخرى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) والكثيرون من المشرّدين الذين فرّوا بدينهم إلى الله تعالى تنطبق عليهم هذه الآية (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء/ 100)، فالله يتكفّل بأجرك وهو الكريم الجواد الذي يعطي بلا حساب (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى/ 40)، ولكنه يحب العافين الذين يعفون عن الناس وقد جعل العافين عن الناس من أهل الجنة (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 133-134). فأنت إذا عفوت عن الناس فإنّ الله سبحانه وتعالى يتكفّل بأجرك.

وفي آية أُخرى يريد الله لك أن تتخلّق بأخلاقه. فقد أعطاك القدرة على أخذ حقّك وقال لك اعفُ وهو القادر على أن يأخذ حقّه منك ومن كلّ العاصين وقد عفا عنك (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النساء/ 149). فالله هو العفوّ القدير، فكن أنت العفوّ من موقع القدرة، ففي الحديث "تخلّقوا بأخلاق الله".

 

الأخلاق في خطّ التوازن:

وهكذا ركّز الله سبحانه وتعالى الأخلاق الإسلامية على خطّ التوازن، فلا يعني كونك صاحب حقّ أن تأخذ بحقّك كيفما تشاء، فالله أراد لك أن تعفو عمّن أساء إليك، هذا في القرآن الكريم.

أمّا في السنّة الشريف، فهناك حديث يقول: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمّن ظلمك، وأن تصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك".

وهذه الخصال تمثل عمق الأخلاق الإسلامية، فإنّك إذا كنت تعطي مَن أعطاك، فهذه مبادلة، أو تصل من وصلك فهذه أيضاً مبادلة وعملية تجارية وليست أخلاقاً، إنّ الأخلاق تتمثل وتتجلّى عندما يكون للطرف الثاني حقّ عليك بل يكون ضدّ الحقّ، وهذا الذي عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في دعاء (مكارم الأخلاق) "اللّهمّ وسدِّدني لأن أعارض مَن غشّني بالنصح، وأُجزي مَن هجرني بالبرّ، وأُثيب مَن حرمني بالبذل، وأُكافي مَن قاطعني بالصِّلة، وأُخالف مَن اغتابني إلى حُسن الذِّكر".

هذه هي الأخلاق غير التجارية وهي أن تعطي في الوقت الذي يمنعك الآخر.

والآن نأتي للجائزة، فما هي جائزتك إذا كنت عافياً عن الناس، تعفو عن زوجتك إذا أخطأت وتعفو عن ولدك أو عن جارك وعن صديقك إذا أخطأوا، ما هي الجائزة المعدّة لك من قبل الله؟ لقد جاء في الحديث أنّه: إذا أوقف العباد نادى منادٍ ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة. قيل مَن الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس، ألم تسمعوا قوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه) (الشورى/ 40).

 

العفو عزٌّ:

ربّما يتصوّر بعض الناس أنّ العفو يمثل ذلّاً وإنّ الإنسان الذي يعفو، ضعيف في موقفه جبان ذليل والناس يلومونه بقولهم أنت لم تأخذ حقّك ضربك فلان فلم تضربه وشتمك فلم تشتمه، فيما يقول الحديث: "عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً فتعافوا يعزّكم الله". المسألة إذن هي أنّ الله سبحانه وتعالى يعطيك عزاً من عنده ونحن نعرف أنّ العزّ ليس من الناس (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26). وفي الحديث عن الصادق (ع): "يا سفيان! مَن أراد عزاً بلا عشيرة وغنىً بلا مال، وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته".

وعلى هذا الأساس ينبغي لنا أن ننطلق لنربِّي أنفسنا على هذا الخلق الإنساني الذي يفتح قلوب الناس، عليك بدلاً من أن تغلقها عنك، والذي يمكن أن يحلّ المشكلة بدلاً من أن يعقِّدها.

وكان الإمام (ع) يعبّر عن مسألة امتناعه عن شفاء غيظه من الناحية الأخلاقية فيقول: "متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي لو صبرت؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي لو عفوت" فإذن أنا عندما أغضب فسأقف بين حالتين: حالة العجز التي يريد الله منّي أن أصبر عليها، وحالة القدرة التي يريدني الله أن أعفو عنها.

وهذا ما أراده أمير المؤمنين (ع) من عمّاله الذين كان يوليهم شؤون الناس، وكان من كلامه في كتابه إلى (مالك الأشتر) عندما بعثه إلى مصر "ولا تكونن عليهم سبعاً ضارباً تغتنم أكلهم" وهذا هو الخط الإنساني الإسلامي عند عليّ (ع): "الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل" فالإنسان الذي هو نظير لك في الخلق هو الذي تلتقي معه في الإنسانية، عليك أن تتفتح عليه للتتعامل معه كما يتعامل الإنسان في إنسانيته مع الإنسان الآخر "يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل وتؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه" أي حاوِل أن تعفو لتعرض أمام نفسك هذه الصورة: أنت مذنب أمام الله وتطلب من الله العفو والصفح وهؤلاء المذنبون أمامك ويطلبون منك العفو والصفح، فإذا كنت لا تعفو عنهم، فكيف تطلب من الله أن يعفو عنك. وإذا كنت تأمل من الله أن يعفو عن ذنبك وأن يصفح عنك فعليك أن تفكر بأن تعفو عن هؤلاء وتصفح عنهم.

ثمّ نلتقي بالإمام زين العابدين (ع) في هذا الاتجاه في دعاء (أبي حمزة الثمالي) عندما يقارن العفو عند الله بالعفو عن العباد الآخرين "اللّهمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا" يعني نحن لسنا أكرم منك، نحن نعفو عمن ظلمنا وأنت لا تعفو عنّا وقد ظلمنا أنفسنا وقد ظلمناك حقّك، هذه معادلة لا تصح لذلك فلتعفُ عنّا يا رب إذا عفونا عن الذين من حولنا.

قال رسول الله (ص): "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وأن تصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك، وفي التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشَّعر ولكن حالقة الدين".

نخلص من ذلك إلى أنّ مسألة العفو في الإسلام هي مسألة تتوازن مع مسألة الحقّ. الإسلام يعطيك الحقّ ويطلب منك أن تعفو عفو صاحب الحقّ عن حقّه ويعدك الله بالأجر غير المحدود على عفوك.

وبهذا يكون العفو في الإسلام إنسانية عندما ينفتح على الناس الذين لا يضرهم العفو، كما هو حال المجرمين الذين لا يزيدهم العفو إلّا إصراراً على الاعتداء والإجرام.

ويبقى الإسلام في أخلاقه واقعياً يدرس الإنسان في نقاط ضعفه ونقاط قوته فيجعله يعيش التوازن بين الحقّ وبين العفو وهذا ما ينبغي لنا أن نعيشه وأن نتخلّق بأخلاق الله (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النساء/ 149).►

ارسال التعليق

Top