• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أطفالنا والإبداع الفني

أطفالنا والإبداع الفني

التذوُّق الفنّي مهم جدّاً في حاضر حياتنا ومستقبلها، فهو ترسيخ لقيم الجمال والحيوية والحرّية والتنسيق والحضارة في النفس البشرية، ومستقبل أي أُمّة من الأُمم يُشرق بالإبداع الفنّي والأدبي والعلمي لأبنائها.

ويأتي هذا الموضوع المهم لتوضيح ما للفن التشكيلي من أثر في الطفل، وواقعه ومستقبله، فهو جزء لا يتجزأ من الإبداع، لذا وجب الحرص على تنمية الفن البصري التشكيلي كجزء من التربية الجمالية عند أطفالنا. وسنتطرق إلى الرسوم في كُتُب الأطفال، وتنمية مهارات الابتكار لدى الأطفال عن طريق الرسم.

إنّ رسوم كُتُب الأطفال عملية إبداع فنّي بحت، تنبع من فن الرسم والتصوير، ولا غنى عنهما في كُتُب الأطفال. ولاعتبار أنّ عملية الإبداع الفنّي من العمليات الإبداعية، فإنّها ترتكز على نقاط عدّة:

- كلّ إبداع فنّي هو نتاج ذات مبدعة متفاعلة مع ذاتها، ومع أبعاد اجتماعية وتاريخية.

- يصعب الفصل بين الذات والموضوع في الإبداع، فهما يكونان مجالاً واحداً متفاعلاً ومتماسكاً.

- إنّ تمايز الفنون واختلافها من فنان لآخر يعزيان إلى ما يُسمّى بالإطار، ومفهوم الإطار مكتسب يسهم في تنظيم الإدراك والتذوق، وله خصائص مثل: دينامي، العادات لا تمثّل كلّ جوانبه، علاقته بالأنا دينامية، وقد يحمل الفنان أكثر من إطار في وقت واحد.

- للمبدع شخصية عاقلة انفعالية صانعة تعيش في بيئة ذات مضمون ثقافي اجتماعي تاريخي، تتبادل معها الأثر والتأثير بطريقة دينامية من خلال الإطار المكتسب.

- انفعالية المبدع وتوتره النفسي نتاج واقع خارجي خصب زاخر بالأحداث والأقوال والأفعال.

- المبدع في عمله يستعيد الـ"نحن"، فيعاد إليه إتزانه.

- منبع الإبداع الفنّي في شخصية الفنان، فهي وحدة دينامية متفاعلة مع بيئتها ذات الأبعاد الاجتماعية والتاريخية.

- علّة الإبداع الفنّي تكمن في انفعال الفنان وتوتره إزاء أحداث خارجية تثيره وتدفعه إلى الإبداع وفقاً لإطاره ذي المضمون المكتسب.

 

الإبداع الفنّي له 3 مراحل رئيسة، هي: ما قبل الإلهام، الإلهام، وما بعد الإلهام.

 

         - سمات الإبداع الفنّي في كُتُب الأطفال:

هناك سمات اجتماعية وغير اجتماعية خاصّة بالفنان المبدع مقارنة بغيره:

       * السمات الاجتماعية: الشك في المعايير، الاستقلالية، العدوانية، التعالي، الافتقار إلى الدفء، والانطواء والانفتاح على المرونة الفكرية والخبرة، الهيمنة، والثقة بالنفس.

      * السمات غير الاجتماعية: الانفتاح على الخبرة، التوجه للتخيل، الاندفاعية، ضعف الوعي أو الضمير، القلق، الحساسية العاطفية، الطموح، الحافز، والإنجاز.

إنّ رسوم كُتُب الأطفال تحمل فكرة إحساس الفنان بالجمال دون القبح، وتركيزه على ما في الأشياء من انسجام، وهذا ما نريده لأطفالنا، لأنّنا في تربيتنا للذوق الفنّي لديهم نعمد إلى تبصيرهم بمواطن الجمال في الأشياء حتى يتذوقوها ويقلدوها.

هذا البُعد التربوي في النظرة إلى الجمال يتلاقى مع البُعد العفوي عند الفنان في رسوم كُتُب الأطفال، فبعد أن يتم النضج للطفل، وقد كبر ونما في أحضان الفن، فإنّه ينتقل من نطاق الملذ لوجدانه إلى نطاق تصوير الواقع، بما يشتمل عليه من خير وشر، وبما فيه من جمال، فالفنان يلتزم الأُطر الجمالية من أشكال وألوان وتعبير حيّ، وتقمص الشخصيات وتجسيد البيئة والزمان، لخلق جديد للرسوم في كُتُب الأطفال.

لذا يمكن أن نقول إنّ رسوم كُتُب الأطفال يجب أن تتم بوساطة فنان لديه تذوق فنّي، وبُعد تربوي، وإحساس اجتماعي، واستحسان لكلّ ما تقع عليه حواسه، يقدّم رسومه وهو هاضم ومحيل ما يهضمه إلى عصارة من لحم كيانه الوجداني الإبداعي.

إنّ الرسم، والنص، والإخراج الفنّي، ثلاثة عناصر متكاملة في كُتُب الأطفال، فالنص نقول عنه إنّه قليل من الإبداع كثير من الصنعة، لأنّ أدب الأطفال يخضع لمعايير تربوية واجتماعية ونفسية، ومعايير أخرى تبعاً لسن المتلقي، ومعايير اللغة والأسلوب.

 

- أُسس الإبداع الفنّي في كُتُب الأطفال:

حين يرسم الفنان المبدع، لابدّ أن يوجه دعوته الفنية أساساً إلى الحواس، إذا كان يرغب في أن يصل إلى المنبع السحري للعواطف المستجيبة، فيختار صوراً ذات دلالة تستثير قارئه الصغير، الذي يتولى عملية الاستجابة الحسّية والعقلية. والرسّام المبدع يستخدم كلّ أنواع المهارة والإنتاج الإبداعي من خلال الرسم والتصوير، تنتج نوعاً من الخبرة الجمالية، وتتضمن: التعبير والتوصيل للخبرات الوجدانية الخاصّة به.

ولكن الرسوم والإخراج الفني يعبران عن إبداع فني مختلف، لأنّ الرسوم، وإن اختلفت من مرحلة عُمرية إلى أخرى، فإنّها تعبر عن المادّة التي توجد في الكتاب، وتشرحها بالرسم والتصوير الفنّي، وتشوق الأطفال لقراءتها، ولذا فإنّ الرسوم إبداع فني خالص يعبر عن جماليات النص وتطوّر أحداثه وتسلسل هذه الأحداث وصولاً إلى عقدة والحل، وتجسيداً عن شخصيات الكتاب، وتعبيراً مطابقاً للبيئة الزمانية والمكانية للأحداث.

بالإضافة إلى أنّ فرصة تعليم القراءة تبدأ مع مقدرة الطفل على فهم الصور، والرسوم الموجودة في الكتاب، وفهم هذه الصور على أنّها لغة قائمة بذاتها.

بمعنى أن يصبح الطفل قادراً على تحويل المعاني الرمزية التي يراها في الصورة إلى كلمات محسوسة ومفهومة، فتعلم قراءة الصور يعتبر الخطوة الأولى لتعلم اللغة المكتوبة، ولذلك يجب تشجيع الرسم المتقن لكُتُب الأطفال، ثمّ تشجيع الأطفال أنفسهم على فك رموز الكُتُب المصورة ومحاولة فهمها.

 

- تنمية مهارات الابتكار لدى الأطفال عن طريق الرسم:

الرسم أحد أهم الوسائل لتنمية مهارات الابتكار عند الأطفال، كما أنّه من الأنشطة التي يقبل عليها الطفل وتجذب انتباهه بقوّة، لذا علينا الثناء على ما يرسمه الطفل، فالطفل فنان موهوب بطبعه، وكما يقول هربرت ريد: "الفن يُخرج الأطفال من الاهتمام الضيق بنفوسهم إلى رحاب الحياة الواسعة، وربما يبدأ كنشاط فردي مستقل، كتخطيط ينصرف الطفل إلى مزاولته على قطعة من الورق؛ ولكن الطفل يخطط لكي ينقل عالمه الداخلي إلى متفرج عطوف، إلى والده الذي ينتظر الطفل منه الحنان في استجابته؛ ولكن مع الأسف، فالطفل لا يجد إلّا وجوهاً غير راضية وألسنة ساخرةً، وليس أسوأ على روح الطفل اليانعة من تحقير أب أو مدرس لجهود الابتكارية التي يظهرها في تعبيراته، وهذا من العوامل التي لا تساعد الطفل على الإبداع والابتكار".

وعليه، فانتشار مراسم الأطفال ضرورة، ولها أهمية كبرى في تخريج أجيال من الموهوبين المبدعين، فنجد أنّ معلمة رياض الأطفال لابدّ أن تتدرب على الفن التشكيلي حتى تستطيع توجيه الأطفال في مجال الرسم وعالم الألوان عموماً.

 

- الأطفال وتعلُّم الفن:

إنّ عملية تعلم الطفل للفنون مرتبطة بالعمر، فالدراسات النفسية والتربوية في العقود الخمسة الأخيرة بيّنت أنّ الخبرة الفنية أساسية للطفل الصغير، لأنّه يستطيع تذوق الفن قبل أن يستطيع النطق بشكل صحيح.

وكما يذكر هيود، فهم ينجذبون منذ الأشهر الأولى للأشياء البراقة والألوان المثيرة، ويطربون لسماع الغناء والموسيقى، ويهتزون للإيقاع.

وابتداءً من السنة الثانية، يسر الأطفال بمشاهدة روائع الطبيعة كالسماء وغناء الطيور، بينما ينفرون من الأصوات العالية والصاخبة والروائح الكريهة. ومما يلفت النظر، أنّ هؤلاء الأطفال الصغار حين يبدأون ممارسة النشاط الفنّي لا يهتمون بتمثيل شيء معين من خلال هذا النشاط، بل يركزون انتباههم بالدرجة الأولى على معالجة المادّة التي يستخدمونها، كأقلام التلوين أو الصلصال. فهم يقضون وقتاً طويلاً في وضع الدهان على ورقة كبيرة بيضاء، مجربين هذه المواد ومحاولين معرفة ما ينتج من هذه المعالجة، فهم لا يخططون لما سيقومون بوصفه ورسمه وتكوينه.

وفي خطوة تالية، ينتقل الأطفال إلى تقرير ما سيعملونه بصورة مسبقة، لأنّ هذه المرحلة تتطلب قدراً كبيراً من الخبرة والنمو، وقضاء وقت طويل في التجريب قبل أن تتضح معالم الأشياء التي يريد الأطفال تمثيلها، ومن الطبيعي أن تبقى الأعمال نفسها مجردة في جميع الرسوم.

وقد أيّدت أبحاث بياجيه، مرور النشاط الفنّي للأطفال بثلاث فترات: الفترة الأولى (من 2 - 3 سنوات)، وهي شكل الخربشة، ومن الفترة الثانية (من 3 - 4 سنوات) يبدأ الأطفال في تصميم بعض الأشكال الظاهرية، وفي الفترة الثالثة (من 4 - 7) يميل الأطفال إلى نوع من الفن التمثيلي.

ومن الضروري نمو بعض المفاهيم مثل الحجم والزمان والمكان واللون، للوصول إلى مستوى متقدم من المهارة الجسدية في مادّة ما، قبل أن يصبح الفن التمثيلي ممكناً، ولذا فالفن يُعتبر تعبيراً عن الذات.

ولما كان الفن يظهر بصورة مبكرة، ويجتاز مراحل عديدة في سنوات ما قبل المدرسة، كان من الضروري أن يبدأ تعليم الفن في هذه السنوات أيضاً، لما له من وظائف عديدة، منها:

1- أنّ الخبرات الفنية مرتكزات للنمو بأوسع معانيه، ومن ذلك النمو الحركي العام والخاص.

2- تساعد الخبرات الفنية المبكرة على الاستقرار العاطفي، فالاتصال الهادئ بين النفس والخبرة الفنية هو في الغالب تعزيز خاص لإدراك الذات.

3- يمكن للفاعليات الفنية أن تكون وسيلة أساسية لفهم الخبرة.

4- النشاط الفنّي يقدّم فرصاً عديدة لتعليم عادات الإبداع؛ ولكنّ هذه الفرص تتوقف على كيفية تعلّم الموضوع، والمواقف التي يتخذها المعلم.

يذكر هيوز أنّ الذوق الفنّي ينمو لدى الطفل حتى سن الخامسة، ثمّ يتراجع. ولذلك عدّة تفسيرات، منها أنّ الأطفال يكبرون في وسط لا يعير اهتماماً للفن، أو أنّ الأطفال يضطرون تحت ضغط الحياة العملية إلى الابتعاد عن الخيال، أو أنّ التربية الفنية التي يحصلون عليها في المدرسة تكون محدودة، وتؤدي إلى عكس ما تهدف إليه.

ومهما كان السبب، فالمدرسة تتحمّل مسؤولية في تراجع التذوق الفنّي عند الأطفال. والنقطة التي يجب تأكيدها تتمثّل في إتاحة حرّية الاختيار للأطفال والسماح لهم باستخدام المواد بطريقتهم الخاصّة، لأنّ العمل الفنّي للأطفال يجب ألّا يخضع لأي معايير.

 

- أطفالنا والرسم:

يُعتبر الرسم من أهم الوسائل التعليمية الرئيسة لتنمية الابتكار، ومجالاً مهماً من مجالات تحقيق الذات المبتكرة، في نفوس التلاميذ عموماً وفي نفوس أطفال رياض الأطفال على وجه الخصوص.

وترغيب أطفالنا الصغار في الرسم، وتنمية مواهبهم ومَلكاتهم الفنية مسؤولية الأسرة أوّلاً، ومن ثمّ المدرسين والمعلمين. فطفل ما قبل المدرسة يعيش في جو من الحرّية والتلقائية يتشرب فيه معظم تعليمه بشكل غير مباشر على أساس محاكاته لما يراه داخل منزله، وإذا استطاع الإمساك بالقلم عند وصوله إلى سن الشهور الثمانية الأولى من حياته، فيمكن اكتشاف موهبة الرسم لديه من خلال:

- إحاطة الطفل بجميع الوسائل والخامات المساعدة كالألوان والورق.

- تخصيص مكان معين يوضع فيه إنتاجه وأدواته.

- أهم معلميه في هذه المرحلة: الأُم ثمّ الأب ثمّ الإخوة.

- الاستحسان والإشادة بكلّ ما يرسمه ليشعر بالثقة ويستمر في محاولاته، وعدم السخرية نهائياً منه.

- توجيه وإرشاد الطفل (من 3 سنوات وما فوق) ليتقن رسوماته من حيث الشكل والموضوع والذوق الفنّي.

- تعليق الرسومات الجيِّدة على جدران حجرته، ليتابع إنتاجه الفنّي وتطوّر موهبته.

- تشجيع الطفل على رسم ما يحيط به من بيئة وأشخاص وخيال أيضاً.

- متابعة ما يعمله الطفل، ولفت نظره إلى تناسق الألوان وتنظيم الرسوم في الصفحة، بحيث تظهر تكويناتها مُنسقة ومُعبرة.

- دمج الأطفال مع الفنانين البالغين للاستفادة من خبراتهم ومواهبهم وملاحظاتهم.

- إقامة معارض في رياض الأطفال لعرض الإنتاج الفنّي للأطفال.

- ذكر أعمال كبار الرسامين العالميين للأطفال الموهوبين ليكونوا قدوة لهم في الرسم.

ومن هنا يرى البعض أنّ الفن يجب أن يكون الجوهر والأساس في كلّ برنامج نعده. فالفن، وخصوصاً رسوم كُتُب الأطفال، فيه المعرفة والمتعة للطفل من خلال كلّ ما تقع عليه حواسه في بيئته من ظواهر طبيعية وتناقضات أيضاً، فالمجال الفني يعنى بالتفكير عموماً والتفكير الإبداعي خصوصاً، لأنّنا نتأثر بما حولنا من جمال طبيعي، ويتأثر الطفل برسومات كُتُبه، فيكتسب المعرفة المهارة وحبّ الجمال. إنّ الفن هو نقطة البدء التي تحفّز العقل على التفكير، كما أنّه يعزز في نفوس الأطفال قيماً جميلة وقدرات عظيمة من الملاحظة والبحث والتفكير والرغبة في الاستكشاف والسؤال وطلب المعرفة والتذوق الفنّي.

وقد يكون الفن هو الأداة التي تثير الدافعية عند الأطفال بحيث يكونون على درجة عالية من الوعي لما يدور حولهم، وبالفن ترتقي المعرفة من مجرد فهم إلى ابتكار وموهبة وإبداع.

إنّ رسوم كُتُب الأطفال أداة معرفية مهمّة ووسيلة لنمو المواهب والتفكير النقدي عند الأطفال.

 

- توصيات لرسوم جميلة وأطفال مبدعين:

في البلدان العربية يظل مستوى إخراج كُتُب الأطفال ضعيفاً، فغالبية الكُتُب مترجمة، وبرسومها الأصلية، والتي تصوّر جوانب من التفكير والعادات والأزياء تختلف عما هو مُتعارف عليه بيننا، ومن هنا تأتي أهمية التعريب للنص والرسوم وغربلة ما في هذه الكُتُب من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات لتناسب مجتمعاتنا.

ويوصى بالفنون البصرية عامّة والرسم خاصّة. ولكي يمكن للرسم أن يقوم بدوره في إعمال خيال الأطفال، لابدّ من التخلص من فكرة النسخ من صورة تقدم للطفل أو من فكرة تلوين صورة له، فليس هناك أسوأ من هذا عملاً، إذا كان المراد تنمية التفكير الإبداعي عند الأطفال، ويرجع سوء هذا الأسلوب إلى أنّه يُفقد الطفل تلقائيته في عملية الرسم.

وقد يُثار في مواجهة هذا النقد سؤال، هو: كيف يمكن إذن أن ندرّب الأطفال على الرسم؟

إنّ التدريب على الفن لا يعني أن تُخبر الطفل بما يجب عليه عمله وكيف يعمله، فقد يكون من المناسب لسنوات ما قبل المدرسة أن نوحي للأطفال بموضوع عام، ونطلب منهم أن يعبروا عنه بالرسم، وبعد ذلك نقدم لهم إرشاداتنا في صيغة تشجيع وإثابة، وملحوظات غير مباشرة عند تقييم إنتاجهم الفني.

*د. إسماعيل عبدالكافي

ارسال التعليق

Top