• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مراتب الإصلاح في القرآن الكريم

مراتب الإصلاح في القرآن الكريم

 للإصلاح في القرآن الكريم مجالات متعدِّدة ومساحات واسعة، تعمّ الوجود كلّه: الإنسان والمجتمع والطبيعة والكون.. الذات والعمل، الفرد والجماعة، وسائر عوالم الموجودات.

تشرّف الإصلاح بأن كان ابتداؤهُ من الله تعالى، إذ أصلح الوجود بأسره تكويناً – في خلق الإنسان والأرض وسائر الوجود ليسير على نظامٍ دقيقٍ ورائعٍ – وتشريعاً في دينٍ صالحٍ وقانونٍ متكاملٍ، وكل ذلك من أجل أن يعيش الإنسان حياة طيِّبة في الدنيا وحياة سعيدة خالدة في الآخرة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97). وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (الشورى/ 22). فالإصلاح كان من الله تعالى ابتداءً (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف/ 56)، ويكون دوماً منه بإصلاح حال الناس (سورة محمد 2 و5)، وإصلاح أعمالهم (سورة الأحزاب/ 71)، وإصلاح أزواجهم (سورة الأنبياء/ 90)، وغصلاح ذُرِّيّاتهم (سورة الأحقاف/ 15)، ومن ثمّ إلحاقهم بالصالحين وإدخالهم معهم في دار النعيم (سورة المائدة/ 84). والإصلاح من الإنسان يكون بمراتب مختلفة، تبتدئ من دائرة النفس، فالمجتمع من الأقربين، الأسرة والذرِّية، ثمّ الآخرين، ولا تقتصر على البشر، بل في التعامل مع الطبيعة بما فيها من خيرات ونعم وذخائر لعموم بني آدم من الأوّلين حتى الآخرين، ومن هذه المراتب:   - أوّلاً، الإصلاح الذاتي: وهو إصلاح الإنسان لنفسه وعمله.. وإصلاحه لذاته أي أن يكون مستقيماً مؤدياً لواجباته، والإصلاح في عمله، أن يأتي بما هو صالح نافع من العمل، فهو يؤدي واجباته ويأتي من الأعمال الصالحة النافعة لنفسه ودينه ومجتمعه. ويكون الإصلاح الذي من عدّة وجوه، منها: أ- الإيمان بما جاء به الرُّسُل من آيات الله، وتقوى الله بالعمل بما أُمِرَ به والإنتهاء عما نُهِيَ عنه وإصلاح أعماله، كما قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام/ 48). وقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأعراف/ 35). ب- التوبة إلى الله تعالى من الأخطاء التي بدرت من الإنسان، فإنّ الله واسع المغفرة عظيم الرحمة، ومن ثمّ إصلاح سيرته وعمله، وتصحيح الأخطاء التي بدرت منه باتّباع الحق ورعاية الحقوق وردّ المظالم إلى أهلها أو الإستقالة منهم أي بطلب العفو والمغفرة وكسب رضاهم. قال تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 39).. وقال تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 54). ج- الإصلاح فيما بينه وبين الآخرين، ويندرج هذا تحت عنوان إصلاح ذات البين ومنه أن يعفو الإنسان عمّن أساء إليه فيصلح حاله معه. قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى/ 40). د- الإصلاح في الأمر والعمل مع الآخرين: في ولايته لأمرهم أو إدارته لأوضاعهم، باتّباع الحق وتجنّب سبيل المفسدين، خصوصاً في عموم البرامج الدنيوية والدينية، فإنّ سلوك الإنسان الإجتماعي جزء من سيرته الذاتية وواقعه العملي. قال تعالى في وصية موسى لأخيه هارون وقد أخلفه على قومه: (وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف/ 142). وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ سائر آيات القرآن الكريم، تفتح باب التوبة وإصلاح الإنسان لنفسه على مصراعيه، فالله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وهو: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (غافر/ 3)، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى/ 25)، ولذا يجب التعامل مع الناس على أساسِ واقعهم وعدم غلق منافذ التوبة والإستغفار أمامهم، وإعطائهم الفرصة لإصلاح أوضاعهم والإلتحاق بركب الصالحين، بإذن الله. نعم، تجب المبادرة إلى التوبة قبل فوات الأوان وقبل أن تحل ساعة الندامة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89)، ولا ينفع التوبة ممّن علم الحق، ولكنه يراوغ ويعمل السيِّئات خبثاً ومكراً وتسويفاً وخداعاً، ولا يخدع إلا نفسه، وقد قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء/ 17-18). فعلى المصلحين إتاحة الفرصة لمن أراد التوبة والإصلاح، وعلى هؤلاء إقتناص الفرصة، قبل فوات أوانها.   - ثانياً، إصلاح المجتمع: كما إنّ الفساد ينتشر في مرافق الحياة المختلفة محاولاً تخريبها وتدميرها.. كان لابدّ للإصلاح أن يتّسع في حركته ومقاومته للفساد ومحاولته إعادة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية ليشمل بذلك كل مناحي المجتمع. ويبتدئ الإصلاح من ذات الإنسان، ثمّ الدائرة القريبة منه، وهي الأُسرة، ثمّ يتّسع ليشمل كل المجتمع في جوانبه المختلفة. إنّ القرآن الكريم يُذكِّر بأنّ صلاح الزوج نعمة عظيمة، يذكرها الله تعالى في فضله: (.. وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) (الأنبياء/ 90)، وكذلك صلاح الذرِّية أمنية ورغبة صادقة وصالحة يذكرها الله في دعوات عباده: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) (الأحقاف/ 15)، ومن ثمّ يرفع شعار "الإصلاح" ليتسع ويشمل كل مرافق المجتمع ومجالات الحياة، حيثما كان هناك فساد يحتاج إلى إصلاح، وحيثما كان انحراف يحتاج إلى تقويم، وحيثما كان تطرّف أو تجاوز للحدود ويحتاج ذلك إلى تعديل وإعتدال، ولذا يُطلق النبي شعيب صرخته عالية: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/ 88)، ليُعبِّر بذلك عن فحوى رسالة الأنبياء ومنهجهم وغايتهم في الحياة، فهم يريدون بناء المجتمع لا تخريبه، وتعمير البلد لا تدميره، وإرساء الصُّلح والسلام فيه، فلا يستعملون القوّة والعُنف ولا يلجأون إلى الحرب إلا للدفاع عن النفس عند الإضطرار في وجه المعتدين، إذ يقول تعالى: (فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 193). والإصلاح في رسالات السماء عام وشامل وإنّما يتركّز ويتخصّص بالجوانب الطاغية للفساد بحسب الظروف القائمة للمجتمعات التي يواجهونها، فالنبي شعيب كان يواجه من قِبَلِ قومه فساداً فكرياً في الإنحراف عن عبادة الله حقِّ عبادته وإلتزام أوامره ونواهيه في سلوكهم الاقتصادي، حيث كانوا يخلّون بالموازين ويسرقون الناس رغم سعة حالهم وتوفر خيراتهم.. إلا أنّ الطمع والجشع والأنانية والمصلحية الطاغية على المجتمعات المادية التي ترى الحياة فرصة سانحة، جعلتهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يتّقون في معاملاتهم، ولا يراعون حرمات الناس، ولا يحفظون حقوقهم، ولذا دعاهم إلى ترك كل هذا وغيره من مظاهر الفساد، ولكن المفسدين الذين يريدون أن يفعلوا ما يحلو لهم وما يُؤمِّن مصالحهم النفعيّة دون مراعاة لشرع أو قانون لم تَرُق لهم دعوته الإصلاحية تلك، لذا عملوا على محاربته وملاحقته وأذاه. ويبقى الإصلاح ومحاربة الفساد، عنواناً عاماً، لحركة الأنبياء والأولياء ومَن تبعهم.. ففي نفس الإتجاه يوصي النبي موسى أخاه هارون بأن يصلح وينأى بنفسه والمجتمع الذي أخلفه فيه عن الفساد: (.. اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف/ 142). ولقد حدث ما كان يخشاه موسى على قومه.. لقد تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا حلية صاغها السامري على شكل عجل.. إنّهم تركوا عبادة الله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، وعبدوا المادّة في صورة هذا الصنم الأصم، وهذا سبيل من سُبُل المفسدين الذين يُعظِّمون المادّة ويجعلونها قبلة لحياتهم فيعبدونها ويغفلون عن عبادة الله. إنّ الفساد ينبع ويتدحرج من القِمة.. القِمة التي باتت قُمة، تنشر في المجتمع الرذائل وتحارب الفضائل وتطغى وتستكبر لتذلّ الناس وتسلبهم حرِّياتهم السياسية، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8)، وفي الحديث: "إنّ الله لا يرضى لعبده الذلّ". فالفساد فساد، ولكنّه من قِبَل ولاة الأمور (الحُكّام) أعظم وأخطر، لأن فسادهم لا يقتصر على حياتهم الفردية وأهوائهم الشخصية، وإنما يمتدّ تأثيره إلى سائر مناحي المجتمع، بل الأرض جميعاً، فيكون حكمهم ظالماً، ودولتهم بغياً وعدواناً، وسيرتهم فساداً وتجاوزاً على حقوق الناس، ولتتحوّل حياة الناس إلى جحيم لا يُطاق، يقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة/ 204-206). إنّ المفسدين لا يظهرون خبائث سرائرهم منذ أوّل المشوار: إنّهم يرفعون الشعارات البرّاقة التي تجلب عواطف الناس وتستميل قلوبهم، ويحلفون بالله أنّهم يريدون الخير والصلاح لأُمّتهم.. حتى إذا تولّوا السلطة بأي شكل من الأشكال – ولو بالإنتخابات – طغوا وبغوا وأكثروا في الأرض الفساد وأذاقوا الناس الويلات. والفساد قد يبتدئ بظاهر محدودة أوّل الأمر، ولكن حين لا يُجابه بمقاومة الناس ولا تصلح الأوضاع، يمتدّ شيئاً فشيئاً كالمرض الخبيث ليُدمِّر سائر مرافق المجتمع. فقد تكون البداية: الفساد المالي، ولكن هؤلاء المفسدون سيعملون لغرض إخفاء سرقاتهم والإستمرار في نهبهم لأموال الدولة والناس. سيعملون على السيطرة على الحكومة وقمع المعارضين وإسكات الناقدين، وبالتالي: مصادرة الحرِّيات السياسية والقمع والظلم والإستبداد. والفساد المالي بدوره قد يبتدئ بمظاهر بسيطة، ثمّ ينمو شيئاً فشيئاً، لذا تجب مكافحته على كافّة المستويات: رشوة أو سرقة أو تلاعب بالأموال العامّة، بل حتى الإسراف في النفقات، والذي غالباً ما يكون على حساب الناس الفقراء.. لنقرأ قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء/ 150-152). لذا يجب العمل على مكافحة الفساد، بكل صوره، وفي جميع مجالاته، قبل أن يستفحل ويصعب علاجه، بل قد يأتي بآثاره على المجتمع كلّه فيُسبِّب دماره وهلاكه (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 117).   المصدر: نظرية الإصلاح من القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top