• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل والإدراك العقلي

العقل والإدراك العقلي
◄قال تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة/ 242)، الأصل في معنى العقل العقد والإمساك وبه سمي إدراك الإنسان إدراكاً يعقد عليه عقلاً، وما أدركه عقلاً، والقوة التي يزعم أنها إحدى القوى التي يتصرف بها الإنسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل عقل، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة. والألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك. والظن هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع، وكذا الحسبان، غير أنّ الحسبان كأن استعماله في الإدراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن وأصله من نحو قولنا: عد زيداً من الأبطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب. والشعور هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواس. والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك أو حفظه من أن يغيب عن الإدراك.
والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل: إنّه إدراك بعد علم سابق. والفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه. والفقه، هو التثبيت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق. والدراية: هي التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر وتعظيمه، قال تعالى: (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة/ 1-3)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر/ 1-2). واليقين: هو اشتداد الإدراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن. والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات. والرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي، غير أنّه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور التكوينية، ويقرب منه البصيرة، والإفتاء، والقول، غير أن استعمال القول كأنّه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لأنّ القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه. والزعم: هو التصديق من حيث أنّه صورة في الذهن سواء كان تصديقاً راجحاً أو جازماً قاطعاً. والعلم كما مر: هو الإدراك المانع من النقيض. والحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغير والزوال. والحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها. والخبرة: هي ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفي على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها. والشهادة: هي نيل الشيء نفسه وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والإرادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك. والألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير، ولذلك لا يستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة، فلا يقال فيه تعالى: إنّه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك. وأما الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النساء/ 75)، وقال تعالى: (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (سبأ/ 21)، وقال تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة/ 234)، وقال تعالى: (هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف/ 83)، وقال تعالى: (أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت/ 53). ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث أن فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خِلقة يدرك نفسه في أول وجوده، ثمّ جهّزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء، وبأخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة، والحب والبغض، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، ثمّ يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريات والأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاءً نظرياً، وفي العمليات والأمور المربوطة بالعمل قضاء عملياً، كل ذلك جرياً على المجرى الذي تشخصه له فطرته الأصلية، وهذا هو العقل. لكن ربّما تسلط بعض القوى على الإنسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعّفه، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنّه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي، وإنه وإن سمي عمله ذلك عقلاً بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب. وعلى هذا جرى كلامه تعالى، فإنّه يعرّف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلاً، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/ 10). وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46)، فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الإنسان بالقيام عليه بنفسه، والسمع في الإدراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، وقال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة/ 130)، وقد مرّ أنّ الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (ع): "العقل ما عبد به الرحمن" الحديث. فقد تبين من جميع ما ذكرنا: أنّ المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الذي يتم للإنسان مع سلامة فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة/ 242)، فبالبيان يتم العلم، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت/ 43).►                              المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 49 و50 السنة الخامسة

ارسال التعليق

Top