• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الاختبار الإلهي في القرآن الكريم

الاختبار الإلهي في القرآن الكريم

◄يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود/ 7).

 

تمهيد:

عندما خلق الله تعالى الإنسان، قضت المشيئة الإلهيّة أن تكون له حياتان، حياة الدنيا، وحياة الآخرة. ففيما يتعلّق بالحياة الآخرة، شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هي الحياة الحقيقية، لذلك أعطاها صفة الخلود، فهي حياة أبدية، لا موت فيها ولا زوال.

ولأنها الحياة الحقيقيّة، السرمديّة والواقعية، فإنّ كلّ الحقائق ستظهر فيها، (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق/ 9)، (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 22).

 

دار الجزاء:

جعل الله سبحانه وتعالى العنوان الرئيس للحياة الآخرة "دار الجزاء" بمعنى أنّ كلّ إنسان بدون أيّ استثناء سيلاقي جزاءَ عمله في الحياة الآخرة، يقول تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 30).

وفي آية ثالثة قال الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا) (الكهف/ 7)، لماذا؟ يقول الله: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف/ 7). ويقول تعالى: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) (الكهف/ 8). بمعنى أنّ كلّ هذه الأرض فانية. وهنا الله تعالى يبلونا ليرى أيّنا أحسن عملاً، لأنّه فيما بعد هناك جزاء وحساب، لنكون أهلاً للثواب بجدارة، أو مستحقّين للعقاب وليس لنا حجّة على الله عندما يُعاقبنا بذنوبنا أو بسوء أعمالنا.

 

البلاء بالخير والشرّ:

(لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا).

عنوان البلاء عامّ وهو بمعنى الاختبار والامتحان. والله سبحانه وتعالى يختبر عباده بالنعم، والخير، وأيضاً يختبرهم بالمصائب والمِحن أي "بالنعم والنقم" في التعبير القرآني الخير بلاء والشرّ بلاء. ولكن، نتيجة الفَهم العرفي لكلمة "بلاء" يذهب الذّهن مباشرة إلى المصائب، حيث إنّها من نوع البلاء الظاهرة الذي لا ينكره أحد، أمّا البلاء بالنعم والذي قد يكون أشدّ مصيبة على الإنسان، بل قد يكون نقمة أكبر عليه فهو البلاء الخفيّ الذي قد يغترّ فيه الإنسان فيظن أنّه في موقع الرضا الإلهيّ والحال: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران/ 178).

ويقول سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (الفجر/ 15). فهنا مصداق الابتلاء الإلهي بالإكرام والإنعام، (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر/ 16)، "قَدَر" أي "ضيّق" وهنا بتضييق العيش وحبس الأرزاق.

فالنعم والنقم وجهان للبلاء، وعلى الإنسان أن يعرف كيف يشكر النعم، وكيف يصبر على النقم. بل عليه أن يكون فطناً لحاله عارفاً لمآله متأمّلاً في علاقته مع ربّه، حذراً عند النعم شكوراً عند المصائب، فقد جاء عن الإمام عليّ (ع): "إذا رأيت ربّك يوالي عليك البلاء فاشكره، وإذا رأيته يتابع عليك النعم فاحذره".

 

الاختبار الإلهيّ:

في الاختبار الإلهيّ هناك مجموعة أمور عامّة لابدّ من الالتفات إليها:

أوّلاً: إنّ هذا الاختبار والامتحان هو قانون إلهيّ شامل لكلّ الناس. كلّ إنسان بلغ سنّ التكليف، هو موضع اختبار وابتلاء، لأنّ هذه إرادة الله في الخلق. حتى أنبياء الله تعرّضوا للاختبارات والابتلاءات، بل كانوا أشدّ الناس بلاءً، وقد ذكر عند أبي عبدالله الصادق (ع) البلاء وما يخصّ الله عزّ وجلّ به المؤمن، فقال: "سُئل رسول الله (ص) من أشدّ الناس بلاءً في الدنيا فقال: النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحُسن أعماله فمنّ صح إيمانه وحَسُن عمله اشتدّ بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه". وقد ذكر الله تعالى أصناف اختباراتهم في القرآن الكريم.

طبعاً، تختلف أهداف وأنواع الاختبار والابتلاء بين الناس من شخص لآخر، لكن في المبدأ الجميع مبتلى والجميع ممتحن.

ثانياً: الاختبار قد يأتي لفرد وقد يأتي لجماعة.

ثالثاً: الله تعالى، في أحيان كثيرة، يمتحن الإنسان في أكثر من شأن من شؤون الحياة. فقد يكون الاختبار الإلهيّ بالفقر، بالمرض، بالموت، وقد يكون بالصحة والغنى والمُلك، وقد يشمل الامتحان في وقت واحد شأنين، أو ثلاثة، أو أربعة.

رابعاً: قد تختلف أنواع وحجم الابتلاءات بين شخص وآخر وذلك بحسب إمكانات وطاقات وطموحات وتطلّعات هذا الشخص، وقد تختلف من جماعة إلى جماعة، لذلك فالأنبياء (عليهم السلام) ابتلاءاتهم مختلفة، الأوصياء والأولياء والمؤمنون بلاءاتهم مختلفة، وهذا كلّه عن حكمة وتقدير أيضاً.

خامساً: من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أنّه عندما يختبرهم ويبتليهم بالنّعم أو بالنّقم، لا يكلّفهم بما لا يقدرون عليه، أو لا يستطيعون تحمّله، فالله تعالى يريد لعباده النجاح حيث إنّهم عباده، ولأنّ الله سبحانه وتعالى لم تقم مشيئته على نحو الإلزام التكويني، وضع لنا شرطاً، وهو أن يكون هذا النجاح بمشيئتنا واختيارنا، بإرادتنا، وجهدنا وعملنا.

سادساً: في الاختبار الإلهي، قد تتوفّر فرصة التصحيح وقد لا تتوفّر، فلو ابتلي الإنسان بذنب كالغيبة مثلاً فإنّ بإمكانه تصحيح فشله في الاختبار بالتوبة والاستحلال ممّن اغتابه أمّا ذنب الشرك فإنّه لا يغفر: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ...) (النساء/ 48).

سابعاً: في الاختبار الإلهي أيضاً ولكرم الله وعطفه ورحمته علينا زوّدنا بكلّ عناصر النجاح وسخّر لنا كلّ الإمكانات: الأرض، الشمس، الكواكب، النجوم، الأنعام والحيوانات والبحار كلّها مسخّرة للإنسان. أعطانا الله العقل الذي به نفكّر لنقوم بالعمل الواجب ونبتعد عن الحرام. كذلك، أعطانا القدرات الجسديّة والنفسيّة التي تؤهّلنا للنجاح ومنحنا السمع والبصر، والأيدي والأرجل، يقول تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان/ 2)، ويكمل (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

وإضافة إلى ذلك فقد أرسل الله تعالى لنا الأنبياء والرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج والأولياء، فلا تخلو الأرض من حجّة لله على الخلائق، وبذا هدانا سواء السبيل. إذاً الهداية العامّة متحقّقة. أيضاً عرّفنا الأنبياء والأولياء إلى كيفيّة مواجهة البلاء وأعطونا في ذلك إرشادات تفصيليّة.

 

كيفيّة المواجهة:

لابدّ من الالتفات أيضاً إلى أنّ الامتحان الإلهيّ يستلزم من الإنسان عدّة أمور لمواجهته:

أوّلاً: الانتباه والحذر، فلا يغفل الإنسان عن حقيقة الدنيا.

ثانياً: أن يعمل الإنسان ويبذل بجدّ ما يستطيع للنجاح في الاختبار.

ثالثاً: أن يستفيد من الوقت، فيوم تأتي ساعة الموت يتمنّى الإنسان أن يعود إلى الدنيا ولو بمقدار قليل، ليعمل عملاً صالحاً ينتفع به أمام هول المطّلع وسوء العاقبة (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون/ 99-100). لذا يجب أن ننتبه لقيمة الزمن وقيمة العمر كباراً وشباباً، ولا يقولنّ أحد إنِّي ما زلت شابّاً والعمر أمامي. فإنّ أغلب الذين يموتون هم من الشباب، يقول الله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (مريم/ 39).

كذلك يجب أن نضع هدفاً واضحاً ومحدّداً وهو أنّنا يجب أن ننجح ونفوز في الامتحان، لأنّ ذلك يعني الحصول على الحياة الحقيقيّة والنعيم، والسعادة الأبديّة السرمديّة.►

 

المصدر: كتاب مواعظُ شافية/ سلسلة الدروس الثقافية (37)

ارسال التعليق

Top