• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نظرات اجتماعية في القرآن الكريم

نظرات اجتماعية في القرآن الكريم

اهتمّ القرآن الكريم إهتماماً بالغاً وملموساً بدراسة طبيعة السلوك البشري وبناء الجماعة الإنسانية وحركة المجتمع وتقدمه أو انهياره، وقدم من التحليلات والمواقف والرؤى ما يكفي لبناء قاعدة خاصة متينة لرؤية اجتماعية متميزة، هي الرؤية القرآنية، التي يمكن أن ينطبق عليها تعريف بارسونز للنظرية، باعتبارها كياناً من المفاهيم العامة المترابطة منطقياً، كما تنطبق عليها شروط تيماشيف الأربعة، وهي:

أوّلاً: احتواؤها مفهومات محددة.

ثانياً: اتساق قضاياها كلّ مع الأخرى.

ثالثاً: إمكانية صياغتها في شكل ييسر اشتياق التعميمات القائمة اشتقاقاً استنباطياً.

رابعاً: كون هذه القضايا خصبة ومثمرة تستكشف الطريق لملاحظات أبعد مدى وتعميمات تنمي مجال المعرفة.

ولا عجب في ذلك! فقد جاء القرآن الكريم كتاب هداية وتغيير اجتماعي. ومن أولى مستلزمات الهداية والتغيير معرفة الإنسان والمجتمع، وتشخيص القوانين المؤثرة في حركتهما وخياراتهما ومواقفهما.

واستهدف الكشف القرآني لمقولاته في الإنسان والمجتمع تزويد المسلمين، حملة القرآن ودعاة الهداية والتغيير، بالمعرفة المنهجية اللازمة لهذه العملية، التي ستصبح (أهلية المنهج، بشرية الممارسة) طالما استندت إلى المقولات القرآنية.

وكان لهذا التوجه القرآني أثره الكبير، ليس فقط على مستوى الممارسة التغيرية للمسلمين، وانّما على مستوى إهتمامهم بالدراسات الاجتماعية أيضاً. وإذا كانت كتب التفسير هي مهد هذه الدراسات، فإنّ الأمر ما لبث أن تتطور لينتج دراسات متخصصة في المسألة الاجتماعية، وكانت مساهمة ابن خلدون خطوة رائدة في المجال. ولئن حال الوضع السياسي والثقافي للمسلمين في عصر ابن خلدون والعصور التي تلته، دون تطوير مساهمة هذا الفكر المبدع، والبناء عليها، فإنّ العصر الحديث بما يشهده من تصاعد حركة الوعي الإسلامي، والاحتكاك الحضاري بالثقافات الأخرى، قد فتح الباب واسعاً أمام الدراسات الاجتماعية المستندة إلى القرآن الكريم، والتي يقوم بها العلماء المسلمون. ومرة أخرى كان التفسير هو مهد هذه الدراسات. وأشير هنا إلى المكانين المرموقين اللذين يحتلهما تفسير "المنار" لمحمّد رشيد رضا، وتفسير "الميزان" لمحمّد حسين الطباطبائي على صعيد القاء الضوء على المقولات القرآنية الاجتماعية واثرائهما، ثمّ اذكر المحاولة المنهجية الرائدة التي قام بها السيد محمّد باقر الصدر في إطار "التفسير الموضوعي" لاكتشاف النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم، هذا إضافة إلى العديد من المساهمات في هذا المجال، لايسعنا ذكرها كلها في هذا المقال.

واستلهاماً للتوجيه القرآني، سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على ثلاث قضايا اجتماعية تحدث عنها القرآن الكريم وهي: عناصر المجتمع، السنن الاجتماعية، وحركية المجتمعات، مستفيدين بطبيعة الحال من مساهمات وإضافات مفسري القرآن وعلماء الإسلام ومفكريه.

 

عناصر المجتمع:

تحدث القرآن الكريم عن قيام المجتمع البشري ونشوئه في الآية 30 من سورة البقرة والتي تقول: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً)، والآية إخبار عن قضيتين هما: عناصر المجتمع البشري من جهة، وموقع الإنسان (باعتباره أحد هذه العناصر) في الأرض من جهة ثانية.

نعني بالعناصر تلك المفردات التي لا يتكون المجتمع البشري إلا بوجودها معاً، وجوداً ترابطياً وعضوياً.

العنصر الأوّل في تكوين المجتمع البشري، حسب الآية القرآنية الكريمة، هو الإنسان نفسه. فلا نستطيع التحدث عن مجتمع بشري دون البشر.

والعنصر الثاني هو الأرض، التي تعيش عليها المجموعة البشرية المعينة لتكوين المجتمع البشري.

أما العنصر الثالث فهو "العلاقة المعنوية" – وهذا المصطلح من ابتكارات السيد محمّد باقر الصدر – التي تربط بين الإنسان والأرض، أو الطبيعة، من جهة، وبين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة ثانية. وهذه العلاقة المزدوجة هي العنصر الحاسم في قيام المجتمع البشري. لأنّ وجود بشر متفرقين لا تربطهم علاقة مستقرة في ما بينهم، من جهة وفي ما بينهم وبين الأرض من جهة ثانية، لا يؤدي إلى قيام مجتمع. وقد نضطر إلى استخدام مفردات أخرى لوصف مثل هذا الوجود البشري، مثل: الجمهرة أو التجمع أو غيرها. أما كلمة مجتمع فيدخل في بنائها بشكل أساسي "العلاقة المعنوية" باعتبارها العنصر الثالث من عناصر تكوّن المجتمع البشري.

ومن المفيد أن نتذكر في هذه اللحظة انّ هذه الآية هي من القرآن المدني، أي القرآن النازل في المدينة، بعد تحول الدعوة الإسلامية من حركة تبشيرية وتغييرية، إلى دولة ومؤسسات. وبالتالي، فإنّ الآية الكريمة كانت بصدد تعليم المسلمين العناصر التي يقوم عليها البناء الاجتماعي، وهي: الإنسان والأرض والعلاقة المعنوية.

من أجل بناء المجتمع بناءً صالحاً كان لابدّ من بناء الإنسان وتربيته ليلعب دوره الإيجابي في المجتمع، ولابدّ من توفير الأرض الطيبة التي تمد هذا الإنسان بعناصر البقاء والديمومة، ولابدّ من تحقيق الصيغة المثلى للعلاقة المعنوية المزدوجة بين العنصرين الأوليين.

 

الإنسان:

لهذا وجدنا أنّ القرآن الكريم أكثر من الحديث عن الإنسان، خلقاً وإيجاداً ومصيراً وطبيعة. وفي هذا السياق، أيضاً، تحدث القرآن عن القواعد والقوانين التي تؤثر على سلوك الإنسان، وسنن تغيير هذا السلوك، على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي، في آن معاً.

كان هذا ضرورياً بالنسبة للمسلمين الأوائل الذين كانوا بصدد إقامة المجتمع الجديد، وهو المجتمع الإسلامي، كما هو ضروري بالنسبة لنا الآن ونحن بصدد بناء مجتمعاتنا، أو إعادة بناء هذه المجتمعات المخضرمة بناءً سليماً.

انّ أي خطأ في فهم طبيعة الإنسان ودوره يؤدي إلى استنتاجات خاطئة سواء على مستوى النظرية أم على مستوى التطبيق. ألم يتساءل الملائكة الذين عرض الله عليهم آدم، وكانوا يحتجون على جعله خليفة في الأرض (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/30)!

الله يعلم عن البشر وطبيعتهم وسنن اجتماعهم أكثر مما يعرفون عن أنفسم. إذاً لابدّ للقرآن، كلام الله، أن يتعمق في تعريف الإنسان بنفسه، باعتباره كائناً منفرداً، سيقيم مع أبناء جنسه الآخرين، كياناً بشرياً أوسع، هو المجتمع البشري. في هذا السياق سنجد أنفسنا أمام عدد من النظرات المفصلية في رؤية القرآن للإنسان.

لاحظ مؤلفا كتاب "مقدمة في علم الاجتماع الإسلامي انّ هذه النظرات تتمحور في ثلاث نقاط، هي:

الأولى: الطبيعة المزدوجة للإنسان، التي يشير إليها النص القرآني (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/7-8). وتنتج هذه الازدواجية حيادية الإنسان إزاء الخير والشر، ذلك الحياد الذي يتحول لصالح أي من الطرفين بسبب مؤثرات بيئية، أي البيئة الاجتماعية. من هنا أيضاً كان خطأ الملائكة الذين لم يستطيعوا رؤية إلا الجانب المفسد للأرض من سلوك الإنسان، فضلاً عن كونهم لم يدركوا أنّ ميل الإنسان إلى هذا الجانب يأتي بفعل ظروف خارجية لم يكن بمقدورهم أن يعلموها.

الثانية: انّ الإنسان كائن ذو إرادة حرة تستلزم "المسؤولية" من جهة، و"القدرة على اتخاذ القرار" من جهة ثانية. ومن هنا أمكن الاستنتاج بّأن بإمكان الإنسان "أن يصلح في الأرض وبإمكانه أن يفسد فيها"، كما قال السيد محمّد باقر الصدر.

الثالثة: قدرة الإنسان على التعلم واكتساب المعرفة. وهذه المعرفة هي التي تلعب الدور الحاسم في تقرير أي من الاتجاهين – النجدين – سيسلك الإنسان (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3)، بعبارة القرآن الكريم. وحتى لا يتحول الإنسان إلى أداة هدم وتخريب كوني شاءت المشيئة الربانية أن يتولى الله سبحانه وتعالى تربية هذا الخليفة وتعليمه، لكي يصنع قدره ومصيره وينمي وجوده على ضوء هدى وكتاب منير، بحسب عبارات السيد محمد باقر الصدر.

 

الطبيعة:

الإنسان صانع المجتمع والحضارة والتاريخ، أما الطبيعة، أي العنصر الثاني من عناصر تكون المجتمع، فهي التي تزود الإنسان بالوقود والطاقة اللازمين لصنع الحضارة والتاريخ من جهة، وتوفر له الوعاء – الظرف المكاني – لعملية الفعل والخلق الاجتماعيين والحضاريين والتاريخيين من جهة ثانية، فضلاً عن كون الإنسان، من جهته، جزءاً من الطبيعة ذاتها، من جهة ثالثة.

وقيل كلام كثير حول مدى تأثير الطبيعة في صنع المجتمع وفعل الإنسان. وتحدث الفلاسفة والمؤرخون من هيرودوتس إلى مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" انّ الحرارة الشديدة تثير الأعصاب أما المناخ البارد فيقوي الجسم والروح.

لكن هذا لا ينبغي أن يقودنا إلى استنتاج انّ كلَّ عمليات التطور الاجتماعي خاضعة للظروف الطبيعية رغم إيماننا بأنّ الإنسان جزء من هذا العالم المادي الطبيعي. انّ ما ينبغي التأكيد عليه في هذا المقام أمران هما:

أوّلاً: انّ الفعل الإنساني على المستوى الحضاري والاجتماعي محكوم، في آخر المطاف، بالممكنات التي توفرها الطبيعة، وقدرة الإنسان على الفعل هي الوجه الآخر لقدرته على استثمار واستخراج هذه الممكنات. وهذا هو ما تشير إليه الآية القرآنية الكريمة (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34). ويرى السيد محمد باقر الصدر انّ السؤال والاتيان، هنا، تكوينيان.

ثانياً: انّ الفعل الإنساني على مستوى الطبيعة محكوم بالقوانين أو السنن الطبيعية، التي أودعها الله في الكون. فهذه السنن هي "حدود" القدرة الإنسانية العليا.

وضمن هذين الإطارين، قدم القرآن الطبيعة باعتبارها مجال الإبداع والاكتشاف الإنساني. ولم تقم الحضارات إلا بمقدار ما نجح الإنسان في إقامة علاقة الكشف والإبداع بينه وبين الطبيعة، التي لن، ولم تبخل، حسب القرآن، بتموين الإنسان بكلِّ ما يحتاج إليه في فعله الحضاري وبنائه الاجتماعي. كلّ ما هو مطلوب من الإنسان هو أن ينطلق في الأرض وينتشر في ربوعها ويستثمر خيراتها وينمي إنتاج هذه الخيرات، إن على أساس الهدي الرباني فتقوم العدالة، أو على هدي غيره، فيحصل "الانتفاخ الحضاري" المؤدي إلى السقوط أو الانفجار، أو "الحبط" بالمصطلح القرآني. والقرآن صريح وقاطع في هذه المسألة. فظلم الإنسان وكفرانه بالنعمة الإلهية، وهاتان عبارتان قرآنيتان، هما اللذان يؤديان إلى تخريب الحياة الاجتماعية وسقوط الحضارات، وبالتالي عدم توفر الشروط الموضوعية لتلعب الطبيعة دورها الإيجابي المرسوم في حياة الإنسان وحركة التاريخ.

وإذا كان الإنسان والطبيعة هما العنصرين الثابتين في تكوين المجتمع، فإنّ "العلاقة المعنوية" هي العنصر المتحرك في ذلك.

 

العلاقة المعنوية:

لكي يقوم المجتمع لابدّ أن تقوم علاقة معنوية على مستويين:

المستوى الإنساني: أي العلاقات بين الناس أنفسهم، فلا يقوم مجتمع بأفراد معزولين عن بعضهم البعض، بل لابدّ من شبكة، أو منظومة علاقات متنوعة ومتعددة تربط بينهم، وتشكل جسور العمليات الاجتماعية المختلفة والمعروفة مثل التعاون والتنافس والصراع والتوافق والتمثيل وغيرها. وهذه هي "العلاقات الاجتماعية" التي يحتل الإنسان طرفيها.

المستوى الطبيعي أي العلاقات بين الناس من جهة، والطبيعة من جهة ثانية. وفي إطار هذه العلاقة تلعب الطبيعة دورها باعتبارها أحد عناصر تكون المجتمع. والحضارة الإنسانية هي، في نهاية المطاف محصلة التفاعل بين الإنسان والطبيعة، كما قلنا قبل قليل.

وثمة علاقة بين "العلاقات الإنسانية" من جهة، و"العلاقات الطبيعية" من جهة ثانية، حيث تؤثر كلّ واحدة منها في الأخرى. وكشف الصدر عن الرؤية القرآنية لهذه العلاقة في محاضراته الشهيرة عن "عناصر المجتمع" ومؤدى هذه الرؤية في نقطتين هما:

النقطة الأولى: في تأثير العلاقات الطبيعية على العلاقات الإنسانية، ويتمثل هذا التأثير في انّه كلما نمت قدرة الإنسان على استثمار الطبيعة واستعت سيطرته عليها وازداد اغتناءً بكنوزها أصبح أكثر قدرة على تحقيق الاستغلال في المحيط الاجتماعي. ويجسد هذه النظرة قوله تعالى: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).

النقطة الثانية: في تأثير العلاقات الإنسانية على العلاقات الطبيعية. ومضمون هذا التأثير انّه كلما جسدت علاقات الإنسان على المستوى الاجتماعي العدالة واستوعبت قيمها وابتعدت عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وفتحت الأخيرة كنوزها ونزلت البركات من السماء. وتُعبّر الكثير من الآيات القرآنية عن هذه النظرة، لعل من أشهرها قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الأعراف/ 96).

 

*صحافي وكاتب إسلامي


المصدر: مجلة النور/ العدد 32 لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top