• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حب الله والشوق إليه

حب الله والشوق إليه

تتشكَّل العلاقة الوثيقة بين الإنسان وربّه على قاعدة بسيطة تتكرر أكثر من عشر مرات في اليوم في صلاة الإنسان المؤمن.. هذه القاعدة تتلخَّص في عبارة قرآنية بسيطة هي (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5)، فالعبودية والاستعانة لا يمكن أن تجتمع إلا في حالة التوجّه إلى الله سبحانه وتعالى.. لأنّ عبودية الإنسان للإنسان لا تجتمع إلا على الكره والظلم، والاستعانة بغير الله لا تفرز إلّا الذل والكراهية.. فالعبودية إذن لله وحد.. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (مريم/ 93)، (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزّمر/ 2)، (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزّمر/ 3)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60).

والاستعانة لا تؤتي ثمارها إلّا بالتوكل على الله سبحانه، لأنّ الله خالق الكون، وبيده مقدرات كلّ شيء وهو الذي يقسّم الأرزاق، وهو القاهر.. فاستعانة المخلوق بالخالق مسألة طبيعية إذن، لأنّ المخلوق لا يمتلك أي مؤهّل من مؤهّلات الخالق سبحانه.. (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر/ 44). فتفويض الأمر إلى الله سبحانه رده إليه، وحال الإنسان حينئذٍ حال الأعزل الذي لا حول له ولا قوة..

إنّ اجتماع عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى مع استعانة المخلوق الضعيف بالخالق القوي، إنّ اجتماع هذين العنصرين، العبودية والاستعانة، إنّما ينتهي إلى نتيجة منطقية واضحة هي حب المخلوق للخالق.. يقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (البقرة/ 165)، ويقول أيضاً: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24).

إنّ الحب تعلق وجودي وانجذاب خاص بين شيئين أحدهما أسمى من الآخر، فالمحب دائماً يرى في الحبيب عناصر الكمال والجمال والسموّ، وإلّا فلِمَ الحب؟.. والحب، كما نعلم، ذو مراتب ومنازل مختلفة.. فالحب النسبي يشتمل على حب الإنسان للغذاء والمال والنساء والجاه والعلم.. والحب المطلق يشمل حب الله سبحانه وتعالى، حيث لا شيء يعترض الأحاسيس الوجدانية الملتهبة في عمق الإنسان..

وإذا كان الحبيب لا يقبل بأقل من رضاء حبيبته، فإنّ الإنسان المؤمن لا يرى له وجوداً في الحياة بغير رضى الله سبحانه وتعالى.. فالإحساس الصادق الذي يعترك النفس الإنسانية ويتجه نحو شيء، يسميه الغربيون بالمجهول، ونسميه نحن بالله سبحانه وتعالى، هذا الإحساس الصادق النظيف إنّما هو أساس العلاقة المتينة بين الإنسان المؤمن وخالقه العظيم.. إنّ الله سبحانه وتعالى هو أهلٌ للحب المطلق، لأنّه سبحانه يتميز بكلِّ صفات الكمال المطلق.. وهو على كلِّ حال يبادلُ الحبَ حباً.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة/ 54).

إنّ الشوق لا يخلو من ألم الفراق.. ولو زال الفراق وحصل الوصال لانتفى الشوق.. والإنسان في شوق دائمي للتقرُّب من الله سبحانه وتعالى، لأنّ الإنسان لا يمكن يوماً أن يرى الله سبحانه وتعالى.. وأفضل مراتب الشوق، الشوق إلى الله سبحانه وإلى لقائه.. ولا يزال الإنسان عالماً بأنّه قد بقى من جلال الله عظمته شيءٌ مستور عن عينه لا يسكن شوقه أبداً.. وما من إنسان إلّا ويرى فوق درجته درجات كثيرة لا نهاية لها، فيشتاق إليها، ولا يزال النعيم واللذة تتزايد له من غير انقطاع، وربما كان قوله تعالى: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (التحريم/ 8)، إشارة إلى هذا المعنى، ويكون المراد به زيادة الاستكمال والإشراق، وقوله تعالى: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) (الحديد/ 13).

إنّ جميع أسباب الحب مجتمعة في حقِّ الله تعالى، ولا توجد في غيره حقيقة. السبب الأوّل: هو محبة النفس: فمعلوم أنّ وجود كلّ شيء فرع لوجود ربه وظل له. وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟ مع أنّ من أحب الظل أحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل، ومن أحبَّ النور أحب لا محالة الشمس التي بها قوام النور، وكلّ ما في الوجود من آثار قدرته..

وأمّا السبب الثاني والثالث: هو الالتذاذ والإحسان، فمعلوم أنّه لا لذة ولا إحسان إلّا من الله تعالى، ولا محسن سوى الله، فإنّه خالق الإحسان وذويه، وفاعل أسبابه ودواعيه، وكلّ محسن فهو حسنة من حسنات قدرته وحسن فعاله، وقطرة من بحار كماله وأفضاله.

وأمّا الرابع: وهو الحسن والجمال والكمال، فلا ريب في أنّه تعالى هو الجميل بذاته والكامل بذاته، وهو الجمال الخالص، والكمال المطلق وحقيقتهما منحصرة به تعالى.

وأمّا الخامس: فلا ريب في أنّ النفس الإنسانية الناطقة مناسبة مجهولة خفية مع بارئها وموجدها، إذ هي شعلة من شعلات جلاله، وبارقة من بوارق جماله، ولذا قال سبحانه: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء/ 85). وقال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30).

إنّ أسباب الحب بجملتها متظاهرة في حقِّ الله تعالى، تحقيقاً لا مجازاً، وفي أعلى الدرجات لا أدناها، وهو المستحق لأصل المحبة وكمالها، ولا متعلق للمحبة إلّا هو، إلّا أنّه لا يعرف ذلك إلّا العارفون من أوليائه وأحبائه، كما قال سيد الشهداء (ع) في دعاء عرفة بقوله: "وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك، حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك". ويقول تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة/ 54)، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (البقرة/ 165)، وقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة/ 24-25).

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية/ج2

ارسال التعليق

Top