• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الثبات والمرونة في هدي القرآن

الثبات والمرونة في هدي القرآن
  المتدبر للقرآن الكريم، يجد في نصوصه الكريمة، دلائل جمة على هذه السمة البارزة من سمات المنهج القرآني، سمة الجمع بين الثبات والمرونة. وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة المدللة على ذلك.

أ) يتمثل الثبات في مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38).

وفي قوله سبحانه لنبيّه (ص): (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159).

ففي هذا تأصيل لمبدأ الشورى الذي لا يجوز لحاكم ولا مجتمع أن يتخلى عنه وتتمثل المرونة في عدم تحديد شكل معيّن للشورى يلتزم به النّاس في كلّ زمان وكلّ مكان، فيتضرر المجتمع بهذا التقيد الأبدي إذا تغيرت الظروف بتغير البيئات أو الأعصار، فيستطيع المؤمنون في كلّ عصر أن ينفذوا ما أمر الله به من الشورى بالصورة التي تناسب حالهم وأوضاعهم دون قيد يلزمهم بشكل جامد.

وفي نفس هذا المعنى يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله –:

"إنّ الإسلام يجعل الشورى أساساً ثابتاً من أسس الحكم في الدولة الإسلامية فأما كيف تتحقق الشورى على الوجه الأمثل فهذا مالم ينص عليه".

ولقد وقعت في المجتمع الإسلامي على عهد الرسول (ص) وبعده ألوان من الشورى ولكن هذا الذي وقع لا يحدد جميع وسائل الشورى، بل إنّ ذلك متروك لما يجد من تطورات في ظروف المجتمع الإسلامي، ومتروك كذلك لما يُبتكر من وسائل الشورى الناجحة حسب التجارب المتجددة.

ب) يتمثل الثبات في قوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل) (النساء/ 58). وقوله عزّ وجلّ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة/ 49).

فأوجب القرآن الكريم هنا التقيد بالعدل والالتزام بكلّ ما أنزل الله، والحذر من اتباع الأهواء وكلّ هذا مما لا مجال للتساهل فيه، فهو يمثل جانب الثبات قطعاً في مجال الحكم والقضاء. وتتمثل المرونة في عدم الالتزام بشكل معيّن للقضاء والتقاضي، فهذا أمر متروك لاجتهاد أولي الأمر، وأهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور.

لقد اهتم الشارع بالنص على المبدأ والهدف، ولكنه لم يعتن بالنص على الوسيلة والأسلوب، وذلك ليدع الفرصة، ويفسح الطريق للإنسان كي يختار لنفسه الأسلوب المناسب، والصورة الملائمة لزمنه وبيئته، ووضعه وحالته.

ج) يتمثّل الثبات في قوله تعال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).

وتتمثّل المرونة في قوله تعالى بعد ذلك (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 3).

فقرر بذلك مبدأ "رعاية الضرورات" ولكنه لم يطلق فيه العنان، بل قيده بقوله: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ) أي: غير مائل للحرام والتوسع فيه، كقوله سبحانه في الآيات الأخرى (غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) (الأنعام/ 145).

أي: غير باغ على غيره ولامتعد قدر الضرورة.

وهكذا قضايا كثيرة مما لم يرد فيه نص يحدد طريقة التنفيذ ووسيلة التطبيق مما يحقق المرونة الكاملة للنظام الإسلامي مع بقائه محكوماً بالشريعة التي تكيف بها نشأته ووجوده.

والثبات والمرونة في هدي القرآن الكريم من دلائل حكم الله البالغة، ورحمته الواسعة "إذ لو نص القرآن الكريم على كلّ الفروع والجزئيات والمسائل لصار كتاباً ضخماً لا يستطيع أحد حفظه ولا جمعه ولا حمله، ولمل النّاس في كلّ عصر تلاوة الوقائع التي لا تنقضي في القرآن الكريم، ولذلك نجد أنّ الله تعالى وضع لنا في القرآن، وكذا النبيّ (ص) في سننه ضوابط عامة يصلح الرجوع إليها في كلّ عصر، وترك ما يجري في حياة النّاس اليومية، وما يحقق مصلحتهم إلى عاداتهم وأعرافهم تتغير بتغيرها، مادامت هذه العادات تحقق مقاصد الشريعة، ولا تخرج عن الضوابط المعروفة في الكتاب والسنّة".

 

المصدر: كتاب منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع

ارسال التعليق

Top