• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ثمن الجنة

أسرة البلاغ

ثمن الجنة
الحقُّ الذي لا يأتيه الباطل:

العقيدة الأساسية التي يجب على المسلم أن يحملها في عقله، وهي أنّ القرآن الذي أنزله الله على رسوله (ص) هو الحقُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الحقُّ في كلّ مفاهيمه التي بيَّنها وأوضحها في العقيدة والشريعة وفي الكون والحياة وكلّ القضايا التي أثارها والقصص التي تحدّث عنها، بحيث أنّ المسلم إذا توقف عن أيّة فكرة في القرآن، وأيّة عقيدة وتفسير وقصة، لابدّ أن يعتبر أنّ ذلك كلّه هو الحقُّ الذي لا ريب ولا شك فيه (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (فاطر/ 31).

وهناك نقطةٌ أساسية في الحقيقة القرآنية، وهي أنّ القرآن جاء مصدِّقاً لما بين يديه، حيث لم يتنزّل ليكذّب التوراة والإنجيل، بل ليقول للنّاس إنّ الله أنزل التوراة على موسى وهي الحقّ، وأنزل الإنجيل على عيسى وهو الحقّ، وأنّه – القرآن – جاء ليصدِّق هذا وذاك، وليضيف إليهما ما استجدَّ من قضايا، وما تحتاجه الحياة من أحكام، تماماً كما هي وظيفة كلّ رسول، أنّه أتى ليُكمِل ما بدأه الرسول الذي سبقه، فقد يأتي الرسول لِيُحِلّ للناس بعض ما حُرِّم عليهم، لأنّ التحريم قد انتهى وقته وأصبحت المصلحة في الحلِيّة أو بالعكس.

ومن هنا، فإنّ كلَّ رسولٍ يأتي مبشِّراً بالرسول الذي بعده ومصدقاً للذي قبله وللكتب التي أُنزلت قبله. وقد تحدّث القرآن الكريم عما جاء في التوراة والإنجيل، ولم يتحدّث عنهما بطريقةٍ سلبيّة، بل كلُّ ما هناك أنّه تناول الحديث عن التحريفات على أيدي أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، ولم يقتصر على هذين الكتابين السماويين، بل تحدّث عن صُحُف إبراهيم وزبور داود (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى/ 18-19). (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) (النساء/ 163).

والإسلام هو الدين الوحيد الذي يعلّم أتباعه أن ينفتحوا على كلّ الأنبياء (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 136)، وفي آية أخرى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة/ 285)، بمعنى أنّ كلَّ الرُسل الذين أرسلهم الله تعالى، سواءً آمن بهم اليهود والنّصارى أو لم يؤمنوا بهم، فإنّ المسلم يؤمن بهم جميعاً، وفي الوقت الذي قد يُسيء فيه النصارى إلى النبيّ محمّد (ص) بالحديث عنه بطريقة سلبيّة، أو يُسيىء فيه اليهود إلى عيسى (ع) والنبيّ محمّد (ص)، فإنّ المسلم لا يملك في أيّة حالةٍ من الحالات أن يتحدّث بطريقة سلبيّة عن أيِّ نبيٍّ من الأنبياء، لأنّهم في عقيدته رسلٌ من عند الله سبحانه.

فإذاً، إنّ المسلم يختزن في عقيدته أنّ القرآن وما جاء به هو الحقّ من الله. وهنا نلاحظ أنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وعندما كثُر الكَذَبَةُ عليهم، والوضّاعون الذين ينسبون إليهم أحاديث غير صحيحة عن لسانهم، قالوا لنا: "ما جاءكم من حديث من بَرٍّ أو فاجر فاعرُضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الحائط" فإذا كان الحديث المرويّ عن أهل البيت (عليهم السلام) لا يتناسب مع الحقائق القرآنية، نرفض الحديث ونعتبر أنّ الإمام لم يقل هذا الحديث، لذا، قال الإمام الصادق (ع): "ما خالف قولَ ربِّنا لم نَقُلْه" فكان القرآن الكريم هو الأساس في معرفتنا بصحّة هذا الحديث أو فساده.

 

ظالمٌ ومقتصدٌ ومسارعٌ في الخيرات:

ونعود إلى الآية الكريمة (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (فاطر/ 31). خبيرٌ بعباده يعرف ما يحتاجونه فيما يبيّن لهم قاعدته الفكرية والنفسية والحياتية، فيُنزل عليهم الكتب بشكلٍ تدريجيٍّ، ويبعث إليهم الرسل، حتى يُلبِّي كلُّ رسولٍ حاجات المرحلة التي تتحرّك فيها رسالته، وليقدّم كلُّ كتاب ما يحتاجه النّاس من الحلول والمفاهيم (بَصِيرٌ بعبادِهِ) يعرف كلَّ ما يحتاجونه ويعيشونه.

وقد تنوّع النّاس في تلّقيهم لدور الرسل والرسالات (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر/ 32).

في مواجهة الكتاب الذي يتضمّن العقائد والشرائع. انقسم النّاس في القبول بهذا الكتاب إلى عدّة اتجاهات (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) اخترناهم وجعلناهم الجيل الذي يتحرّك في خطِّ الرسالة (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) أنكر عقيدة الكتاب ورسالة الرسول من دون حجّة ولا برهان، فظلم نفسه التي سارت في طريق يؤدي إلى سَخَط الله تعالى وإلى عذاب النّار (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) لم يتحرّك في ظلم نفسه بعيداً، ولم يتحرّك في الخير بعيداً (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) فاستجابوا لربهم (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون/ 61)، ولبُّوا النداء (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 133)، وذلك السبق الكبير إنّما يكون (بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر/ 32) فالخيرات أو الكتاب هو الفضل الكبير.

ولهؤلاء السابقين إلى الخيرات (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (فاطر/ 33)، ما جزاء هؤلاء الذين كانوا يتنافسون على رضا الله أكثر مما يتنافسون على رضا النّاس، ويتنافسون في الخير أكثر مما يتنافسون على جمع المال، هؤلاء أعطاهم الله الفضل الكبير، وما هو هذا الفضل (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (فاطر/ 33)، في الدنيا يُحرّم على الرجال لبسُ الذهب، ولكن في الآخرة يبيح الله لهم ذلك، جزاءً لقلوبهم وأفكارهم وخطواتهم الذهبيّة، وذلك عندما جعلوا حياتهم أصيلةً كأصالة الذهب، صافية كصفائه، لامعة كلمعانه. أعطاهم ذلك، لأنّهم عاشوا في حياتهم بعيداً عن الزيف، وتحرّكوا في المعدن الأصيل الذي يمثّل الأصالة في جوهره وطبيعته. وإضافة إلى ما يُحَلَّوْنَ به من الذهب يهبهم الله (وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) فيعيشون في الآخرة جوَّ الرخاء بعيداً عن التعب والألم والبلاء والمشاكل، فيتزيّنون باللؤلؤ والحرير، حيث تحيط بهم الزينة من كلّ مكان، فحريتهم في الآخرة حريّةٌ مطلقةٌ وبلا حدود. وعند دخولهم إلى الجنّة توجّهوا إلى الله (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر/ 34)، كان لا يمرُّ يومٌ في الدنيا إلّا ونحزن، نحزن على أكلةٍ لم نأكلها، أو شربةٍ لم نشربها، أو بيت لم نسكنه، أو شهوة لم نَنَلها، أو مركزٍ لم نحصل عليه. هكذا، الدنيا دار الحزن، يحزن الإنسان فيها على الصغير والكبير، ففي أعمال الإنسان وعلاقاته وأوضاعه كثيرٌ من الألم والمصائب والحزن، حتى السرور، يأتيه ممزوجاً بالحزن، فاللذة والراحة والسعادة تأتي محمَّلة بالتعب والهمّ والجهد:

طُبِعَت على كَدرٍ وأنت تريدُها *** صَفْوَاً من الأقذاء والأكدارِ

فهذا غير ممكن

ومُكَلَّفُ الأيّام ضد طباعها *** مُتطلِّبٌ في الماء جَذوةَ نارِ

فالإنسان يريد الدنيا صافيةً وفَرِحة تماماً، كمن يطلب الماء من داخل الجمر، وهذا غير ممكن أيضاً.

هذا في الدنيا، أمّا في الآخرة فكلُّ الألم والحزن يزول (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) (فاطر/ 34)، وصلنا إلى مرحلة لا حزنَ ولا ألم فيها، وليس هناك مما كان يعاني منه الإنسان في الدنيا (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر/ 34)، أخطأنا في حياتنا، فتبنا وغفر لنا الله هذه الخطايا، فعملنا بما يُرضيه، فشكر سبحانه لنا ذلك، وكان من علامة شكره لنا أن أدخلنا في رحمته ووهبنا الجنة، فهو الوهّاب (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر/ 35)، فأقمنا في جنته حيث لا تعب ولا حزن ولا نَصَب.

 

وأخذهم الله بكفرهم:

هؤلاء هم أهل الجنّة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (فاطر/ 36)، في مقابل الذين سابقوا في الخيرات وآمنوا بالله وبرسله، يقف الذين كفروا بالله ورسله ورسالاته، كفراً عقيدياً وكفراً عملياً. فكان للمؤمنين الجنّة، ولهؤلاء كانت جهنم، لا يموتون فَيُخَفّف عنهم، ويبقى العذاب نازلاً بهم جزاء ما كسبت أيديهم.. وهذه نهاية كلّ جاحد كافر بالله ورسالاته ونِعَمِه.

ويصوّر القرآن ذلّهم وحالهم في جهنّم (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) (فاطر/ 37)، ويطلبون فرصة جديدة تسمح لهم بالعودة من جديد ليعملوا صالحاً غير ما عملوه من سوء وآثام.. فهم مهما توسلوا لن ينالوا مرادهم (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر/ 37)، فلا فائدة من طلبكم، لقد أخذتم فرصتكم كاملة في الدنيا، فما استمعتم للمنذرين الذين ينذرونكم بعذاب الله، فتمردتم واستهزأتم، ففشلتم في كلّ التجارب، وعلى هذا، فذوقوا العذاب ولن تجدوا مَن ينصركم أو يشفع لكم.

ويأتي التحذير للنّاس (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (فاطر/ 38)، لا تأخذوا حريتكم في المعاصي، ولا تحسُّوا بالأمن عندما ترون أنّكم وحدكم (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) غيب القبور والمغاور والبحار والجبال والسماوات (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) عندما تفكّر لا تشعر بالأمن، ولا تظن أنّك عندما تفكّر بقتل فلان وهتك حرمة فلان، أو تخطّط للفتنة والظلم، أنّك بعيدٌ عن علم الله.

ولا تنسوا أنّ الله (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا) (فاطر/ 39).

أيُّها الذين يريدون ربحَ الدنيا، تأكدوا أنكم مهمنا جنيتم من أرباح، فسوف يزول كلُّ الربح، فاعملوا لتربحوا في الآخرة وتتاجروا الله تجارةً لن تبور.

ارسال التعليق

Top