• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الطيبات من الرزق

أسرة البلاغ

الطيبات من الرزق

كثرة النعم:

ما أكثر النعم التي ينعم بها الناس؛ وما أوسع المتع، واللذائذ التي يتمتعون بها، ويتلذذون.

فمن نعمة النساء؛ إلى نعمة البنين؛ إلى نعمة الثروة؛ إلى نعمة الجاه، إلى نعمة السيطرة؛ إلى غير ذلك من متاع ظاهر؛ وشهوات مادية تملأ الحياة؛ وترى في كلّ جانب من جوانبها.

وقد ذكر الله بعض هذه النعم وعدّدها؛ فمن ذلك قوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (آل عمران/ 14).

ومنه قوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) (الحديد/ 20).

 

موقف الناس منها:

وللناس بإزاء هذا المتاع مواقف مختلفة:

1-  فمنهم من يرى أنّها الغاية، فيحبها، ويؤثرها، ويتعلق بها، كما يتعلق الطفل بثدي أُمّه.

وهذا شأن الكافرين بالله، وبالآخرة، وبحكمة الله في الخلق، والحياة، وهؤلاء لاحظ لهم من فضل الله، ولا مثوبته في الآخرة.

وفيهم يقول الله سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود/ 15-16).

وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمّد/ 12).

وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف/ 20).

وإنّما كان إيثارها محظوراً، لأنّ حبها والتعلق بها يفسد الخلق، ويضعف الإرادة، ويخلق الفوضى، ويجعل السيطرة للهوى، وحين يسيطر الهوى تذهب كلّ القيم الصالحة، وتضيع جميع الحرمات التي اصطلح الناس على احترامها.

2-     وعلى العكس من هذا الفريق يرفضها، ويزهد فيها لما فيها من آلام ومتاعب، ولما يكتنفها من مشاق وتبعات.

وهذا شأن المتصوفة، والزهاد، والرهبان، والفلاسفة، والعباد، وقد حذر الإسلام من هذا السلوك الانعزالي، فعتب على الرهبنة المبتدعة التي مارسها الرهبان، أو اخترعوها من تلقاء أنفسهم، دون أن يؤمروا بها، أو يدعو إليها، فقال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد/ 27).

وقال الرسول (ص): "لا رهبانية في الإسلام".

وقال: "رهبانية أُمّتي الجهاد في سبيل الله".

وحظر أشد الحظر الامتناع عن الطيبات من الرزق، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة/ 87).

وقد منع الإسلام رفض الدنيا، لأنّ ذلك عطل نشاط الحياة، ويوقف سيرها، ويصيبها بالشلل، ويجعل قيادتها في يد من لا يحسن القيام عليها، من ذوي الأخلاق الفاسدة، وإذا انتقلت قيادة الحياة إلى هؤلاء كانت الفتنة في الأرض، والفساد الكبير.

3-     وثمة فريق وسط، لا ينغمس في المتاع المادي انغماساً يلهيه عن واجباته الروحية، ولا يزهد فيه زهداً ينسيه ضرورات الجسم وحاجاته، بل يجمع بين مطالب الجسد ومطالب الروح، وهذه هي وجهة الإسلام:

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 31-32).

وعلّمنا الإسلام أن نهتف من أعماق نفوسنا، وأن ندعو الله بأحب ما يدعى به.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة/ 201).

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

وفي الحديث: "إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".

وفيه: "أحسنوا ثيابكم، وأحسنوا رحالكم، حتى تكونوا في الناس كأنكم شامة".

وهذه الوجهة هي التي تتفق ونظام الفطرة، وتتلاءم مع طبيعة الإنسان، وتساير منطق الإسلام كدين عام خالد..

أما اتفاقها مع فطرة الإنسان:

فالله لم يخلق الإنسان، ويخلق فيه الميول، والعوطف، والغرائز، لكبتها بالزهد وإخمادها بالرياضة الشاقة، التي تضعف الجسم، والعقل معاً؛ فإنّ العقل السليم في الجسم السليم.

وضعف الجسم يعرضه للأمراض، والأسقام، والعلل، ويحول بينه وبين النهوض بتبعاته، وأداء واجباته الشخصية، والدينية، والاجتماعية.

وضعف العقل يفقد الإنسان حسن التصرف، ويمنعه من إدراك الحقائق إدراكاً صحيحاً، فتصدر أحكامه فيها مشوبة بالخطأ ومجافية للصواب.

وسلامة الجسم لا تتوفر إلّا بتوفير كلّ ضروراته واحتياجاته.

وأمّا مناسبتها لطبيعة الإسلام، فالله يريد للإسلام أن يعمّ نوره الآفاق، وأن تنتشر أحكامه، ومبادئه، وتعاليمه، في أرجاء الدنيا، ولا يتم ذلك إلّا إذا كانت لأصحابه، القوّة والمنعة، قوة العلم، وقوة المال، وقوة التنظيم، وقوة التشريع، وقوة التجنيد، وقوة السلاح.

وهذه القوى لابدّ وأن تكون في يد الجهاز الإسلامي كضرورة من ضرورات الاستخلاف في الأرض، والتمكين للدّين.

 

التوجيهات الرشيدة:

وإذا كان الإسلام ينظر إلى الدنيا هذه النظرة، ويضعها وضعها الصحيح، فإنّه يوصي بوصايا يجعلها موضع الاعتبار وهي:

1- أنّ الدنيا طريق إلى الآخرة، وهي طور من الأطوار، ولا سبيل إلى البقاء فيها، وعلى الإنسان أن يذكر رسالته التي خلق من أجلها، ويجعلها نصب عينيه، وهي عبادة الله، والفرار إليه.

(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات/ 50).

2- وأنّ الآخرة أبقى وأفضل، وهي لذلك أولى بالإيثار:

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى/ 16-17).

(وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64).

3- وعلى الإنسان أن يقوي إرادته، ويتقيد بقيود الحلال والحرام. ويخضع شهوته لحكم الشرع، وسلطان العقل:

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).

 

دور المسلمين:

وإذا كانت اليهودية أفرطت في الجانب المادي، والمسيحية أفرطت في الجانب المقابل.

فإنّ الإسلام هو الوسط، المنتدبون من قِبَل الله، لحمل هذه الرسالة الإسلامية التي نصل بالإنسان إلى منتهى كماله المادي والروحي معاً.

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة/ 143).

ارسال التعليق

Top