• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رمضان شهر الله الأكبر

أسرة البلاغ

رمضان شهر الله الأكبر

رمضان شهر الله الأكبر في إحسان الله إلى خلقه بتقديم منهج متكامل في تناول أبعاد الإنسان، يسير في التطبيق، قويم في المحتوى وقيّم في النتائج. قال مولانا الإمام أبو محمّد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب زين العابدين وسيد الساجدين (ع) في صحيفته المعروفة بزبور آل محمّد (ص) في دعائه لاستقبال شهر رمضان المبارك: الحمد لله الذي هدانا لحمدِهِ، وجعلنا من أهله، لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين. والحمد للهِ الذي حبانا بدينه، واختصنا بملته، وسبَّلنا في سُبُل إحسانه، لنسلكها بمنِّه إلى رضوانه، حمْداً يتقبّله منا، ويرضى به عنّا. والحمد لله الذي جعل من تلك السُّبُل شَهرَهُ، شهر رمضان، شهر الصيام، وشهر الإسلام، وشهر الطَّهُور، وشهر التمحيص، وشهر القيام (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). فإنّ الله سبحانه وتعالى برحمته الواسعة والخاصة لأُمّة النبيّ المنتجب خاتم الأنبياء الهادين المهديين الذي أصبحت شريعته الشريعة الخاتمة الكاملة إذ قال عزّ من قائل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...) (المائدة/ 3)، وقال أيضاً: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران/ 85)، وقد فرض صيام شهر كامل على القادرين عليه في كلّ سنة من العمر مادام الإنسان حيّاً فاعلاً متفاعلاً مع ظروف الحياة قادراً على الإنتاج والإبداع، محتاجاً إلى ما يرفد مسيرته التكاملية المعبأة بكّل عناصر الخير والشر والملغومة بالآفات والشهوات والمرديات والموانع التي قد تحول بينه وبين الزلفى والرقي في سلّم الكمال لأنّ الله تعالى هكذا سن للإنسان طريق التكامل ما بين الأحراش والمصاعب والمصائب. قال الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك/ 2). وقال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء/ 35). وقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت/ 2). ومن هنا كانت روافد الهداية الإلهية ترفد هذا الكائن – الذي تشرّف بيد العناية الإلهية التي كونته: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (ص/ 72)، وأمرت الملائكة بالسجود له: (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) وتضخُ له كلّ عناصر التكامل باتجاه تحقق الهدف الإلهي العظيم من خلق هذا الإنسان – الذي يمكن أن يتخبَط في هذه الدار (دار البلاء والعناء) والنفس الأمّارة بالسوء التي بإمكانها أن تمارس الإفساد وسفك الدماء المحرمة وإبادة النفوس البريئة كما أفصح الملائكة عن هذه الحقيقة الخطيرة بقولهم الملهم من عند ربّ العزة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة/ 30). وهكذا أصبح رفد هذا الإنسان المحاط بكلّ هذه الشوائب والمصاعب وتقديم سُبُل الإحسان إليه عنصراً من عناصر تكامله المطلوب بكلّ تأكيد واللازم بحسب فهم كلّ لبيب. ومن هنا نفهم مغزى ما أفاضه سيد الساجدين علينا حين نتأمل فيه مرّة أخرى: "وسبَّلنا في سُبُل إحسانه، لنسلكها بمنِّهِ إلى رضوانه، حمداً يتقبَّله منّا، ويرضى به عنّا". نعم هذا هو الهدف الكبير الذي يراد تحقيقه لكلّ إنسان من خلال سلوك سُبُل الإحسان الإلهية وهي سُبُل الكمال الإنساني حسب الرؤية القرآنية والأطروحة الربانية للإنسان. وهي منة من المنن الإلهية الكثيرة التي قال عنها عزّ وجلّ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (النحل/ 18). وتنتهي بالإنسان إلى رضوانه تعالى للإنسان. قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (التوبة/ 72)، وهو تعبير عن منتهى التكامل الممكن للإنسان أن يرتقي إليه. قال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30)، وقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة/ 8). والنفس لا تبلغ مرتبة الاطمئنان إلّا من خلال برنامج تربوي متكامل يأخذها باتجاه مقام الرضا وقد لخّص القرآن ذلك ببرنامج التقوى حيث قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3). والصيام هو أحد روافد التقوى المهمة في هذا البرنامج وقد أفصح عن ذلك الذكر الحكيم قائلاً: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 45-46). ومن هذه الآية نفهم أنّ الرجوع عبارة عن عملية تربوية تدريجية مستمرة تحقق للإنسان الراجع إلى الله صفة الاطمئنان المطلوبة له ولا تتحقق إلّا من خلال بوابة الخشية إلى الله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة/ 8). 

ارسال التعليق

Top