• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أداء الأمانة والوفاء في واقعة كربلاء

عمار كاظم

أداء الأمانة والوفاء في واقعة كربلاء

إنّ قضية الأمانة والوفاء بالعهد والميثاق تعتبران من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية، إِذ بدونهما لا يتمّ أيّ نوع من التعاون والتكافل الاجتماعيّ، وإِذا فقد نوع البشر هاتان الخصلتان فقدوا بذلك حياتهم الاجتماعية وآثارها أيضاً. فيجب الوفاء بالعهود مع الآخرين ويحرم نقضها كما في قوله تعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (الإسراء/ 34). وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد». وعن علي (عليه السلام): «بحسن الوفاء يعرف الأبرار، أفضل الأمانة الوفاء بالعهد، أفضل الصدق الوفاء بالعهد».

إنّ الوفاء في معناه هو التمسّك بالعهد والثبات على الميثاق والعمل بالواجب الإنساني والإسلامي في إزاء شخص آخر جدير بذلك. وهذه الخصلة من أولويّات معجم عاشوراء، ولها في قاموس الشهداء مكانة رفيعة، وهي من أشرف الخصال ودليل على المروءة. قال علي (عليه السلام): «أشرف الخلائق الوفاء».

وكان أصحاب الحسين (عليهم السلام) قد ضربوا أروع أمثلة الوفاء لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاء للإسلام والقرآن، حتى قال فيهم سيدهم الحسين (عليه السلام): «ولا أعلم أصحابي أبرّ ولا أوفى من أصحابي». إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استخدم هاتين الصفتين: الوفاء والخير دون غيرهما، لأن الوفاء والخير هما الصفتان اللتان ظهرتا بشدة في شخصية أصحاب الإمام (عليه السلام) ومواقفهم والتي تطلبتها ظروف معركة واقعة كربلاء وتجلياتها فهو بهذا الوصف ينفي أن يكون مثل أصحابه أصحاب لا في الماضي أو الحاضر ولا حتى في المستقبل.

حيث جمع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه ليلة العاشر من محرّم، وقام خطيباً فيهم فقال بعد الحمد والثناء: «أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا».

فكان جواب أصحابه: «الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله...». ها هم أصحاب الحسين (عليه السلام) باعوا دنياهم بآخرتهم حبا وكرامة لآل بيت رسول الله ونصرة وتضحية في سبيل الدين. أرأيتم وفاء هؤلاء الاَبطال، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق. ضربوا أروع أمثلة الوفاء لله ولرسوله، وفاء للإسلام والقرآن. هذه الكلمات كانت برهاناً على وفاء أصحاب الحسين (عليه السلام) وخيرهم، هذه الكلمات العظيمة تفتح لنا الأفق للتعرّف على منطق شهداء كربلاء في التعامل مع الإمام الحسين (عليه السلام) وهو منطق الوفاء والمحبّة للإمام الحسين (عليه السلام). هذه المحبّة وهذا الوفاء الذي به نالوا مقام المحبّة الإلهيّة كما جاء عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينا..». فجاء في زيارتهم: «السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّاءه، السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه». ثم يكمل الإمام (عليه السلام) حديثه لأصحابه قائلاً: «اللّهم إنك تعلم أني لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي، فجزاكم الله خيراً، فقد آزرتم وعاونتم، والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا، فإذا جنكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم». لقد إمتدحهم الإمام (عليه السلام) قبل أن يطلب منهم النجاة بأنفسهم لأن أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) هم الشهامة والعلو والرفعة والسمو، ونفوس طاهرة وأجساد مطهرة وقلوب خاشعة وعيون دامعة، وضمائر حية وأفكار سليمة وإيمان قوي وجأش رابط وثبات دائم وعزيمة قوية وفروسية وصدق وإخلاص ووفاء وإيثار وسخاء ومولاة وبراءة، وبصر وبصيرة، وتواضع وشرف وزهد وعبادة، فهم السابقون السابقون. إنّ ينبوع هذا الوفاء العظيم لأصحاب الحسين (عليه السلام) يتأتى من تجميع صفات أخرى لديهم كالشجاعة عند منازلة الخصوم وعدم تهيّب المخاطر فكانوا لا يبالون بالموت وأهواله، والإيثار وبذل المال والنفس والنفيس فداءً للإمام الحسين (عليه السلام).

إنّ للوفاء مراتب عدة، كالصبر والايمان والتقوى، وغيرها من الصفات الحسنة التي تجسدت في أصحاب الحسين (عليهم السلام). لنتعلم ونعلم أبناءنا الوفاء من العباس بن علي امير المؤمنين عليهم السلام، والذي رباه أبوه على الوفاء منذ الطفولة، فترجمها واقعاً عملاقاً في كربلاء، عندما وقف الى جانب أخيه سيد الشهداء السبط (عليه السلام) في يوم عاشوراء، ليخلد خصلة الوفاء في كلّ حين.

لقد وفى العباس (عليه السلام) بعهده الذي قطعه على نفسه ولربه وأبيه (عليه السلام)، بالرغم من كلّ الظروف القاسية التي مرّ بها. فالعباس (عليه السلام) كان بإمكانه لو لم يكن يعيش الوفاء لدينه وإسلامه وإمامه، أن يحفظ نفسه وأن يستسلم للإغراءات العظيمة التي عرضت عليه، والتي وعدته بحماية نفسه من القتل والهلاك، ان ترك السبط وشانه، إلاّ ان إرادته كانت هي الاقوى، وإيمانه كان هو الحاكم، فتغلب على كلّ شيء، ليفي بوعده، فخلده التاريخ وخلدته الأجيال. إنّ مواقفه الرسالية الثابتة والقوية في كربلاء وتضحيته واستبساله في الذود عن الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهاده في المعركة تعطي صورة واضحة لا غبار عليها، خاصة أنه كان حامل اللواء في معسكر الإمام (عليه السلام) والمعلوم أن حامل اللواء عادةً يكون من أوثق الناس وأشدّهم إيماناً بمبادئه وأقواهم مراساً وعراكاً وخبرة في القتال.

إنّ الوفاء بالوعد لا يكون مع الصديق فقط، بل حتى مع العدو، فالوعد مسؤولية شرعية يجب أن يلتزم بها المرء لا زال انه قطعه على نفسه أمام الآخر، مهما كان هذا الآخر، اما تصور البعض من ان عدم الوفاء بالوعد المقطوع لغير المسلم مثلاً أو لغير الملتزم بتعاليم الاسلام، فريضة، فهو تصور خاطئ لا أساس له من الصحة ابداً، بل ان عدم الوفاء بالوعد المقطوع للآخر المخالف، يعد في أحيان كثيرة بمثابة الخيانة لما يسبب من توهين للدين وتضعيف لمصداقية المتدين، وبالتالي سيكون سبباً الى زرع الشك في صفوف المجتمع، خاصة الذي يتشكل من شرائح اجتماعية مختلفة الدين والمذهب واليوم نحن بأمس الحاجة إلى أن تشيع بيننا ثقافة الوفاء بالعهود والوعود لتشيع بيننا روح الثقة والتسامح والعفو والمحبة، فالوفاء هو حجر الزاوية في بناء مجتمع تسوده الثقة المتبادلة بين أبنائه.

إنّ سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) تحدثنا عن التزامه بالعهود والمواثيق مع اليهود والنصارى، بل والمشركين، كالتزامه بها مع اقرب الناس اليه من المؤمنين والمؤمنات، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يقول عن نفسه (أدبني ربي فأحسن تأديبي) لا يمكن أن ينكث وعداً قطعه لأحد أو حتى لمشرك، فالوفاء من اخلاق الله تعالى التي أدب بها رسوله الكريم، وكلنا نعرف التزام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعهد (صلح الحديبية) الذي وقعه مع مشركي مكة، ولولا ان نكث المشركون بنود الوثيقة، لظل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ملتزماً بها الى يوم يبعثون، لأن الوعد والعهد في وعي الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) دين يجب الالتزام والوفاء به، وهكذا يجب أن يكون بالنسبة لنا، فنلتزم بالوعد والعهد مع الجميع بغض النظر عن اختلاف الدين والمذهب والقومية والاتجاه الفكري والسياسي، وغير ذلك.

ارسال التعليق

Top