• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحكمة الغائيّة للصوم

عمار كاظم

الحكمة الغائيّة للصوم

شُرع الصوم في الإسلام عبادةً روحيةً خالصة، وعلى نقيض ما تقتضيه الفطرة الإنسانية مادياً، مما هو من لوازمها، بل ومقوماتها حياةً وبقاءً. هذا، وليس لهذه العبادة مظهر إيجابي يمكن الاستهداء به على أدائها، كما هو الشأن في سائر العبادات والشعائر، لأنّ قوامها انكفاف النفس عن مُشتهياتها الحلال، فكانت عبادةً سِرِّية بين العبد وربه، تمثل سرِّيتُها عنصر المراقبة المستكنّ في ضمير المؤمن، لله تعالى. غير أنّ حكمة الصوم - في ضوء الهدي القرآني - تتصل بحقيقة كبرى قائمة في كيان الفطرة البشرية، قد تظاهرت آيات كريمة عدة على تجليتها، فكانت قوامٍ «نظرة القرآن الكريم إلى الإنسان نفسه» من حيث كونه «وحدةً كاملة» مادةً وروحاً معاً، لا تقبل الفصل أو التجزيء، فضلاً عن كونه كائناً حيّاً عاقلاً مفكراً حراً مسؤولاً. أما ماديته، فتتبدى في بشرية كيانه، وفي لوزام هذه البشرية التي هي قوامها المادي، حياةً وبقاء من الطعام والشراب والنسل ثم الفناء، فاتخذ الإسلام من «الصوم» عبادة مفروضة، بل جعلها ركناً من أركانه الخمسة، تأكيداً منه على أن يوقظ بها وعي الإنسان لأبعاد حقيقته، ولوازمها، وَصلاً بأصالة «عقيدة التوحيد» المستوجبة للتقوى. وأمّا كونه روحاً، فذلك مدلولٌ عليه بمظاهر تستلزم التفرقة الواقعية بينه وبين غيره من الكائنات الحية في هذا الوجود، فضلاً عما أشار القرآن الكريم إلى قيام «العنصر الروحي» في الحقيقة البشرية، بقوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر/ 29).

تفسير الحكمة الغائية للصيام - في ضوء الهدي القرآني - يلتقي مع الهدف العام للقرآن الكريم، ولا يقوم على أساس من فلسفة الجوع والحرمان. لا نرى فيما ذهب إليه بعض المتفقِّهة في تفسير الحكمة الغائية للصوم، على أساس من فلسفة الجوع والحرمان، تعليلاً كافياً، لإدراك هذه الصلة التي تربط الصوم - بما هو مجاهدة نفسية واقعية - بالحياة الإنسانية، يدبر أمرها، بما يصلها بالمعنى الحقّ الذي يتفهم الصائم من خلاله كُنْهَ بشريته تجاه مقام الألوهية، فيتأدّى به ذلك إلى تجرد روحي، يستشعر معه سلطان الله تعالى على نفسه، مما يغرس خشية الله في قلبه. فليس التجويع أو الحرمان - في حد ذاته - بما يورث خَوَراً في الجسم، وانهاكاً للقوى، مما يصح أن يعتبر - في الشرع الحنيف - غرضاً مقصوداً لله تعالى أصالةً، لأنّ هذا بالعقوبة أشبه منه بالعبادة، وما عُهِدَ في شِرعة الإسلام، أن تُقام العبادات الخمس المفروضة على معنى العقوبات، غايةً ومقصداً! صحيح أنّ الجوع يورث وَهناً في الجسم نتيجةً أو أثراً لازماً لانقطاع مصادر الغذاء عنه في فترات متتالية تستغرق شهراً كاملاً، لكن هذا المعنى تبعي لا يرقى إلى مستوى الحكمة الإلهية المقصودة أصالةً من هذه العبادة الروحية الخالصة، كما ورد في آية الصوم نفسها موصولةً بالتقوى، في معناها الكلي الذهني المجرد، الأمر الذي يستوجب أن تفسّر موصولةً بالهدي القرآني نفسه، وهدفه العام، إذ لا تجد جزئيةً في هذا التشريع - حُكماً ومقصداً - إلّا وتندرج في مضمون كلّي، والقرآن الكريم في أسلوبه البياني جاء على هذا النحو الكلِّي. هذا، والعلل - وهي ضوابط الحِكَم - وإن أمكن استخلاصها جزئياً، غير أنّها إنّما جاءت لتأكيد مقصد عام. هذا، ولا تنحصر هذه الحكمة أيضاً فيما يردده بعضهم من تقوية الإرادة، وقوة الاحتمال والمجالدة، وإشعار ذوي اليسار بوطأة الحرمان ومرارته على النفس في تجربة عملية واقعية، ليحملهم ذلك على تقدير ما يعانيه الفقراء المكدودون، إذ لو كان الأمر كذلك، لكان تشريع الصوم خاصّاً بهم، لانحصاره هذه الحكمة فيهم، وليس الأمر كذلك بالبداهة، بل هو تشريع عام، قد كُتب علينا، كما كتب على الذين من قبلنا، لوحدة النفس البشرية، ووحدة ما يستهدفه من مقصد عام يدبِّر به أمرها في حياتها وأجيالها المتعاقبة. أنّ الصوم شُرّع لإشعار الإنسان ببشرية كيانه التي تتسم بالحاجة الضارعة إلى الطعام والشراب، ومن لوازمها الفناء، تجد هذا بيِّناً في تأكيد القرآن الكريم على بشرية الرسل، كيلا يُتخذوا آلهةً من دون الله، في مثل قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) (المائدة/ 75)، وليس هذا من لوازم الألوهية، لأنّه سبحانه (يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (الأنعام/ 14)، وأكد القرآن الكريم هذا المعنى في الرسل جميعاً: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) (الأنبياء/ 8)، فالطعام والشراب والفناء، من لوازم البشرية، فجاء الصوم إيقاظاً لوعي الإنسان لبشريّته، ليعرف قَدْرَهُ، فلا يستعلي على مقام الألوهية، وكيلا يظلم ويطغى بأصالة عقيدة التوحيد، وما يستوجب ذلك من الإيمان بعقائد الإسلام، وبالقيم التي تَنبُعُ منها، وامتثال أمر الله تعالى في كلّ ما شرع، مما يتعلق بصلاح الفرد نفسه بخاصة، وما يتعلق بالأُمّة، بل والمجتمع البشري بعامة.

يؤكد هذا ويوضحه، أنّ مفهوم «التقوى» الذي أشار إليه القرآن الكريم، غاية للصوم، رجاء أن يحققها الصائم عملاً فيما فصّله القرآن الكريم من عناصرها، أو أن يُعدَّ نفسه إعداداً كافياً عن طريق الصوم للنهوض بها، كما يؤكد هذا ما رسمته الحياة الواقعية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشهر المعظم، إنّ مفهوم «التقوى» قد فصّله القرآن الكريم والسنة العملية المطهرة، تفصيلاً بحيث يعتبر منهجاً عملياً لتحقيق مفهومها الذهني المجرد، قد فصله في آية البر، والبر والتقوى - بصريح هذه الآية الكريمة - مفهومان كليان جامعان، متطابقان، في مدلوليهما لقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177). التقوى، جعلها الإسلام غاية للصوم عملاً، شاملةً لكثير من شؤون الحياة، فكان الصوم على الرغم من كونه عبادة سلبية قوامها انكفاف النفس عن المشتهيات الحلال غير أنّ غايتها إيجابية تتعلق بتدبير الحياة الإنسانية على وجه هذه الأرض اعتقاداً وعملاً، لصريح ما تلونا، فالصوم سلبيٌّ حقيقةً، وكنّهاً، إيجابيٌّ غايةً ومآلاً.

ارسال التعليق

Top