• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سرّ الرحمة الإلهيّة في قبول الدُّعاء أو عدمه

عمار كاظم

سرّ الرحمة الإلهيّة في قبول الدُّعاء أو عدمه

من فضائل الصوم في هذا الشهر الفضيل، أن يكون العبد قريباً من ربّه؛ يدعوه بنيّةٍ خالصةٍ ومشاعرٍ صادقةٍ، كي يغفر له ذنوبه، ويتوب عليه توبةً نصوحاً، ويبقيه في حالة الشدّة والرخاء مخلصاً لوجهه. جاء في الذكر الحكيم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). إنّها دعوة الله إلى عبده أن يستجيب له، فيدعوه إلى أنّ في ذلك خلاصاً له من كلّ سوء أو شدّة، وتحرّراً من كلّ عبودية لغير الله، عندما يشعر بأنّ الله هو وليّ حاجته، فمنه الفرج لكلّ شدّة، وبه الخلاص من كلّ سوء، وذلك هو سبيله للشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار، حين يشعر بأنّ حاجاته الصعبة هي في دائرة رحمة القادر على قضائها، والعالم بما يصلحه أو يفسده منها. الدُّعاء عبادة تهزّ أعماق الإنسان بالشعور بوجود الله وحضوره في كلّ مُلتقى للإنسان، في ما يهمّه من أُمور الحياة، وفي ما يثيره من شؤون الآخرة.. إنّها عبادة الإنسان التي تتحرّك معها حياته كلّها بين يدي الله، في شعور بالمحبّة الذاتية الخالصة التي لا يعرف روعتها إلّا المخلصون من عباد الله. ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدُّعاء مخّ العبادة»، وعنه أيضاً: «الدُّعاء هو العبادة». الطلب من الله سبحانه وحده أسمى ما يمكن للمرء أن يقوم به، إذا كان نابعاً من نيّة صادقة ومشاعر مخلصة، وتوجُّه واعٍ صحيح، يحمل الإنسان على الارتباط العميق والجدّي بالخالق، فالله تعالى المُنِعم على الوجود كلّه بكلّ آيات الحياة والرِّزق واللُّطف والرحمة، هو خير المقصد للعباد في كلّ أوضاعهم وأحوالهم، لأنّ الطلب من غيره والتذلّل لغيره، لا يعبّر عن أصالةٍ في التوجّه، ولا إخلاص لما ينبغي أن يُخلص إليه.. (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة/ 186) و(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16).

يقول الإمام السجّاد (عليه السلام) في صحيفته السجّادية الرائعة: «اللَّهُمّ اسقِنا الغيثَ، وانشُرْ علينا رحمتك بغيثِك المُغدِقِ من السحابِ المُنساقِ لنباتِ أرضِك المُونِقِ في جميعِ الآفاقِ. وامنُنْ على عبادِك بإيناعِ الثمرةِ، واحي بلادَك ببُلوغِ الزهرةِ، واشهِدْ ملائكتَك الكِرامَ السَّفَرَةَ بسَقيٍ منك نافعٍ، دائمٍ غُزرُهُ، وَاسِعٍ دِرَرُهُ، وَابِلٍ سريعٍ عاجلٍ. تُحيي به ما قد مات، وتَرُدُّ به ما قد فاتَ، وتُخرِجُ به ما هو آتٍ، وتُوسِّعُ به في الأقواتِ.. اللَّهُمّ اسقِنا غَيثاً مُغِيثاً مَرِيعاً مُمرِعاً عريضاً وَاسِعاً غزيراً، تَرُدُّ به النهيضَ، وتَجبُرُ به المَهِيضَ.. اللَّهُمّ لا تجعلْ ظِلَّهُ علينا سَمُوماً، ولا تجعلْ بَردَهُ علينا حُسُوماً، ولا تجعلْ صَوبَهُ علينا رُجُوماً، ولا تجعلْ ماءَهُ علينا أُجاجاً». وفي وصيّة الإمام عليّ (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام)، قال:«ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذِنَ لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدُّعاء أبواب نِعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنِّطنَّك إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النيّة. وربّما أُخِّرَت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل. وربّما سألت الشيء فلا تؤتاه، وأُوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خيرٌ لك؛ فلرُبَّ أمرٍ قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك في ما يبقى لك جماله، وينفى عنك وبالُهُ. فالمالُ لا يبقى لك ولا تبقى له». من هنا يتبيّن أنّ من شروط استجابة الدُّعاء، أن يُقبل الداعي على الله بقلبه.. فلا يستجيب سبحانه دعاء الغافل الذي يتحوّل الدُّعاء عنده إلى كلمات لا عُمق لها في القلب.. وفي هذه الوصيّة، أنّ الاستجابة قد لا تكون في دائرة المطلوب، لأنّها لا تحقّق مصلحة للداعي، أو قد تسبّب مفسدة له؛ ولكنّ الله لا يهمل للداعي تطلّعاته للخير من خلال ما اعتقده خيراً في دعائه، بل يختار له في مبدأ الاستجابة ما هو الأفضل والأوسع والأغنى في الدُّنيا أو في الآخرة. وهذا هو سرّ الرحمة الإلهيّة في رعاية الله لعبده، الذي يمنحه الخير من خلال دعائه وتضرّعه إليه، حتى لو كان الدُّعاء في اتجاهٍ آخر، لأنّ المسألة هي أن يستجيب له في انفتاح الخير على حياته، لا في مفردات الدُّعاء بذاتها.

ارسال التعليق

Top