• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رمضان المبارك.. إليك أتحدث

رمضان المبارك.. إليك أتحدث
◄ها هي السماء تبتسم عن هلاله.. وها هي الأرض تهش لإستقباله.. إنّه الشهر الكريم المبارك.. شهر الخيرات الربانية والنفحات الإلهية والفيوضات الرحمانية. أقبلْ أيها الشهر الكريم، وأقم طويلاً في هذه الأُمّة المسكينة، أقم فيها ما شئت، وعلمها أنّ الشهوات قيود الأسر، وانّ المطامع أساس الإستعباد، وأن أساس الحرِّية الإستغناء، وأنّ الإرادة متى قويت، والعزيمة متى صحت، لا يقف في وجههما شيء، وأن غذاء الطين طين، بينما غذاء الروح روح. أقبل أيها الحبيب، فكم نحن في شوق إليك، تأتي كل عام فتغسل أدران قلوبنا، وتروي ظمأ نفوسنا، وترفرف بأرواحنا في مدارج السمو والتعالي على الشهوات والملذات، فنتشبه بالملائكة التي لا شهوة لها. تأتي كل عام فتتعطر المساجد بأنفاس الذاكرين الراكعين الساجدين الداعين المستغفرين والتوابين الأوابين، ويعود القرآن غضاً طرياً على الألسنة، وتسخو الأيدي بالعطاء، والمآقي بالبكاء، وترفل المآذن والقباب في حلل من البهاء والجمال والأنوار. أوّله الرحمة تغمرنا **** ويطيب لأنفسنا المنهل أوسطه مغفرة كبرى **** من كل خطايانا نُغسل أخره عتق من نار **** لولاه كانت تتغلغل كم نحن في حاجة إليك، كم نحن في حاجة إلى أن نتعلم في مدرستك العظيمة، ونتحلق حول مائدة دروسك البليغة، كم نحن في حاجة إلى أن نلتحق بجامعتك الكبرى التي تقدم دورة تدريبية مكثفة كل عام لا يلتحق بها إلا ذوو الهمة العالية والإرادة الواعية الذي يرغبون في أن يتاجروا مع الله تعالى تجارة لا تبور. لا أكتمك سراً – أيها الشهر المبارك – أننا – نحن المسلمين – قد تفرقت بنا السبل، فضعفت عزائمنا وخارت قوانا، وصرنا – إلا من رحم الله – عباداً لشهواتنا، جل همنا وأكبر سعينا وغاية مرادنا إشباع الشهوات وإرضاء الملذات. قد تسائلني متعجباً: ولمَ كل هذا؟ألم تتعلموا مما قدمته لكم من دروس وعبر طوال أربعة عشر قرناً؟ ألم أقص عليكم قصص البطولة والفداء والتضحية والعطاء؟ ألم أرب فيكم العزائم، وأصنع منكم الرجال؟ وأجيبك حزيناً: بل قد أتيت وعلمت وربيت، ولكننا كثيراً ما ننسى، تأخذنا الحماسة في أولك، وتضعف الهمة في وسطك، ثمّ تخبو شعلة الحماس في آخرك، فينفرط منا العقد قبل أن ينعقد، وينقض منا البناء قبل أن يكتمل!   -        لكن.. ما زال الأمل يداعبنا: كلما أقبلتَ كل عام ينساب في قلوب المؤمنين نور، وتتجدد مشاعر، وتحيا آمال. كلما أقبلت – أيها الشهر الكريم – أقمتنا على أول طريق العزة، وفتحت لنا أوّل صفحات المجد والفخار، وذكرتنا بمجدنا التليد وماضينا المجيد، واستعدنا قول هاشم الرفاعي: ملكنا هذه الدنيا قرونا **** وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء **** فما نسي الزمان وما نسينا ما زال الأمل قوياً في التغلب على الشهوات والملذات، ومن ثمّ النصر على الاعداء، ما زال الأمل قوياً في مغالبة الأنفس، فذاك هو الطريق لمغالبة أهل الهوى والضلال والباطل (الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) (النور/ 19). ما زال الأمل يداعبنا – أيها الضيف العظيم – في أن نحسن محاسبة أنفسنا ومراقبة ربنا، والتأسي بنبينا المصطفى (ص)، الذي كان أكثر الناس طاعة لله سبحانه، ومع ذلك كان أكثر الناس خوفاً من الله، وأشد الناس حساباً لنفسه! ما زال الأمل يداعبنا، بأن نخرج منك، وقد ازددنا من الله قرباً، ولله وداً، وعلى الآخرة إقبالاً، ومن الدنيا حذراً.   -        طاعة.. أربع وعشرون ساعة: إنّ فيك يا رمضان من خصال الخير ما لا يُحصى، ومن فيوضات الله ما لا يُنكر، فالمسلم الحق يشمر فيك عن سواعد الجد، ويعلن الحرب على نفسه؛ لأنّه يعلم أنها أعدى أعدائه، وأنها لابدّ أن تُحمل على طاعة الله حملاً، وأن تُساق إلى رحاب ربها سوقا (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10)، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 37-41). ومن ثمّ فإن من يريد أن يظفر بالفوز والنجاة والرحمة والمغفرة والعتق من النيران في هذا الشهر الكريم، يضع لنفسه برنامجاً إيمانياً مكثفاً: فهو يبدأ يومه بطاعة، ويختمه بطاعة، وما بين البدء والختمان يتقلب – أيضاً – في صور شتى من الطاعات، إنّه يبدأ يومه بالسحور، ناوياً الصيام مخلصاً النية لله رب العالمين، ثمّ يثني بصلاة الفجر، ثمّ يجلس يذكر ربه تعالى حتى تطلع الشمس، فيكتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، كما أخبر الصادق المصدوق (ص)، ثمّ ينصرف إلى عمله، غاضاً بصره، ذاكراً ربه، تالياً كتابه، داعياً إلى سبيله، قدوة في سلوكه وقوله، إذا سابه امرؤ أو شاتمه لا يرد عليه، بل يقول كما علمه المصطفى (ص): "إني صائم، إني صائم"، وهو مع صيامه لا يتكاسل في عمله، بل يتقنه خير ما يكون الإتقان، ويؤديه أحسن ما يكون الأداء. ويخطئ من يظن أنّ الصيام تكأة أو حجة للتكاسل أو التواني أو الإساءة إلى الناس في معاملتهم، فـ"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر". ثمّ يعود إلى بيته – وقد صلى الظهر العصر – فيأخذ قسطاً من الراحة، ثمّ يصحوا قبل صلاة المغرب، فيعطر لسانه وقلبه بأذكار المساء، فإذا ما انطلق أذان المغرب أفطر على تمرات أو رطبات أو حسا حسوات من الماء، ثمّ توجه إلى بيت من بيوت الله، فأدى الصلاة، ثمّ يعود فيفطر إفطاراً لا يسرف فيه ولا يكثر؛ حتى لا يتثاقل جسمه عن أداء صلاتي العشاء والتراويح، إذ الهدف من الصيام قتل شهوتي الفم والفرج أو ترويضهما إلى أقصى درجة ممكنة، فإذا ما ملأت المسلم معدته في الإفطار، فما حقق للصيام هدفاً، ولا قتل في النفس شهوة. وبعد صلاتي العشاء والتراويح لا يضيع وقته الثمين في الملاهي أو المعاصي – حاشا أن يفعل المسلم ذلك بل عليه أن يستثمر هذا الوقت في زيارة أحد إخوانه أو السمر مع أولاده، أو تلاوة آيات من كتاب الله العزيز أو المطالعة المفيدة المثمرة أو في أي عمل نافع آخر، ولا يطيل في ذلك، إذ يحرص على النوم مبكراً للقيام لصلاة التهجد، فهذه صفة من صفات عباد الله المؤمنين حقاً، الذين قال الله تعالى عنهم: (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات/ 17-18)، وقال سبحانه عنهم في سورة السجدة: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/ 16-17). وليسأل كل مسلم نفسه: إن لم أحي رمضان بالطاعة والصيام والتهجد والقيام.. مع كل ما فيه من منن عظيمة وعطايا جليلة ومضاعفة للحسنات ومغفرة للسيئات وتصفيد للشياطين، وتفتيح لأبواب الجنان وتغليق لأبواب النيران، فمتى إذن سأفعل؟ وماذا أنتظر؟   -        فرصة نادرة وغنيمة باردة: إنّ رمضان فرصة نادرة وغنيمة باردة، ومضمار للتنافس في فعل الخير، لا يغفل عنها إلا من رغب عن التجارة مع الله تعالى، الذي حثنا على أن نتاجر معه، وبين أن تلك التجارة أبداً لن تبور: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر/ 29)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف/ 9-13). ولو تصورت أن تاجراً انصرف عن تجارته في مواسم الربح والرواج، أو أن زارعاً انشغل عن زراعته في مواسم الزرع والنماء، فماذا أنت عنهما قائل؟ وتصور أن موائد حافلة قد نُصبت، وتحلق حولها الراغبون، وفُرشاً وثيرة قد بُسطت، وجلس عليها الجالسون، وبينما أنت تصرف بصرك هنا وهناك، إذا برجال يفترشون الثرى، ويتحلقون حول مائدة عليها بقايا طعام لا يسمن ولا يغني من جوع! فماذا أنت عنهم قائل؟ هل يعرض عن مواسم الخير والعطاء، ونفحات البر والسخاء، إلا من سفه نفسه وغرته الدنيا، وخدعه شيطانه؟ إنّ الحديث عن رمضان حديث ذو شجون، وهو متعدد الرؤى والزوايا، ويجب أن يكون ثرياً ثراء هذا الشهر العظيم، فهو غرة الأيام والشهور، وزينة الأعوام والدهور.   -        أرِ الله من نفسك خيراً: أخي: إعلم أنّ الله إصطفاك ومنَّ عليك وأعطاك. ولو أراد الله بك شراً – وحاشا وكلا – فهو القائل في كتابه الكريم: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء/ 147). أقول: لو أراد الله بك شراً لما هداك للإيمان، ولما أفاض عليك – كما أفاض على عباده المؤمنين – بنعمة القرآن، ولما أمد في عمرك وأعطاك الفرصة تلو الفرصة، والمنحة وراء المنحة، فعليك أن تُري الله من نفسك خيراً. تذكر أنّ الله يباهي ملائكته بعباده الصالحين الذاكرين، وأنّه – جلّ وعلا – يفرح بتوبة التائبين، وأوبة الأوابين، وهو الذي لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، فهل تحب أن يفرح بك ربك جل وعلا ويباهي بك ملائكته؟ وتذكر أنّ الله جلّ وعلا قد عقد معك – أيها المؤمن الحق – صفقة رابحة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 111). وما أصدق قول الصديق رضي الله عنه: في هذه الآية: "أنفس خلقها وأموال رزقها، ثمّ لما علم بخلنا اشتراها منا" سبحانه، بفيض كرمه وجوده وعطائه، ومع ذلك فنحن عن ذلك من المعرضين، وفيه من الزاهدين، إلا من رحم الله رب العالمين (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).► المصدر: مجلة المجتمع

ارسال التعليق

Top