• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القيم الأخلاقية في النهضة الحسينية

القيم الأخلاقية في النهضة الحسينية
 ◄جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة لهداية الإنسان، وتحريره من جميع ألوان الإنحراف من فكره وسلوكه، وتحريره من ضلال الأوهام ومن عبادة الآلهة المصطنعة، وتحريره من الإنسياق وراء الشهوات والمطامع، وتهذيب نفسه من بواعث الأنانية والحقد والعدوان، وتحرير سلوكه من الرذيلة والإنحطاط. وقد اختصر رسول الله (ص) الهدف الأساسي من البعثة بقوله المشهور: "إنّما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق". وقد واصل الأوصياء والأئمة من أهل البيت (ع) هذه المهمة لتترجم في الواقع في أعمال وممارسات وعلاقات، ولهذا كانت الأخلاق هي المحور الأساسي في حركاتهم، وقد جَسَّدَ الإمام الحسين (ع) في نهضته المباركة المفاهيم والقيم الأخلاقية الصالحة، وضرب لنا وأصحابه وأهل بيته أروع الأمثلة في درجات التكامل الخلقي. وفيما يلي نستعرض أخلاق النهضة الحسينية المباركة لتكون نبراساً لنا في الحياة:   -         أوّلاً: مراعاة حرمة الكعبة رفض الإمام الحسين (ع) اللجوء إلى الكعبة لكي لا تستباح حرمتها، وكان يقول لمن طلب منه الإلتجاء إليها: "إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشاً به تستحل حرمتها فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش"[1]. وقال لأخيه محمد بن الحنفية: "يا أخي، خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت"[2]. وقال لعبدالله بن الزبير: "يا ابن الزبير، لأن أدفن بشاطئ الفرات أحبّ إليَّ من أن أدفن بفناء الكعبة"[3].   -         ثانياً: الوفاء بالعهود والمواثيق الوفاء بالعهود والمواثيق من الأخلاق الفاضلة في جميع الأديان إلهية كانت أم وضعية، وقد جسّدت النهضة الحسينية هذه القيم الأخلاقية في أشدّ المواقف خطورة. فبعد إتفاق الإمام الحسين (ع) مع الحر بن يزيد الرياحي على أن يسايره فلا يعود إلى المدينة ولايدخل الكوفة طلب منه الطرماح بن عدي أن ينزل قبيلة طي ليلتحق به عشرون ألف طائي، فقال له الإمام (ع): "أنّه كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الإنصراف"[4]. فقد وفى (ع) بعهده وإن كان قد أفقده عشرين ألف ناصر له وهو بحاجة إلى أي ناصر.   -         ثالثاً: الرحمة والشفقة على الأعداء أنّ أتباع الحق يقاتلون من أجل هداية الأعداء إلى المنهج الربّاني لتحكيمه في التصوُّر وفي السلوك وفي واقع الحياة، وهم لا يقاتلون إنتقاماً لذواتهم وإنما حبّاً للخير ونصراً للحق، ولذا نجدهم رحماء شفوقين حتى مع أعدائهم ليعودوا إلى رشدهم ويلتحقوا بركب الحق والخير، وقد جسّد الإمام الحسين (ع) وأصحابه أروع ملاحم الإنسانية والرحمة والعطف، ففي طريقه إلى كربلاء التقى بأحد ألوية جيش ابن زياد وكان ألف مقاتل مع خيولهم وكانوا عطاشى، فأمر أتباعه بسقي الجيش، وقال لهم: "اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً"، وقد سقى الإمام الحسين (ع) بنفسه ابن طعان المحاربي[5].   -         رابعاً: الإيثار ونكران الذات أنكر أتباع الإمام الحسين (ع) ذواتهم وذابوا في القيادة التي جسّدت المنهج الإلهي في واقعها المعايش، فلم يُبقوا لذواتهم أيّ شيء سوى الفوز بالسعادة الأبدية، فكان الإيثار والتفاني من أهم الخصائص التي اختصّوا بها. لمّا رأوا أنّهم لا يقدرون يمنعون الحسين (ع) ولا أنفسهم، تنافسوا أن يقتتلوا بين يديه[6]. وقبل المعركة، وصل بُرير ومعه جماعة إلى النهر، فقال لهم حماته – بعد أن عجزوا عن قتالهم - : اشربوا هنيئاً مريئاً بشرط أن لا يحمل أحد منكم قطرة من الماء للحسين، فكان جوابهم: "ويلكم نشرب الماء هنيئاً والحسين وبنات رسول الله يموتون عطشاً لا كان ذلك أبداً"[7]. وفي شدّة العطش، رفض العباس (ع) شرب الماء قبل الإمام الحسين (ع)، وقال:             يا نفس من بعد الحسين هوني****وبعده لا كنت أن تكوني                هذا حسين وارد المنون****وتشربين بارد المعين[8]   -         خامساً: العلاقة بين القائد والأتباع في كل نهضة هنالك قيادة وطليعة وقاعدة ترتبط بروابط مشتركة من أهداف وبرامج ومواقف، والقيادة دائماً هي القدوة التي تعكس أخلاقها على أتباعها، وفي النهضة الحسينية تجسّدت الأخلاق الفاضلة في العلاقات والروابط حيث الإخاء والمحبّة والتعاون والود والإحترام بين القائد وأتباعه وبين الأتباع أنفسهم، فالأتباع ارتبطوا بالقيم والمثل، ثمّ ارتبطوا بالقائد الذي جَسَّدها في فكره وعاطفته وسلوكه، فالأتباع تلقّون الأوامر بقبول ورضى وطمأنينة. ومن هذه القيم كان الإمام الحسين (ع) يخاطب حامل لوائه وهو أخاه العباس: "يا عباس اركب بنفسي أنت"[9]. ويخاطب أتباعه قائلاً: "قوموا يا كرام"[10]. ويخاطبهم أيضاً: "صبراً بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة"[11]. ونتيجة لهذا الترابط الروحي بين القائد والأتباع، رفض الأتباع أن يتركوا الإمام الحسين (ع) لوحده بعد أن سمح لهم بالتفرُّق عنه، فهذا مسلم بن عوسجة يخاطب الإمام (ع) قائلاً: "أما والله لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ أحيي ثمّ أحرق ثمّ أحيي ثمّ أذرّى يفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك"[12]. وبعد الشهادة، كان الإمام (ع) يقف على جسد جون وهو عبد أسود ويدعو له: "أللهمّ بيِّض وجهه وطيِّب ريحه"[13]. ويعتنق واضح التركي وهو يجود بنفسه واضعاً خدّه على خدّه[14].   -         سادساً: مواساة القيادة لأتباعها شارك الإمام الحسين (ع) أنصاره في السَّرّاء والضَّرّاء وفي آمالهم وآلامهم، وعاش في وسطهم يتعرّض لما يتعرّضون له، ولم يضع فاصلاً بينه وبينهم، فكانت أمواله وأطفاله وعياله معهم يبذلها من أجل الحق، وكان لأنصاره وأتباعه أسوة وقدوة، وهو القائل: "نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ أسوة"[15].   -         سابعاً: مراعاة العواطف والأحاسيس في ظروف القتال، قد ينسى القادة العواطف والأحاسيس ويتعاملون بعقولهم لمعالجة الظروف العصيبة، ولكن الإمام (ع) راعى العواطف والأحاسيس، لذلك فقد رفض السماح لعمر بن جنادة بالقتال بعد أن استشهد أبوه مراعاة لعواطف أُمّه، وهو ابن إحدى عشرة سنة، إلى أن علم أنّ أُمّه هي التي أذنت له ودفعته للقتال[16].   -         ثامناً: إحترام وشائج القربى إحترام الإمام (ع) وشائج القربى حفاظاً منه على المفاهيم والقيم الأخلاقية التي خرج من أجل تحقيقها في الواقع، فحينما صاح شمر: أين بنواختنا؟ أين العباس وأخوته، وكانت أُمّهم من عشيرته، فأعرضوا عنه ولم يجيبوه، فقال لهم الإمام (ع): "أجيبوه وإن كان فاسقاً"[17].   -         تاسعاً: صيانة المرأة إحترم الإمام الحسين (ع) المرأة ووضعها في مكانها اللائق، ولم يصطحب معه النساء إلا لإكمال مسيرة الحركة الإصلاحية لإبلاغ أهدافها عن طريقهنّ. والإمام أرجع أُم وهب حينما أرادت أن تقاتل، وأرجع أُم عمر بن جنادة بعد أن أصابت رجلين[18]. والتزمت النساء بالتعاليم الإسلامية في الحجاب وفي مقابلة المصاب وبالصبر، فلم يشققن جيباً ولم يخمشن وجهاً، ولم يرتفع صراخهنّ أمام الأعداء.   -         عاشراً: أخلاقية الإعلام لم يمارس الإمام الحسين (ع) الكذب والخداع والتمويه في إعلامه، وإنما ركّز على حقائق معلومة للجميع، فوضَّح أهداف حركته وهي إصلاح الواقع، وحينما جاءته الأخبار عن مقتل مسلم بن عقيل لم يخف الأخبار عن أصحابه وإنما أخبرهم بذلك وشجَّعهم على الإنصراف، وكان بين فترة وأخرى يخبرهم أنّه سيقتل وتسبى حريمه، ولم يخبرهم أنّه سينتصر عسكرياً.   -         حادي عشر: رفض البدء بالقتال القتال نهاية المطاف بعد أن تعجز الوسائل السلمية وبعد أن يصل المسلمون إلى طريق مسدود، فأمّا الذل وأمّا العزّ بالدفاع عن القيم والمبادئ الإسلامية. وقد رفض الإمام الحسين (ع) البدء بالقتال، ففي طريقه إلى كربلاء قابل أوّل طلائع الجيش فلو دخل معركة معهم لهزمهم، ولكنه رفض البدء بقتالهم وكان جوابه لزهير بن القين: "ما كنت لأبدأهم بقتال"[19]. وفي عاشوراء، وقف شمر أمام معسكر الحسين (ع) وبدأ يكيل السباب والشتم للإمام، فأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فقال له الإمام (ع): "لا ترمه، فإنِّي أكره أن أبدأهم"[20]. ومن أخلاق النهضة الحسينية: قبول توبة المخالفين، ورفض الفتك بالأعداء، وعدم استخدام العبارات غير المهذبة حتى مع قادة الحكم الأموي. وبهذه الأخلاق استطاعت النهضة الحسينية أن تحقق النصر الحقيقي بعد أن أيقن المسلمون أنّها نهضة سليمة جاءت لإصلاح الواقع وتغييره بعد أن جسّدت هذا الإصلاح وهذا التغيير في سلوكها وأخلاقها.►   المصدر: مجلة القربى، العدد العاشر، محرم الحرام 1423هـ/ آذار 2002  
[1] - الكامل في التاريخ 4: 38. [2] - بحار الأنوار 44: 364. [3] - بحار الأنوار 45: 86. [4] - الكامل في التاريخ 4: 50. [5] - الإرشاد: 224، المفيد. [6] - الكامل في التاريخ 4: 72. [7]- معاني السبطين 1: 320. [8] - مقتل الحسين: 336، المقرّم. [9] - أبصار العين في أنصار الحسين: 28، محمد السماوي. [10] - حياة الإمام الحسين 3: 199، باقر شريف القرشي. [11] - حياة الإمام الحسين 3: 199، باقر شريف القرشي. [12] - بحار الأنوار 44: 393. [13] - اللهوف في قتلى الطفوف: 47. [14] - أبصار العين في أنصار الحسين: 85. [15] - الكامل في التاريخ 4: 48. [16] - تاريخ الطبري 4: 304. [17] - المنتظم في تاريخ الأمم والملوك 5: 237. [18] - بحار الأنوار 45: 17. [19] - الكامل في التاريخ 4: 52. [20] - الإرشاد: 234.

ارسال التعليق

Top