• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التراث الفني الشعبي العربي.. إبداع مستمر

التراث الفني الشعبي العربي.. إبداع مستمر

في حياة الشعوب تبرز جوانب عديدة تجسّد صورا ناطقة لحضاراتها، وأدّلة ثابتة على ما تمتعت به عبر تاريخها من خصائص وقيم اتسمت بها مجتمعاتها.

ومن هذه الصور، التراث الفني الشعبي الذي اصطلح على تسميته بـ"الفولكلور"، وهو يعطي انطباعاً صادقاً لكل من يدرس تاريخ الشعوب، عن خصائص وأنماط وتقاليد الحياة التي سادت عند هذه الشعوب. والتراث الفني الشعبي هو بمثابة استمرارية لجوانب كثيرة من حياة المجتمعات، بحيث يعبر عنها بالصوت أو بالصورة، وخاصة تلك الجوانب التي لم يتم تدوينها في كتب التاريخ. والمجتمع العربي غني بهذا التراث الفني الشعبي الذي بقي محتفظا بعناصره الأصيلة، ومحافظا على صور الابداع التي واكبت مختلف مراحل التطور في التاريخ العربي، وناقلا أمينا لخصائص العرب وتقاليدهم وقيمهم، سواء كانت في مجالات الحرب أو الحب أو الشهامة أو الكرم أو اغاثة الملهوف أو الشرف أو حفظ الجميل أو صيانة النسب أو وحدة الإرادة والهدف. ويمتاز التراث الفني الشعبي العربي بعمقه التاريخي، رغم كل المتغيرات التي جابهت الإنسان العربي على مر العصور، كما يتميز بصدق الصورة التي ينقلها، رغم كل المحاولات التغريبية التي استهدفت فرض ثقافات اجنبية على المجتمع العربي أو أنواع من الفن أريد بها تزوير خصائص العرب وفصل حاضرهم عن تاريخهم المشرق. غير أن كل هذه المحاولات التغريبية الاستعمارية لم تنجح، وذلك لاصالة الإنسان العربي ذاته، الذي حرّص على لغته العربية كوسيلة للتعبير، وعلى ارتباط لغته بالإيمان، وعلى لقائهما معا بالشخصية القومية العربية المستقلة. وإذا كانت هناك أشكال تراثية فنّية تغريبيّة استطاعت إيجاد مكان لنفسها في المجتمع العربي، ألا أن هذا الوجود يبقى في خانة المؤقت، ومحاصر في الزمان والمكان، إذ أنه مقتصر فقط على بعض المدن العربية دون ريفها وباقي مناطقها، ولمدة زمنية محدودة يطفو خلالها فوق السطح ثمّ لا يلبث أن يصبح منسيّا. ويبقى التراث الفني الشعبي العربي هو المستمر الدائم الذي تختلف طريقة التعبير عنه بين قطر عربي وآخر الا أنه في أساسه واحد، يعبر عن وحدة الألم والأمل، وعن وحدة الخصائص والقيم، في المجتمع العربي.   - الموال: ويعتبر الموّال من أشكال الغناء الشعبي العربي القديمة. وقد حافظ الموال على وجوده على امتداد الوطن العربي، كما بقي مستمراً عبر مختلف الحقب الزمنية التي مرّ بها التاريخ العربي، محتفظا بقواعده الفنية وأن كان قد تناول موضوعات مختلفة بين الحداثة والتراث تبعا لتغير الظروف الاجتماعية والتاريخية للإنسان العربي. وقد حدّد مواصفات الموال صفي الدين الحلي (1278-­1349) كما جمع نماذج منه ابن خلدون في مقدمته (1332-1406)، بحيث برزت خصائصه التي تجمع بين البساطة وتلقائية التعبير وبين حسن اختيار الكلمة، والتي تبرز نوعيته من حيث كونه مظهرا مباشراً للتعبير عن وحدة المزاج النفسي للإنسان العربي، وكذلك عن وحدة رؤيته الفنية الواحدة للكثير من جوانب الحياة. ويقول ابن خلدون في مقدمته عن الموّال: "لقد كان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليا وتحته فنون كثيرة، منها القوما والكاكان، منها المفرد ومنها البيتان ويسمونها الدوبيت، وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوافيها بالغرائب وتبحروا فيها بأساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضارية فجاؤا بالعجائب".   - الزجل والموشحات: ويجمع فن الزجل والموشحات بين ما هو تقليدي وما هو شعبي، وهو دليل على التواصل والتداخل بين ما هو موروث وما هو شائع في البيئة العربية، كما انّه يشكل تعبيراً عن احتياجات الإنسان العربي، وعن تطلعاته الجمالية والعاطفية نحو الطبيعة وبني البشر. والموشح الاندلسي، كان موطنه الأصلي في اليمن، ثمّ هاجر مع غيره من أشكال الفنون الأدبية والتراثية نحو الأندلس، حيث ظهر هناك على يد رجل ضرير يدعى محمد محمود القبّري. وبرز الموشح في منطقة المغرب العربي، وهو في تونس على سبيل المثال، من "صوغ قرائح التونسيين وبنات أفكارهم، وغالبه موزون على الطريقة الشعرية، وفيه المقفى وهو الأكثر، وفيه غير المقفى وذلك نادر، ولكن كله يأتي على أغصان متعددة وطوالع".   - السير الشعبية: وتكثر في المجتمع العربي السير والقصص الشعبية، لعنترة بين شداد والظاهر بيبرس وسيف بن ذي يزن والسيرة الهلالية وسواها، ويقول المؤرخون انها كثيرة وان ما وصل منها قليل حتى الآن. والسير الشعبية مصدر تاريخي هام، وهي تعبير عن خصائص فترة من الزمن لها علاقة بالتطور الاجتماعي للإنسان العربي، وهي تشكل دليلاً تاريخياً من حيث تناولها لحياة فرد له أهميته كموجه للأحداث في عصره، أو لجماعة لعبت دوراً ذا أثر في التاريخ العربي، كما أنها مادة أدبية تحمل انطباعات مؤلفها وتتلون بثقافته ووضعه الاجتماعي وموقفه من الحياة. والقصص الشعبية تلقي المزيد من الاضواء على نوعية الحياة العربية وهي التي جسّدها الإنسان في حياته اليومية التفصيلية، بحيث أتت زاخرة بصور معاناته وطموحاته، ضمن إطار فني مكتمل يربط الأحداث بدقة وينقل المأثورات بأمانة. وأصول القصص الشعبية العربية كثيرة، ولكن كلها ترجع إلى العربية الفصحى، وهي تتعلق بأحداث محلية أو ظروف بيئية أو اجتماعية خاصة بقطاعات شعبية عربية معينة، وجاء بعضها كأمثال تم تدوين معظمها منذ ألف عام، أي بين القرن الحادي عشر ميلادي والقرن الثاني عشر، حيث نقلت إلينا الكثير من تجربة الإنسان العربي وحكمته في الحياة يومذاك.   - الموسيقى والرقص الشعبي: ويعبر هذا الجانب من التراث الفني الشعبي العربي، عن أحاسيس ومعاناة الإنسان باللحن أو بالحركة، وبما يتكامل مع الفنون الشعبية التعبيرية الأخرى. وترتبط الموسيقى والرقص الشعبي، بالمناسبة والظروف المحيطه بالمجتمع، ولها مدلولات اجتماعية كثيرة، فهناك الدبكة في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، وهناك الرقص الشعبي في الخليج عامة، وفي مصر والسودان، وفي المغرب العربي، وهي لها علاقات بالعمل، كالابحار مثلا، وبالقوة، وبحياة البادية وآثارها. والرقص الشعبي ابداع مباشر وتلقائي، ومعظم الرقصات الشعبية العربية متشابه، سواء من حيث الأداء أو وظيفته وغرضه، وهي متنوعة في تفصيلاتها، ذات العلاقة المحلية، إذ في محافظة واحدة باليمن مثلاً، توجد 14 رقصة شعبية لكل واحدة منها اسمها الخاص وطريقه أدائها وتنوع الآلات الموسيقية التي تصاحبها وكذلك المشاركين فيها. وقد برز من علماء الموسيقى العرب، الاصبهاني وصفي الدين الارموي البغدادي الذي كان أول من ضبط تدوين نغم الألحان وإيقاعاتها، فجعل للنغم حروفاً، ولا زمنة الأيقاع اعدادا. كذلك برز الفارابي الذي وضع كتاب "الموسيقى الكبير" الذي حدد فيه دور الموسيقى في الحياة العربية اليومية.

لقد حافظت هذه الفنون الشعبية على الطابع، الحضاري للثقافة العربية بأصالتها وحيويتها واستمراريتها، فأصبحت هناك صعوبة في وضع حدود فاصلة بين ما هو موروث وما هو مأثور وما هو تقليدي وما هو شعبي منها، فما كان، لا زال كائنا بطريقة أو بأخرى، وما استحدث انما استنبط مما كان، وكل ذلك ضمن إطار تكاملي حضاري يحمل صفة الاستمرارية والتطوّر والابداع.

ارسال التعليق

Top