• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التطور العقلي المعرفي

التطور العقلي المعرفي

◄اعتمد "بياجيه" في دراسة النمو المعرفي على التطوّر العقلي، وأسسه العضوية الحيوية. ويعتقد بأنّ الذكاء جانب من جوانب تكيف الفرد مع بيئته، والتكيف هو الجهد العقلي الذي يقوم به الفرد لإيجاد حالة من التوازن بينه وبين المحيط.

ويعرِّف بياجيه الذكاء بطريقة محدودة، إذ يشير الذكاء إلى تناسق الإجراءات في حين تشير الإجراءات إلى الجهد العقلي الذي يقوم به الفرد في عملية التكيف مع بيئته، ويسيطر على كافة هذه الإجراءات أو العمليات مبدأ التوازن الذي يقوم بإيجاد علاقات منسقة أو غير متناقضة بين الأشياء.

وينطوي التكيف على التفاعل بين عمليتين عقليتين هما: الاستيعاب والتواؤم. وتشير عمليات الاستيعاب إلى الطريقة التي يعيد فيها الطفل تشكيل خبراته لتتناسب مع المستوى الوظيفي لبنيته العقلية. لهذا يقوم الطفل أثناء عملية الاستيعاب بتكييف البيئة مع ذاته بحيث تمثل هذه العملية استخدام الطفل للبيئة بطريقة يستطيع من خلالها إدراك هذه البيئة، وكلما كان الطفل أكثر قدرة على الاستيعاب كان أكثر تمثلاً وفهماً للخبرات التي يواجهها.

فإذا أمسك الطفل بعصاه فسيستوعبها من خلال عملية القبض، وسيحيلها إلى شيء يمسك. أما عملية التواؤم فيشير إلى الطريقة التي يعيد فيها الطفل تشكيل أسلوبه السلوكي فهي عملية عكس الاستيعاب وتتضمن تأثير البيئة ذاتها على الطفل.

إنّ عملية إدراك ودمج الخبرات البيئية كما هي في ذاتها، ففي حين يستوعب الطفل العصا يقوم أيضاً وفي الوقت ذاته بالتواؤم معها، أي إنّ خطة المسك يجب أن تتكيف مع وزن وحجم وطول ومادة هذه العصا.

ينعكس النمو العقلي للطفل من خلال تعقيد بنيته التخطيطية، أي القدرة على إيجاد العلاقات المتّسقة بين الأشياء، وتتأثر هذه البيئة بتنوع الموضوعات المتوافرة له للقيام باستيعابها، والتي تنتج تلقائياً عملية التواؤم، فإذا لاحظنا الطفل وهو يلعب بالمعجون أو المكعبات الخشبية فسنجد أنّ عملية التواؤم مع طبيعة هذه المواد في حدودها الدنيا، بينما نجد عملية الاستيعاب في حدودها القصوى، لأنّه يستطيع تشكيل هذه المواد بالطريقة التي يريد.

أمّا إذا لاحظنا الطفل وهو يستخدم مضرب الكرة فسنجد أنّه يقوم بتوازن مختلف، بناءً على تقليد الراشدين، ويكون التواؤم وهو ما يقوله أو يفعله الراشدون في حده الأقصى، بينما يكون الاستيعاب في حده الأدنى.

 

التطوّر العقلي المعرفي:

يقسم بياجيه النمو العقلي إلى أربعة مراحل، بيد أنّ هذا التقسيم عشوائي، لأنّ النمو عملية متصلة ومستمرة، ومع ذلك يمدنا هذا التقسيم بطريقة مناسبة للوقوف على تغيّرات الذكاء والتفكير أثناء النمو.

ويقاس نمو التفكير بالاستخدام المتزايد لعملية التواؤم، أي بالقدرة على تغيير الاستراتيجيات القديمة، أو إيجاد استراتيجيات جديدة لحل أو معالجة المشكلات غير المألوفة، وإنّ مرونة التفكير هي مفتاح هذا المفهوم (الذكاء).

·      يمر النمو العقلي للطفل منذ ولادته وحتى نضجه بأربع مراحل رئيسية متمايزة، وبالرغم من ارتباط هذه المراحل بمدى عمري تقريبي إلا أنّها تحدث بطريقة ثانية، وتظهر عند الطفل عاجلاً أم آجلاً، بحيث تعتمد في ذلك على فردية الطفل.

ومن المستحسن أن نفكر في هذه المراحل من حيث العمر العقلي للطفل وبغض النظر عن عمره الزمني الحقيقي، لأنّ بعض الأطفال دون الأسوياء لا يصلون مطلقاً إلى مستويات النمو العقلي العليا.

 

المرحلة الأولى: الذكاء الحسي الحركي:

تستمر منذ الولادة وحتى نهاية السنة الثانية تقريباً، وهي المرحلة التي يتأسس فيها التفكير حيث يتعرّف الطفل أثناءها على الظواهر الأساسية للعالم المحيط به.

ولا يدرك الطفل في بداية هذه المرحلة وجود عالم خارج عنه، لأنّه لا يعرف إلا مشاعره الخاصة به فقط. ويدعو "بياجيه" هذه الحالة بالتمركز حول الذات، ويبدو الرضيع أثناء هذه المرحلة مخدوعاً ومسروراً لتمكنه من بعض الاستجابات البسيطة، كالتقاط بعض الأشياء وقذفها، أو القيام ببعض الأصوات والحركات المختلفة.

ويتبدى ذكاء الطفل في هذه المرحلة من خلال أعماله، ويتسمّر تفكيره عموماً بالحدس والانفعال، ويعالج الخبرات بطريقة بدائية وانطباعية، حيث لا يمكن تكوين المفاهيم أو الأفكار.

ويبيّن "بياجيه" أنّ ابنته لم تكن قادرة قبل الشهر الثامن عشر من عمرها على الالتفات حول المقعد لتناول الكرة التي تدحرجت واستقرت تحته، لأنّها قبل هذا السن لا تمتلك التنظيم الحسي الحركي، الذي يجعلها قادرة على الإدراك بأنّ الممر الكائن خلف المقعد يمكن أن يؤدي إلى المكان الكائن تحته، حيث كانت تعتقد قبل هذه السنة أنّه لا يمكن الإيتان بالكرة إلا عبر الطريق الذي اختفت من خلاله.

ويرى "بياجيه" أنّ الطفل غير قادر على تكوين مفهوم بقاء الأشياء قبل أن يمتلك هذا النوع من التنظيم الحسي الحركي، ويزداد اهتمام الرضيع لدى تقدمه في السن بالتجارب الفعّالة، ويحاول معرفة كافة المظاهر المختلفة للأشياء التي يعالجها نتيجة حبه للاستطلاع والاستكشاف، ويحقق أهدافه باستخدام طريقة المحاولة والخطأ، ويُكوِّن في الشهر الثامن من عمره عدداً من العمليات الفكرية الأولية، إذ يستطيع تقليد شخص ما غير موجود، وهذا يعني ظهور الذاكرة، كما يبدي نوعاً من الذكاء الاستبصاري بحيث يلجأ مثلاً إلى استخدام العصا لتناول لعبة لا تصل إليها يده.

ويبدأ الطفل في المرحلة الحسية الحركية بتمييز بعض الجوانب المعينة من البيئة، إذ يدرك بعض الصفات الخاصة بالأشياء كالوزن والحجم واللون... إلخ، كما يدرك ثبات هذه الصفات على الرغم من تغير درجة الإضاءة أو المكان أو المسافة، والتي تجعل الأشياء تبدو وكأنها مختلفة، لهذا يتعلم في هذه المرحلة بقاء الأشياء على الرغم من اختفائها أو عدم رؤيتها.

فعندما يضع الوالد الكرة  تحت الوسادة أو يعطيها بقبضته، فلن يعني ذلك للطفل أنّها اندثرت أو فقدت ماهيتها، حيث مازالت باقية هناك.

ويتعلّم أيضاً الارتباط القائم بين الرموز والأشياء، الأمر الذي يزوِّده بقدرة أولية لتمثُّل العالم داخلياً، وهو يستطيع من خلال هذه الرموز الأولية تَمثُّل الأشياء والحوادث التي لم تتحقق على المستوى الواقعي بعد، لأنّه قادر على التفكير فيها.

ويتعلّم تدريجياً أنّ العالم يتضمّن الآخرين، وهو مختلف عنهم، وعليه أن يتكيف مع نشاطاتهم، ويُكَوِّن الطفل في سن الثانية فكرة أولية عن الزمن.

 

المرحلة الثانية: مرحلة التصوُّر:

وهي مرحلة التصور قبل الإجرائية، وتستمر من السنة الثانية حتى السابعة تقريباً، وتتميز هذه المرحلة بنمو الأفكار الرمزية، واللغة أي (تكوين الرموز ثمّ المفاهيم) – التي تسيطر على حياة الطفل العقلية.

ويمكن تمييز نوعين من الكلام أو المحادثة لدى بَدْء الطفل بالنطق. فهناك اللغة المتمركزة حول الذات واللغة الاجتماعية.

ويرى "بياجيه" أنّ الطفل لا يهتم بالمستمع أو المخاطب عندما يتحدث باللغة المتمركزة حول الذات؛ لأنّه غير قادر على فهم وجهة نظر الآخر، بينما يستطيع القيام بذلك أثناء استخدامه للغة الاجتماعية.

يقسم "بياجيه" المرحلة ما قبل الإجرائية إلى مرحلتين فرعيتين:

الأولى: مرحلة ما قبل المفاهيم، وتستمر حتى الرابعة، ويتعلم الطفل خلالها الاستخدام الأساسي للغة للقيام بالاتصالات البسيطة، كما يتعلم البحث المستمر لاكتشاف رموز جديدة، بيد أنّه حتى الآن لا يمكن تنظيم أفكاره في قواعد أو مفاهيم، ويرتكب الطفل في هذه المرحلة عدداً من الأخطاء المنطقية، فهو يعتقد مثلاً أنّ الآخرين يرون الأشياء بالطريقة ذاتها التي يراها بها.

أمّا المرحلة الفرعية الثانية، فهي مرحلة التفكير الحدسي ويعالج الطفل أثناءها المشكلات المتعلقة بتفسير البيئة ويستخدم اللغة على نحو أكثر دقة وتعقيداً، بيدَ أنّه يدرك العلاقات على نحو حدسي لأنّه لا يستطيع إدراك الأسباب الحقيقية، ومازال حتى هذه المرحلة غير قادر على تكوين المفاهيم الحقيقية، وغير قادر على التفكير المنطقي أو استنباط العلل والبراهين المتسقة والمترابطة.

وعلى الرغم من قدرة الطفل على المرحلة ما قبل الإجرائية على تصور الحوادث، إلا أنّه لا يستطيع التمييز بين العام والخاص. فإذا شاهد الطفل نسقين من الخرز يضم كلّ منهما أربع خرزات، وكانت المسافة بين خرزات أحد النسقين أكبر من المسافة بين خرزات النسق الآخر فسيعتقد في هذه المرحلة أنّ النسق ذا الخرزات المتباعد يضم عدداً أكبر من الخرز.

وإذا وضعنا في كأس طويل كمية من الماء كانت موجودة في كأس أقصر وأعرض، فسيقول بأنّ كمية الماء الموجودة في الكأس الطويل أكبر من الكمية التي كانت موجودة في الكأس الأقصر والأعرض.

 

المرحلة الثالثة: مرحلة التفكير الإجرائي المادي:

وتستمر من السابعة وحتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة تقريباً. يبدأ الطفل في هذه المرحلة برؤية الأشياء من خلال منظور مختلف، فقد اكتسب بعض المفاهيم التي تتضمن علاقات معقدة، كما أصبح قادراً على التطور العقلي لسلسلة الأحداث.

يملك الطفل في هذه المرحلة قدرة عقلية على تنظيم الخبرة وربطها بالكلّ المنظم، ولكن لا يستطيع تحقيق هذه القدرة إلا من خلال الموضوعات المادية التي تشكل جزءاً مألوفاً من بيئته. فهو يعالج المعلومات بطريقة موضوعية أكثر منها ذاتية، ويقوم بعملية تحليل وتركيب المعلومات والخبرات، ويربطها بالخبرات السابقة.

ويستطيع الطفل في هذه المرحلة تخطيط الاستراتيجيات لحل المشكلات، كما يستطيع كف السلوك الذي لا يرتبط بها.

لقد أثارت هذه المرحلة اهتمام العديد من الباحثين المعاصرين، لأنّ بعض المفاهيم الأساسية كمبدأ حفظ الطاقة أو المادة تتكون في هذه المرحلة.

 

المرحلة الرابعة: مرحلة التفكير الشكلي الافتراضي:

وتمتد من الحادية عشرة أو الثانية عشرة وتستمر حتى الخامسة عشرة تقريباً.

يستطيع الطفل في هذه المرحلة التعامل مع الأفكار المجردة دون اللجوء إلى الموضوعات المادية، كما هو الحال في المرحلة الثالثة.

ويبدأ بالتحرر العقلي من خبراته الخاصة، ويغدو قادراً على التفكير الافتراضي العام بحيث يضع الفروض، ويستنبط النتائج فكرياً كما تصبح لغته راسخة ومتنوعة وشاملة، ويستفيد من أفكاره الخاصة وأفكار الآخرين.

لقد أصبح عالمه أكبر وأغنى، ويستطيع البحث عن مزيد من المعلومات لأنّه قادر على تركيب ودمج العديد من المعلومات المتباينة، إذ يستطيع استنتاج المعلومات المعقدة حول العالم، كما يستطيع دمج وتركيب الأفكار المجردة بالقدر ذاته الذي يستطيع فيه معالجة الخبرات المادية. إنّ هذه المرحلة مسؤولة عن التفكير المجرد المحض.

إنّ التعلم والتدريب ضروريان من أجل نمو التفكير المنطقي، وهذا التفكير ليس سمة فطرية، بل يعتمد على الإثارة البيئية المناسبة، كما يعتمد على عمليات النمو الطبيعي أو النضج.

إنّ التفكير المنطقي شرط أساسي هام من شروط التكيف مع الحياة، ومحك حيوي للصحة النفسية. وهناك ما يدل على أنّ الطفل يحصل على أعلى درجات الذكاء وسطياً من أواخر مرحلة الطفولة أو بداية المراهقة، وهذا يعني أنّ الذكاء ينمو على نحو مستمر ومتزايد خلال الطفولة. إلا أنّ هذا النمو يتباطأ منذ الثالثة عشرة ويغدو ثابتاً تقريباً في حوالي العشرين.

لقد افترض علماء النفس منذ سنوات عديدة أنّ نسبة الذكاء ثابتة خلال مراحل نمو الطفل المختلفة، بيد أنّ بعض الدراسات قد بينت خطأ هذا الافتراض إذ اتضح وجود بعض التغير في الذكاء أثناء النمو.►

 

المصدر: كتاب الذكاء/ أنواعه واختباراته

ارسال التعليق

Top