• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العلم.. للحياة

العلم.. للحياة

◄لا يستطيع المرء أن يعرف أثر العلم في حياة البشر على اختلاف المستويات، وتنوع المجالات، إلا إذا قارن بين عالم متبحر، وبين أمي نشأ في أحد الأدغال بعيداً عن أي منفذ معرفي؛ لا شك أنّه سيجد أن ما يفرق بينهما أكثر مما يجمع، كما أنّه سيجد أن عيش هذين الرجلين في منزل واحد يكاد يكون مستحيلاً.

 إنّ القرآن الكريم قد ألقى الضوء على كثير مما يتعلق بالعلم: فضله ومشكلات تزييفه وزغله، وحدود الثقة به وغير ذلك؛ لينبهنا إلى الملابسات التي تصاحب هذا العامل الخطير في توجيه حياة الإنسانية وتطويرها.

يقرر القرآن الكريم أن أصحاب العقول السليمة هم القادرون على استيعاب الخبرة والاتعاظ، وأخذ العبرة: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 9). والعلم بحر لا ساحل له، ولا يستطيع أحد الاستحواذ عليه، فهناك دائماً من هو أكثر إحاطة به: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف/ 76). ويشجع القرآن الكريم (المعرفة الخاصة)، ويحث الناس على أن يعودوا في كل علم إلى أهله، فحين أنكر مشركو قريش نبوة محمد (ص) وقالوا: (الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلا بعث ملكاً – أنزل الله – سبحانه قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) (النحل/ 43-44)، أي: اسألوا يا معشر قريش العلماء بالتوراة والإنجيل يخبروكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً إن كنتم لا تعلمون ذلك.

ويحذِّر الله – جلّ وعلا – رسوله من الركون إلى أهواء الناس، والإعراض عما أكرمه الله به من العلم: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) (البقرة/ 145)، ويقرر القرآن حقيقة كبرى، هي أن أكثر الكفار إنما أعرضوا عن إتباع الحق بسبب عدم توفر العلم لديهم: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء/ 24). وهذا يلقي مسؤولية عظمى على أُمّة الإسلام، حيث إن عليها إيصال الحق إلى الناس ودعوتهم إليه.

وأشار القرآن الكريم إلى أن من زغل العلم اغترار الناس بما أوتوه منه؛ مما يدفعهم إلى إنكار نعم الله عليهم، يدفعهم إلى إنكار ما جاء من الوحي: (فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 49).

وهذا قارون لما وعظه قومه بالإحسان واستخدام ثروته في مرضاة الله يقول: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص/ 78).

 

ويلمح القرآن الكريم إلى محدودية علم البشر وعجزهم عن رسم الأهداف الكبرى للحياة، لكن الجاهلية يظنون غير ذلك: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (النجم/ 29-30).

ويلفت القرآن الكريم نظرنا إلى أن من زغل العلم الاشتغال بنقله دون الاهتمام بتدبره والاستنباط منه: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) (البقرة/ 78).

قال بعض المفسرين: الأماني هنا: التلاوة والقراءة، فهم كالأميين في عدم الانتفاع من العلم، حيث لا يعرفون من الكتاب إلا سرده دون تفكر.

إنّ مزيداً من التأمل في الكتاب العزيز، سوف يجعلنا ننتهي إلى رؤية شاملة لكل ما يتعلق بالمعارف والعلوم من مزالق وملابسات خطيرة.

 ولعلنا نستعرض بعد هذه المقدمة بعض الجوانب التي تتعلق بوجوه جعل العلم أداة نافعة لتحسين نوعية الحياة، والارتقاء بالإنسان، وذلك من خلال الحروف الصغيرة الآتية:

   

1- لماذا نتعلم؟

إذا كانت الوظيفة الأساسية للإنسان في هذه الحياة هي تحقيق العبودية لله – تبارك وتعالى – وما يتبع ذلك من شروط ومكملات – فإن كل علم يتعلمه الإنسان، وكل تقدم تقني يحرزه، ينبغي أن يساعده على القيام بواجبه وتأدية رسالته على الوجه المطلوب. هذه الرؤية الإسلامية، تكوِّن إطاراً نظرياً لحركة العلم واهتماماته وأهدافه، وإن كل الإطلاقات يجب أن تفسر في ضوء هذا المفهوم.

إنّ العلم نمط فرعي من فروع كثيرة، ولذا فإن بإمكان الناس أن يستخدموه أداة للخير وأداة للشر؛ ويمكن أن يوظف في إعمار الحياة الإنسانية كلها، كما يمكن أن يكون أداة لهدمها بحسب الوضعية العامة لمن يستخدمه. إنّ الإنسان هو الذي قام بتطوير العلوم وإنضاجها، لكنه لا يستطيع السيطرة عليها، ولا توجيهها على نحو دائم، وحين تخرج إلى العلن، يصبح سحبها، أو التراجع عنها أمراً مستحيلاً؛ ولذا فإن بإمكان بعض الأشرار – وهم كثر – أن يوجدوا للمعارف من التطبيقات ما يضاد مرادات أصحابها الأوّل وأهدافهم، ورؤيتهم العامة للحياة. إننا نملك الجرأة على القول: إن فقد الإنسان لأهدافه الكبرى وغاياته النهائية، قد جعله يفقد السيطرة على أشياء كثيرة، ومنها (العلم).

 

إنّ أهم سمة للعلم الصحيح أن يجعل صاحبه أكثر خشية لله – تعالى – (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، كما أنّه يساعده على معرفة (الحق) والاهتداء إلى الطريق الأقوم: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ/ 6).

 

2- العلم بين ترسيخ الثقافة وغربلتها:

الثقافة هي: ذلك النسيج المعقد من العقائد والمبادئ، والأفكار والنظام والآداب والأخلاق والعادات والتقاليد، وما يشكل خلفية تاريخية لكل ذلك. إن كل شبر في الأرض يقطنه ناس، مشحون بثقافة ما. وإنّ الناس يتشربون أكثر قيمهم الثقافية دون وعي منهم، وهم لا يستطيعون التفريق في كل موقف بين ما هو مركزي في ثقافتهم، وبين ما هو هامشي، كما أن قدرة السواد الأعظم منهم على اكتشاف الزيف والتشويه في ثقافتهم، محدودة جدّاً.

البنية الثقافية لدى أي أُمّة، ليست ثابتة، ولا نهائية، فمكوِّنات النسيج الثقافي متعددة، وبينها علاقات تأثر وتأثير على نحو متواصل، كما أن حاجات الأُمّة والظروف التي تمرُّ بها تمنح ثقافتها نوعاً من التجدد المستمر.

إنّ ذوي الثقافة العليا في الأُمّة، هم وحدهم الذين يدركون الذاتية الثقافية للأُمّة، فمن خلال معرفتهم بأصولها الكبرى، وخبرتهم بمفاصل تطورها، وعبر مقارنتهم لها بثقافات الأُمم الأخرى، يضعون أيديهم على ما ينبغي أن يستمر من معالم تلك الثقافة، كما يلمسون الأجزاء المعطوبة فيها، فيعملون على تنقية الثقافة منها.

إنّ الأُمّة بحاجة إلى ترسيخ عدد من القيم التي تمثل جزءاً مهماً من منهجيتها العليا، وتلك التي يحتاجها النهوض الشامل الذي تسعى إليه، من نحو: الإخلاص والصدق والنزاهة والتشاور والعدل والحرِّية والإنصاف وحفظ الحقوق والتعاون والتفتح والدقة والجدية والإيثار وسعة الفهم والمثابرة والمرونة... ومهمة الرسالة التعليمية والتربوية أن تؤكد هذه القيم، وتفضح الممارسات التي تناقض مدلولاتها.

إنّ المجتمع العلمي ليس ذلك الذي يشيد المدارس والجامعات، وينشر الكتب، وإنّما ذلك المجتمع الذي يصوغ حياته اليومية ونظمه وأعرافه وفق المعارف والآداب التي يلقنها لأطفاله في المدارس.

 

3- تحسين نوعية الحياة:

في كثير من الآيات والأحاديث يقترن الإيمان بالعمل الصالح؛ حيث إن تجسيد الرموز، لا يتم إلا من خلال الأعمال والمواقف؛ ولذا فإنّ المسلمين انطلاقاً من روح الإسلام كانوا أول من خرج على أدبيات المنطق اليوناني الذي كان يعادي التجربة، فوضعوا أصول المنهج التجريبي، ونهضوا بجوانب الحياة العمرانية كافة، وقد حاولوا التعرف على (حجر الفيلسوف) والاهتداء إلى كيفية تحويل المعادن الأساسية إلى ذهب، وفي سعيهم إلى ذلك الهدف كشفوا عن كثير من الحقائق في الكمياء.

واليوم فإنّنا بحاجة ماسّة إلى أن نمعن النظر في واقعنا، ونحاول استيعابه من خلال قيمنا وتجربتنا الإنسانية الواعية، وتوجيه مناهجنا الدراسية في اتجاه معالجة مشكلاته، والارتقاء به.

إنّ المهم اليوم ليس أن يحفظ الطلاب لدينا بعض المعلومات وبعض التواريخ، وإنما المهم أن نوجد المنافذ العملية التي تمكن الطلاب من فهم حقيقي للغايات التي تعلموا من أجلها، ولن يكون ذلك واضحاً ومقنعاً ما لم يعرف الطالب كيف سيستخدم المعارف التي تعلمها عند الحاجة إليها، وكيف يستفيد منها في مواجهة تحديات الواقع، والارتقاء بنفسه. وهذا يعني أنّ الحاجة قائمة إلى نوع من (البيان العملي) لكثير مما يتعلمه الأولاد في المدارس.

إنّ مقولة (العلم للعمل) ومقولة (من الجامعة إلى المصنع) بحاجة إلى نوع من التطوير اليوم؛ حيث من المهم أن يُعد الطالب إعداداً يمكنه من تأسيس حياة أفضل له ولأسرته، وذلك من خلال إعداده روحياً وخلقياً وعلمياً ومهنياً واجتماعياً؛ لأن يكون عضواً صالحاً وفعّالاً في مجتمعه، أي رفع درجة وعيه العام لمتطلبات العيش في هذا الزمان، وما يستدعيه من إرادة وعزيمة وأهلية.

إنّ إعداد الشابِّ ليكون إنساناً منتجاً فحسب، قد يفيد في تحسين وضعه المادي، لكن الواقع أنّ (الحياة الطيبة) لا تولد من رحم الرخاء المادي وحده، وإنما من قيام المرء بأداء واجباته، ومن سلامه مع نفسه، ومن خاصية الانسجام والتوازن بين المطالب الروحية والمادية.

إنّ تحسين نوعية الحياة، لا يتم إلا من خلال تعميم (ثقافة) تحمل في طياتها ما ينهض بحياة الناس، وذلك من خلال تيسير سبل التعلم والتثقف والاطلاع للجميع. وفي هذا السياق، فإن ما قامت به دول السوق الأوربية المشتركة، شيء يدعو إلى الإعجاب؛ حيث أنجزت مشروعاً عملاقاً كلَّف خمسة مليارات وحدة نقد أوربية حيث وصلت بين المكتبات الأوربية عن طريق شبكة (الإنترنت) لجعل مليارين ومائة مليون كتاب (!) رهن إشارة طالبي المعرفة. ويقوم على هذه الشبكة جيش من المتخصصين يبلغ عدده ربع مليون شخص. وقد ذكرت بعض الإحصاءات أن 23% من شعوب دول السوق يسعون إلى هذه المكتبات للاستفادة منها بصفة منتظمة. إلى جانب تعميم المعرفة، فلابدّ من أن نركز اهتمامات الناشئة على النظر إلى المستقبل، وتزويدهم بالأفكار والمعارف التي تساعدهم على فهمه والاستعداد له. إن بعض البلدان الإسلامية يتضاعف سكانه كل اثنتي عشرة سنة مرة، وهؤلاء القادمون الجدد، بحاجة إلى أن يُستوعبوا نفسياً واجتماعياً، وهم بحاجة إلى توجيه وتعليم وسكن وخدمات وفرص عمل... ولكل هذا تكاليفه ومتطلباته واستعداداته. ومع أنّ الأطفال والشباب ينتظرون كل هذا من الكبار؛ إلا أنّ الصحيح أن على الناشئة أن يعدوا أنفسهم لمزيد من الاعتماد على النفس، والقيام بشؤون الذات؛ مما يعني أنهم أيضاً في حاجة إلى مزيد من التوعية والإرشاد والتأهيل لخوض غمار عصر، يزداد العيش الكريم فيه صعوبة ومشقة!

 

4- ترشيد ردود الأفعال:

إنّ عصرنا هذا هو عصر المشكلات والتحديات الكبرى، وهو كذلك عصر الفرص والإمكانات الهائلة. والمأزق الذي ظل يواجه الناس، هو إدراك المشكلات بحجمها الطبيعي، وتلمس المنهجيات والفرص والإمكانات المتاحة لحلها. وهنا تظهر قيمة ما يقدمه العلم في شقي المشكلة. إن إدراك الواقع على نحو دقيق لا يتم على نحو مباشر، وإنما من خلال (وسيط معرفي) مكوَّن من المبادئ التي نؤمن بها، ومن طريقة نظرنا إلى الأمور، إلى جانب المعطيات والمؤشرات والمعلومات التي تحصلت لدينا عن الواقع الذي نريد معرفته.

وما يقدمه (الذكاء) والتفوق العقلي في موضوع فهم الواقع ومعالجته ضئيل بالنسبة إلى ما تقدمه الخبرة المتراكمة والتجربة.

ومن الواضح أنّ المجتمعات التي يسود فيها التجريب، ويتجه العلم فيها إلى معالجة المشكلات التي يعاني منها الناس، استطاعت أن تتفهم واقعها على نحو أفضل من تلك التي شغلت نفسها بتفسير الماضي ومديح الذات، وتمثل المشكلات عن طريق التأمل والخيال عوضاً عن المسح والإحصاء!

إنّ مهمة العلم لا تقتصر على رسم الفضاء النظري لأشكال المبادرات الفردية والاجتماعية فحسب، وإنما تتجاوز ذلك إلى منحنا محددات لماهية (ردود الفعل) على مجمل التحديات التي نواجهها، ولكن ذلك لا يأتي عفواً، وإنما من خلال ولاء تام للمنهج العلمي، ومن خلال إرادة صلبة لمقاومة (الزيف) الذي يمكن أن يتسرب إلى تصوراتنا وسلوكاتنا.

إنّ السمة العامة لردود الأفعال هي فقد التوازن والانضباط، حيث تفقد في أكثر الأحيان روح المبادرة والروية. وكثيراً ما نواجه نحن وغيرنا التطرف بتطرف آخر، ولكن في اتجاه معاكس، فقد تأتي موجة متطرفة في الاهتمام بـ(المادة)، فيرد عليها بموجة أخرى متطرفة في الاعتداد بالمسائل الروحية، وإهمال شؤون الدنيا. وتجتاح المجتمعات موجة من الفقر والحرمان، فإذا أصاب الناس شيئاً من الرخاء، لم يحسنوا الاستفادة منه، وإنما يميلون إلى الإتفاق دون حساب وتفكر في كيفية التعامل مع ما بعد الرخاء وهكذا...

إنّ علينا أن نتساءل دائماً: ما قيمة الأفكار والآراء التي نملكها إذا لم نستطع توظيفها وجعلها أدوات للبحث عن حلول للمشكلات الأخلاقية والمعيشية التي تطحن الناس لدينا، وتتسبب بما لا يحصى من أشكال المعاناة اليومية؟

هناك بلاد إسلامية، تعاني من سوء الأحوال الطبيعية من زلازل وفيضانات وأعاصير، وأخرى من شح الغذاء والماء، وثالثة من الأمية... وإذا نظرت إلى مناهج التعليم فيها، فإنك تجد أنها لا تقدم أي إسهام في زيادة الوعي بحجم تلك المشكلات، وتنظيم ردود أفعال إيجابية حيالها!

الدول المتقدمة تفعل شيئاً مختلفاً؛ فاليابان تقدم نموذجاً راقياً لما يمكن أن يفعله شعب في مواجهة بيئة طبيعية غاية في القسوة؛ فضيق المساحة الصالحة للسكن، دفع اليابانيين إلى إنتاج الأشياء الصغيرة الحجم. والخوف من العزلة، أدى إلى تطوير وسائط الاتصال. وقلة مصادر الطاقة إلى البحث عن بدائل إعلامية للانتقال. وتواتر الهزات الأرضية إلى تطوير أشياء خفيفة الوزن سهلة النقل، قليلة الكلفة، سهلة التبديل.

وأخيراً لقد تعلمت اليابان من تاريخها الطويل المتميز بالعنف كيف تدير التبدلات بطريقة ناجعة؛ فهم يطورون ببطء ما يحتاج إلى تطوير؛ لأنّه يحتاج إلى حصول التوافق بين جميع المراجع المعنية، ولذلك يكون تاماً عندما تصبح الظروف مهيأة لتنفيذه. وقد تم كل ذلك بمؤازرة تامة من التعليم العام والمهني.

وتقدم الولايات المتحدة نموذجاً آخر لما يمكن أن يقوم به التعليم في مواجهة الحالات الطارئة، فحين وقعت أزمة إمدادات النفط عام 1973م، وتعرضت أمريكا للحظر النفطي، سارعت السلطات هناك إلى الاهتمامات بالطاقة ذاتها، وبتدريسها؛ وقد كانت الأهداف من تدريس الطاقة ما يأتي:

- تعليم كيفية التعامل مع منجزات الطاقة داخل المنازل.

- تعليم كيفية تركيب أجهزة الطاقة الشمسية.

- تعليم كيفية زيادة فعالية الطاقة في بعض الأجهزة والمعدات، مثل ضبط السيارات والمكيفات.

- تعليم كيفية استهلاك الطاقة وإدارتها اقتصادياً في المدارس والفنادق والمصانع.

- تعليم كيفية اختيار مواقع المباني الجديدة، بحيث تستفيد أقصى فائدة من الشمس.

 

- تعلم علوم الطاقة وتقنياتها.

- تعلم كيفية الاستفادة الواعية من الطاقة.

ويضاف إلى هذا تحديد سرعة السيارات والطائرات بحيث يكون استهلاكها للوقود إقتصادياً. إنها مجموعة من الحلول المركبة لمواجهة أزمة طارئة! ولك أن تقارن هذا مع مواجهة مشكلات الطاقة التي يعاني منها العديد من الشعوب الإسلامية، وتدفع فيها جزءاً مهماً من ناتجها الوطني، حيث لن ترى أي شيء مما ذكرناه؛ إنّه نوع من الاستسلام للمشكلات عوضاً عن تثقيف الناس بالطريقة الصحيحة للتخلص منها أو الحدّ من آثارها!

 

5- تنامي الحاجة إلى المعرفة المتخصصة:

هناك تدفق معلوماتي، يفوق كل وصف، وهو في نمو مطرد، وأصبح الإنسان العادي محاصراً بفيض من المعلومات والمعارف والأخبار والتقارير المنوعة، وكلها تتسم بسمة واحدة، هي (التشظي) والتناثر؛ حيث إنّ السواد الأعظم منها، مقطوع عن سياقاته المعرفية، وبعيد عن الحصيلة المعرفية النهائية للمتلقي؛ فإفلاس (مصرف) وموت رسام في أقصى الدنيا والكشف عن قرية أثرية في أستراليا... كل هذه الأخبار، وما شاكلها تطرق أبوابنا في كل الأوقات، وكل هذه المعلومات، لا تهم إلا عدداً محدوداً قد لا تصل نسبتهم إلى واحد في الألف من المتلقين. ولا تأتي المشكلة الأساسية في هذا من هدر الوقت والمال، وإنما من تسطيح أفكار الناس ومعارفهم، وإضعاف قدرتهم على التمييز؛ فالمعلومات التي تنتمي إلى حقول معرفية متباعدة، تتقاطع، وتتصادم، ولكثرتها فإنّها تجعل البنية العقلية لدى الشخص العادي عاجزة عن استخلاص أي شيء كلي.

ولا ريب في أن هذه الوضعية المعرفية، ترفع من درجة الوعي العام، إلا أنها تعطي انطباعات مشوَّشة، وهذا ما نلمسه اليوم عند مناقشة أيّة قضية محددة مع أولئك الذين يتعرضون لسيول المعارف العامة.

إنّ التخفيف من هذه المشكلة والاستفادة من المعرفة الضخمة المتاحة قد يكمن في الاتجاه إلى (المعرفة المتخصصة) على مستوى التكوين، وعلى مستوى الإنتاج والنشر والتسويق.

أما على مستوى التكوين فإن بإمكان كل واحد منا أن يهتم بقضية من القضايا التي تؤثر في مجرى الحياة العامة، أو تدفع بجانب من جوانب المعرفة خطوة إلى الأمام. وهذا يقتضي أن يبذل من يريد ذلك ما لا يقل عن نصف وقت تثقفه في استكناه أبعاد القضية التي اختارها، على نحو يمكنه من تقديم رؤية ناضجة وشاملة حولها.

 

ولا فرق بين أن تكون تلك القضية جزءاً من تخصصه في دراسته المنهجية، وبين أن تكون منتمية إلى تخصص آخر.

ولا ريب أن خروج المرء عن تخصصه الأساسي، يحتاج إلى نوع من إعادة التأهيل المعرفي، وفي ذلك مشقة ومعاناة، لكن هناك ظروفاً كثيرة تفرض ذلك، وتستدعيه؛ ولا بأس في ذلك ما دام سيقدم للناس معارف وأفكاراً، هم بحاجة إليها.

هذا التوجه نحو تعميق المعرفة والاهتمام بأشياء صغيرة ومحددة، سيوجد لدينا تياراً قوياً وهادراً من المعارف المتقنة والأصيلة والناضجة، وسوف يوجد هذا التيار لنفسه في النهاية الوسائل والأطر التي تعبر عنه، وتوصله إلى المتطلعين إليه والراغبين فيه.

إنّ مشكلة المعارف المختصصة أن قواعدها من القراء، تكون غالباً محدودة؛ مما يجعلها عاجزة عن تغطية نفقات صناعتها ونشرها، لكن هناك اتجاهاً عالمياً نحو التركيز في العلوم والمعارف، حيث إنه السبيل الوحيد للتقدم بها، وتطويرها. ويذكرون على سبيل المثال أنّه يصدر في الولايات المتحدة ما يقارب عشرة آلاف مجلة، منها ثمانية آلاف للمعرفة المتخصصة. كما يذكرون أنّه على حين يتراجع توزيع الصحف العامة في فرنسا بنسبة 3% سنوياً، فإن توزيع المجلات المتخصصة ينمو بنسبة 1%.

إن مما يثير الأسى أن كثيراً من المحطات الفضائية والمجلات والإذاعات... لا يؤدي رسالته في النهوض بالأُمّة، وتثقيف الناس بواقعهم ومشكلاتهم وواجباتهم، وإنما يقوم عوضاً عن ذلك بتقديم فنون التسلية المباحة والمحرمة؛ مما يشغل الأوقات، ويزيد في هلامية الثقافة، وفي فراغ الروح، وإرباك الإحساس بالحاضر والمستقبل!!

إنّ كل مؤسسة علمية، وكل جهة حكومية أو أهلية، وكل منظمة أو هيئة بإمكانها أن تنشئ إطاراً – ولو متواضعاً – لتقديم المعرفة المتخصصة للناس على نحو مبسَّط ومؤصل ومثمر، ولكن إذا توفر لها الإخلاص والاهتمام.

 

6- العلم السري خطر:

العلم للحياة، وحتى يخدم الحياة، فينبغي أن يكون مشاعاً بين الناس بما يلامس تطلعاتهم وحاجاتهم. وتكتسب المعارف صلابتها ودرجة يقينيتها من تداول العقول والأفهام لها، ومن عرضهاعلى محكات الخبرة والتجربة، وذلك هو الطريق الوحيد إلى نضجها واكتمالها؛ إنها تمر بعشرات العمليات الجراحية الصغرى والكبرى، من إضافة وحذف وتعديل وتحوير حتى تستوي على سوقها، ويشعر الناس بأنّها قد ركمت ما سبقها من علم، واكتسبت من المتانة ما يؤهلها لأن تكون مدماكاً في صرح المعرفة البشرية المشيد.

على مدار التاريخ، ولدى كل الأُمم ظل هناك من يزعم أن لديه معارف خاصة، يصعب على الناس فهمها، ويصعب إخضاعها للقواعد والمناهج المعرفية المعترف بها؛ فهي كالزهرة، لا تحتمل المس بالأيدي، وبالتالي فإن تداولها غير ممكن أو غير مفيد!

إن من الممكن القول: إن قوة المعرفة تكمن في إمكانية نشرها وتبليغها، وإضاءة الحياة بها. والمعرفة التي لا تقبل النشر، تفتقر في الدرجة الأولى إلى القوة والنمو، فهي كسيرة حسيرة.

المشكلة الأساسية للمعارف النظرية، التي ليس لها تطبيقات عملية، كتلك التي تتعلق بالجوانب التاريخية أو الفلسفية أو الروحية – ليست الافتقار إلى القوة، وإنّما (العفونة الداخلية) والتحليل الذاتي، بسبب عدم تعرضها للشمس والهواء، وبسبب خضوعها كلياً لرؤى أحادية ومحدودة. ولذا فإن كل المذاهب المنحرفة، نشأت في الظل، وهي دائماً تستمد استمرارها من عدم تعريضها للتداول والخبرة العامة، وذلك عينه هو عامل ضعفها وانحسارها. إنّها أشبه بعملات ونقود أثرية، ليس لها أي وزن في أسواق التبادل التجاري!

إنّ المعارف السرية غير القابلة للتطبيق، تشكل خطراً على أصحابها، وعلى عدد قليل ممن يلوذ بهم، لكن الخطر الأكبر، يتمثل في تلك العلوم والمعارف التي تتصل بالتقانة الحيوية، كتلك المتعلقة بالهندسة الجينية، وعلوم الوراثة، والأسلحة الجرثومية وعلم النفس... ونحن مازلنا نعيش الضجة الكبرى التي أثارتها بحوت وتقنيات (الاستنساخ)، وبحث العلماء حول إنتاج قنابل وأسلحة ذكية، ذات طابع عنصري، أي يمكن أن تؤثر على ذوي بشرة معينة، أو خصائص خلقية محددة... إن (تحت الأرض) الكثير الكثير من العلماء والباحثين الذين يعملون في هذه الحقول؛ ولا يمكن الحدس بحجم النتائج والأضرار التي يمكن أن تنجم عن ذلك!

إنّ تشريعات صارمة كثيرة يجب أن تُسن، وإن أعيناً كثيرة يجب أن تظل مفتوحة إذا ما أردنا الحد من الآثار السيِّئة للمعرفة السرية وبحوثها الخطرة.

وعلى خلاف ما يظن بعض الباحثين، فإنّ العلم لا يملك أخلاقية خاصة، تعصمه من أن يسلك مسالك تدمر البشرية؛ فالعلم بما هو أداة، يقبل درجات عالية من التحوير والاستغلال لأغراض تجارية بحتة ولا سيما أنّ الدنيا مليئة بذوي الأهواء الذين لا يرون إلا أنفسهم!

 

7- حاجة المثقفين إلى تفهم مطالب الأكثرية:

سيكون العلم لتحسين حياة الناس إذا استطاع الذين يمسكون بناصية المعرفة، وينتجونها، أن يتفهموا الحاجات الحقيقية للسواد الأعظم من الناس، وهي حاجات متنوعة وكثيرة.

 

وتبدأ المشكلة في أن كثيراً من المثقفين والتربويين، يتصورون مشكلات الناس من أفق الثقافة التي كونت شخصيتهم العلمية، على مستوى التخصص، وعلى مستوى الخلفية الحضارية للمؤسسات التي تخرجوا فيها. كثيراً ما يشخِّص الاقتصادي حاجات الناس من منطلقات اقتصادية بحتة، ويشخص عالم الاجتماع حاجاتهم من خلال رؤية اجتماعية، وهكذا.. وهذا التشخيص مهما كان دقيقاً، فإنّه نابع في الأصل من إحساس جزئي، ورؤية مبتسرة، لمعاناة الناس الذين يحاولون معالجة مشكلاتهم.

بعض المثقفين المسلمين درس في الغرب، وآخرون درسوا في دول تنتمي إلى المعسكر الشرقي (سابقاً)، وما درسوه لم ينطلق من رؤية حضارية إسلامية، ولا هو نابع من إدراك جيِّد لواقعنا. وهذا شيء طبيعي، لكن ما ليس طبيعياً أن يعمد أولئك المثقفون إلى اقتراح مناهج وتقنيات وحلول من تلك الدول عينها، فيحولون مؤسساتنا التعليمية إلى حقول تجارب؛ ومع كثرة المحاولات، فالنتائج تدعو إلى الإحباط!

إنّ مناهج الأُمم ونظمها التعليمية، تعبر عن رؤيتها للحياة، وعن المرحلة الحضارية التي تحياها، وهي مغايرة لما عند المسلمين. الأدوية المقترحة قد تكون ممتازة وملائمة، لكن لغير أدوائنا، وما جدوى مفتاح من ذهب إذا كان لا يفتح أقفال التخلف الذي يجثم على صدورنا؟! إنّ جودة الثوب من جودة مناسبته للابسه، وليست من لونه، ولا من طوله وعرضه. لدينا نسب عالية من الكبار والصغار، هم في عداد الأميين، وأعداد أخرى أكبر، أشبه بالأميين، وما فائدة معرفة القراءة لمن لا يفتح كتاباً؟!

هناك أعداد هائلة من الشباب المتعلم، لا يجد عملاً ولا مسكناً.. ويشعر أنّه من غير أمل ولا مستقبل، فكيف نعيد تأهيله؛ ليصبح أرباب العمل بحاجة إليه؟

هناك إلى جانب هذا وذاك أعداد كبيرة من المسلمين تفتقر إلى معرفة أبجديات الحلال والحرام والحقوق والواجبات، كما تفتقر إلى الإحساس بأهدافها الكبرى في الحياة، فكيف نثقفها بكل ذلك؟؟

ولدينا بعد كل هذا أُمّة هائلة، تشكل ربع سكان الأرض، تشعر أنها تعيش خارج التاريخ، كما تشعر بامتهان يومي لكرامتها وحقوقها، فكيف نفتح أمامها آفاق الخروج من مأزقها الحضاري؟

إنني أعتقد أن كثيراً من مثقفينا بحاجة إلى إعادة تأهيل، وإلى تثقيف جديد، يتمحور حول امتلاك رؤية شاملة ونقدية مما يجب عليهم أن يفعلوه تجاه الأميين والضعفاء والمساكين والمأزومين، والتائهين، وهؤلاء هم العمود الفقري لأُمّة الإسلامية. فكيف نساعد كل أولئك، وبأية آلية، هذا هو السؤال؟

 

8- أثر التعليم في التنمية الاقتصادية:

تقول حكمة صينية مأثورة: "إذا أردت مشروعاً تحصده بعد عام، فازرع قمحاً، وإذا أردت الحصاد بعد عشرة أعوام؛ فاغرس شجرة، وإذا أردت حصاد مائة عام، فعلِّم الشعب. فالحبوب التي تزرعها مرة تحصدها مرة، والشجرة التي تغرسها تقطعها عشر مرات، وإذا علمت الشعب حصدت مائة عام".

إنّ مما لا يخفى أنّ (العلم) يحدث نوعاً من الانقلاب الشامل في شخصية المتعلم؛ وبما أنّ الإنسان هو محور التنمية وهدفها وأداتها، فإن تغيير العلم لشخصيته أكبر من أن تترجمه الأرقام؛ حيث إنّ المنافع الحاصلة ليست اقتصادية بحتة، وإنما هي تغيير لنوعية الحياة كلها. إنّ للتعليم عطاءات كثيرة غير مباشرة؛ فهو المحرك الأكثر مصداقية للنمو، والمساعد على تغيير الاتجاهات، كما أنّه المولد للثقة في التغيير؛ وعلى ذلك فإنّه يشجع على المشاركة في الحياة السياسية، ويساعد في اختيار الصالح من الجديد، والتخلص من السيئ القديم، كما يسهم في زياة الوعي بالأفكار والخيارات الجديدة في تنظيم الحياة.

ويصف أحد الاقتصاديين الهوة الإنمائية بين الولايات المتحدة وأوربا بأنّها هوة تربوية قبل أن تكون هوة تقنية، فأوربا واهنة تربوياً، وهذا الوهن يعطل نموها تعطيلاً جذرياً، إنّها واهنة في التربية العامة، وفي التربية التقنية، وأوهن ما تكون في التربية الإدارية.

كثير من الناس ينظر إلى (التعليم) على أنّه نوع من الرفاهية، ومظهر من مظاهر الوجاهة، وكثير من الدول الإسلامية إلى هذه اللحظة، يصنف التعليم مع القطاعات غير المنتجة، مما جعلها تقطع من نفقاته في أوقات الأزمات، وتحولها إلى قطاعات أخرى!

إنّ تفاقم ظاهرة (بطالة المثقفين) قد دفع كثيراً من الآباء في بلدان كثيرة إلى إخراج أبنائهم من المدارس قبل إتمام المرحلة الابتدائية أو المتوسطة ظناً منهم أن ذلك خير لهم ولأبنائهم، وهذا ليس بصحيح قطعاً من الناحية المادية، أما من الناحية الحضارية، فإنّه يشكل مسأساة، حيث إنّ إخراج الطفل من التعليم في هذه المرحلة، سيجعله غير صالح للعيش والمشاركة على نحو مقبول في زمان يتطلب من الناشئة أن يمتلكوا عقولاً أكثر تفتحاً، ومهارات أكثر ارتقاء وتنوعاً.

إنّ هناك فيضاً من الدراسات التي تدل على أن ما يبذل من قبل الدول والأفراد على التعليم ذو مردود مالي وتنموي عالٍ يفوق المردود الذي يحصلون عليه من وراء الأموال التي تنفق في المشروعات الزراعية أو الصناعية. وسنستعرض بعضاً من تلك الدراسات والمؤشرات في النقاط التالية:

أ- إنّ التعليم هو الأسلوب الأمثل لتعويض الأُمم والمجتمعات عن نقص مواردها وثرواتها الطبيعية؛ حيث إنها تستطيع من خلال العلم والتدريب أن تجعل من بلدانها مراكز عالمية لتقديم الخدمات، وللتصنيع، وللتقدم في مجالات مربحة جدّاً، وتعتمد على العنصر البشري، ولا تحتاج إلى مواد خام كثيرة، مثل مجالات الأشعة والتحكم عن بعد و(الإلكترونيات) والمعلوماتية، والهندسة الجينية، وما شاكل ذلك... إنّ في العالم اليوم دولاً كثيراً يتمتع الفرد فيها بدخل عالٍ جدّاً مع ضيق مساحتها، وقلة ثرواتها، فمتوسط دخل الفرد في اليابان؛ يتجاوز اليوم (21) ألف دولار، وفي سنغافورة يتجاوز عشرة آلاف دولار، ونصيب كل طفل يهودي في فلسطين المحتلة نحو من (14.500) دولار سنوياً إلى جانب هذا هناك دول كثيرة، تتربع على ثروات معدنية هائلة، وشعبها يعاني مما يشبه المجاعة؛ مما يدل على أنّ المهم ليس أن تمتلك الثروات، وإنما أن تتعلم وتتدرب، وتوفر الأطر والتقنيات لاستغلالها على الوجه الأكمل.

ب- دلت الدراسات التي أجراها البنك الدولي أن رفع المستويات التعليمية للقوى العاملة، عبر فسح المجال لهم للدراسة سنة أخرى، يمكن أن يسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بما نسبته 9%. وبينت دراسات أخرى أن من شأن أربع سنوات من الدراسة أن تسهم في زيادة الإنتاجية الزراعية بنسبة 10%.

وفي دراسة حول أجور المتعلمين وغير المتعلمين تبين أنّ الأطفال من سن (13) سنة، ممن يحملون مؤهلاً تزيد مرتباتهم عن غيرهم (157%). ومن هم في سن (26) سنة، ويعملون في أعمال رسمية، تزيد مرتباتهم عن غير المؤهلين بنسبة (110%) شهرياً.

جـ- أجريت دراسات كثيرة حول حساب العائدات المتوقعة من الإنفاق على التعليم، ومن نتائج تلك الدراسات: أن تعويض الأموال التي تنفق على التعليم، يتم خلال مدة (9) سنوات أو (10) سنوات، في حين أن تعويض القروض الطبيعية التي تؤخذ من أجل التنمية، يحتاج إلى مدة تتراوح بين (12) سنة و(18) سنة، وفي حين أن برنامج استصلاح أراض جديدة لا يسد نفقاته قبل (15 إلى 18) سنة.

وهذا يعني أن استدانة الأب من أجل تعليم ابنه ليس مجازفة، كما أن إنشاء صناديق لإقراض الطلاب من أجل إكمال دراستهم أمر حيوي لا يصح تجاهله وتأخيره.

د- حظيت الولايات الأمريكية بدراسات كثيرة حول مساهمة العلم في تغيير حالها، ونقلها من دولة تعتمد على الزراعة إلى دولة صناعية في المقام الأوّل. ومن تلك الدراسات ما قام به (دنيسون) من محاولة للكشف عن حصة العلم في النمو الاقتصادي في أمريكا حيث تبين له أنّ 21% من النمو الاقتصادي الذي حدث في أمريكا بين عامي (1921-1957) يرجع إلى أثر التربية. وتبين دراسات (سولو) عن الإنتاج غير الزراعي في أمريكا بين عام (1900-1960) أن عوامل رأس المال المادي، وتزايد السكان، وتزايد منابع الثروة المادية تفسر 10% فقط من النمو الاقتصادي الذي حدث هناك، وأن ما تبقى (90%) يرجع إلى عوامل أخرى يفسرها ما ناله العنصر البشري من تربية وإعداد.

وتفيد بعض الدراسات أن 90% من الأمريكيين كانوا يشتغلون بالزراعة في بداية القرن العشرين، وقد انخفضت هذه النسبة إلى أقل من 10% في عام 1963. وبالرغم من هذا النقص الكبير في ميدان الزراعة، فإنّ الإنتاج الزراعي قد زاد زيادة كبيرة عما كان عليه بسبب تسخير معطيات التقدم العلمي والتقني في خدمة الزراعة(*).

إنّ أثر العلم في تغيير حياة الناس، مما يعسر قياسه على نحو دقيق. ويمكن أن نفهم كل ما ذكرناه من دراسات وأرقام على أنّه مؤشرات ذات معنى إلى إسهام العلم في توطيد أركان الحضارة وتحسين نوعية الحياة.

من المهم أن نختم هذا الموضوع بالقول: إنّ العلم بكل فروعه واختصاصاته ومستوياته، هو عبارة عن عنصر من عناصر البناء الحضاري، وهذا العنصر – على جلالة قدره – لا يستطيع أن ينفرد في تطوير أحوال الناس؛ إنّّه يتفاعل مع الجذور الثقافية، والأحوال المعيشية، والأوضاع السياسية... على نحو ما تتفاعل العناصر الكيميائية بعضها مع بعض؛ لذا فقد ترى كليتين متشابهتين في كل شيء إلا أن آثارهما في الحياة العامة مختلفة بسبب انتمائهما إلى مجتمعين أو بيئتين أو أمتين مختلفتين. وهذا كله يؤكد أنّ الإصلاح الشامل هو الذي بإمكانه أن ينعش التعليم وغيره.►

 

  إضاءة:

    رأس الحكمة أن نعرف ما يجول في أفق حياتنا اليومية.

 

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    - الهامش:

 (*) بحوث ندوة العالم الإسلامي والمستقبل: 802. أما اليوم فإن نسبة الذين يشتغلون بالزراعة من الأمريكيين لا تتجاوز 3%.

 

    المصدر: كتاب (حول التربية والتعليم)

ارسال التعليق

Top