• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الخوف والرجاء والزهد من خصال الإيمان

الخوف والرجاء والزهد من خصال الإيمان
بين الخوف الصادق الذي يحول بين صاحبه واقتراف ما حرّم الله تعالى، وبين الرجاء المحمود لفضل الله سبحانه وتعالى ورحمته وكرمه، يعيش المؤمن حياته، فهو إذا أذنب خاف فتاب وأناب رجاء المغفرة، وإذا عمل صالحاً رجا أن يُتقبَّل منه، وهو يزنُ كل عمل بميزان الخوف والرجاء، حتى يُقبل على الله تعالى بكل جوارحه ويصبح في الدنيا من الزاهدين. الخوف والرجاء والزهد، ثلاث خصال إيمانية تجلب الثواب وتنجي من العقاب، فَمَن خاف الله تعالى ترك معصيته، ومَن رَجَاه اجتهد في طاعته، ومَن زهد في الدنيا تفرَّغ قلبه للآخرة وعمل لها، فكان من الذين قال الله تعالى عنهم في كتابه العزيز: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء/ 57). وفي ما يلي يتناول عبدالرحمن محمد حسين عمورة، الواعظ والمفتي في المركز الرسمي في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، ثلاثاً من خصال الإيمان التي يجب على كل مسلم أن يتحلّى بها، وأن يتحراها ويتعهد نفسه بالتدريب عليها والترقي فيها. ويستهل حديثه مؤكداً أهمية الخصال الحُسنَة والأخلاق في حياة المسلم، فهي باب عظيم من أبواب الخير، لأنّها تحمل المسلم على محامد الأمور وترفعه عن سفاسفها، وقد مدح الله تعالى نبيه (ص) بقوله سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4). وقد قال (ص): "أدَّبني ربي فأحسَن تأديبي". ومن الخصال الإيمانية التي مدحها الله تعالى الخوف والرجاء والزهد. ونبدأ بالخوف والرجاء، فالخوف من الله تعالى أمر حسن يحمل العبد على الالتزام والاستقامة، ويعينه على الاستمرار فيهما، ويحثّه على القيام بحق الله تعالى وحقوق خلقه، ولكن الأفضل أن يتقلّب العبد بين الخوف والرجاء، وأن يرجح جانب الخوف في زمن شبابه والرجاء في آخر حياته، لأنّه الأفضل وفيه كمال افتقار العبد إلى رحمة الله تعالى.   - بين الخوف والرجاء: جاء عن أنس (رض) أنّه قال: دخل النبي (ص) على شاب وهو في الموت، فقال: "كيف تجدك؟". قال: أرجو الله يا رسول الله. وإني أخاف ذنوبي. فقال رسول الله (ص): "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو وأمّنه مما يخاف" رواه الترمذي وابن ماجه. ولكن إذا زاد الشيء على حده ينقلب إلى ضده، فينبغي على المؤمن أن يساوي بين حالتيه، فإذا غلب الخوف عليه خوفاً يصده عن العمل في هذه الحياة فليلطفه بالرجاء، وإذا غلب الرجاء، بحيث يحمله على انتهاك حرمات الله فليلطفه بالخوف من الله، ليرده إلى جادة التقوى والاستقامة. فقد جاء عن أبي هريرة (رض) قال: "سمعت رسول الله (ص) يقول: "إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة. فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمَن من النار". وقيل الأولى أن يكون الخوف في الصحّة أكثر، وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت، فاستحَبّ قوم الاقتصار على الرجاء، لما يتضمّن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأنّ المحذور من ترك الخوف قد تعذّر، فيتعيّن حُسن الظنّ بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظنّ بالله". وقال آخرون: لا يهمل جانب الخوف أصلاً، بحيث يجزم بأنّه آمِن، ومادام العبد يتقلّب بين الخوف والرجاء فهو على حالة يرضاها الله عزّ وجلّ، وتحمل العبد على المقاصد الحَسنَة والهُدى الصالح. أما نتائجها وثمارها العائدة على العبد نفسه والمجتمع فهي عظيمة أيضاً، حيث يحمله الخوف والرجاء على حُسن التعامُل مع الآخرين، وتَحرِّي مكارم الأخلاق ومراقبة الخالق عزّ وجلّ.   - الزهد مقام أهل اليقين: ونحنُ مازلنا نتكلم عن الأخلاق الإسلامية، التي ينبغي أن يتحلّى بها المسلم ومنها الزهد. حيث يؤكد الواعظ والمفتي عبدالرحمن عمورة، أنّ الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات أهل اليقين. والزهد عبارة عن ترك المباحات التي هي حظ النفس. ولا يبعد أن يقدر على ترك بعض المباحات دون بعض، كما لا يبعد ذلك في المحظورات، والمقتصر على ترك المحظورات لا يُسمّى زاهداً، وإنْ كان قد زهد في المحظور وانصرف عنه، ولكن العادة جرت على تخصيص هذا الاسم بترك المباحات، فإذن الزهد عبارة عن انصراف رغبة العبد عن الدنيا عُدولاً إلى الآخرة، أو عن غير الله تعالى عدولاً إلى الله تعالى وهي الدرجة العليا من درجات الزهد. وكل مَن باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا، وكل مَن باع الآخرة بالدنيا فهو أيضاً زاهد ولكن في الآخرة، ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بِمَن يزهد في الدنيا. وكما يُشترط لتحقق معنَى الزهد في المرغوب فيه أن يكون خيراً عنده، فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدوراً عليه، فإنّ ترك ما لا يقدر عليه محال، وبالترك يَتبيّن زوال الرغبة. وليس من الزهد الترك بالكلِّية وإنما يُراد أن يكون العبد مُعرضاً عن الدنيا بقلبه راغباً في ما عند الله عزّ وجلّ، وعلى هذا لا يعني الزهد الترك بالكلِّية، ولن نجد أحداً من الناس وإلا وقد أمسك من الدنيا على قدر حاجته، لكن هذا لا يعني أن نقول لست زاهداً، لأنّ الزاهد هو مَن سَعى في الدنيا وأمسك حاجته منها يمقتضي العلم، وأنفقها بمقتضى العلم، فهذا هو الزاهد. وللزهد ثلاث مراتب: الأوّل: زهد خاصة الخاصة من المحسنين: وهو كما قال أبو حامد الغزالي، رحمه الله، في إحيائه: "والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى، حتى الفراديس، ولا يحب إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق". والثاني، زهد الخاصة من المؤمنين: وهو مَن يَزهَد في نعيم الدنيا ويطمع في نعيم الآخرة، كما قال الغزالي، رحمه الله، في إحيائه: "والذي يرغب عن كل حظ ينال في الدنيا، ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة، مثل القصور والأنهار والفواكه، فهو أيضاً زاهد ولكنه دون الأوّل". والثالث، زهد العامة: وهو الذي يترك بعضاً دون بعض، كما قال الغزالي، رحمه الله، في إحيائه: "والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض، كالذي يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسُّع في الأكل ولا يترك التجمُّل في الزِّينة، فلا يستحق اسم الزاهد مطلقاً، ودرجته في الزهاد درجة مَن يتوب عن بعض المعاصي في التائبين، وهو زهد صحيح".

ارسال التعليق

Top