• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سمات القوّة المطلقة/ ج(2)

أسرة

سمات القوّة المطلقة/ ج(2)
 3- الإرتباط بالمصدر إرتباط بالقوّة العُليا: يمكنك أن تتحقّق بنفسك وبالطريقة التي تراها مناسبة، من أن ارتباطك بالمصدر، أو بالقوّة المطلقة هو ارتباط بما يلي: أ- العظيم الذي لا حدّ لعظمته وأسراره وعجائبه: إنّه العظيم الذي حدّ لعظمته ولا منتهى لأسرارها وعجائبها، التي تتجدّد في كلِّ يوم بل في كلّ لحظة من خلال قراءة متأنِّية للكون وللنفس، أو مشاهدة فيلماً من قصص الحيوان، يقسِّم علماء النفس الطاقات المعنوية إلى قسمين: (الطاقات العُليا) و(الطاقات الدُّنيا) ويرون بأنّ الطاقات العُليا هي التي ترتبط بالمصدر، وأنّ الطاقات الدُّنيا هي التي تتعلّق بالشهوات والأهواء والنّزوات والانغماس في ملذّات الدُّنيا، ويقرِّرون الحقيقة التالية: عندما تحتلّ (الطاقات العُليا) نفس مجال (الطاقات الدُّنيا)، سوف تتحوّل الطاقات الدُّنيا إلى طاقات عُليا، ويضربون لذلك مثلاً، فيقولون: إنّ الغرفة المظلمة تكون أقل طاقة من الغرفة متوهجة الإضاءة، وبما أنّ الضوء يتحرّك أسرع من الظلام، فإنّك عندما تضيء شمعة في الغرفة المظلمة لن (تشقّ الظلام) فقط، وإنّما سوف تتحوّل الغرفة فجأة إلى (مكان يشعّ بالضِّياء)! ولعلّ هذا يعطي لما تَحفّظه من قول حكيم الصِّين الكبير (كونفشيوس): "بدلاً من أن تلعن الظلام إشعل شمعة"، تفسيراً حركياً، يجعل من شمعتك الصغيرة التي تثقب بالون الظلام طاقة مشعة، ولذلك قيل من وحي الوعي العملي: أنر الزاوية التي أنتَ فيها. إنّ الطاقات الدُّنيا أو المنخفضة إذا احتلت مساحة أكبر مما يجب، تمدّدت أو زحفت على الطاقات العُليا لتصيبها بالعطب أو الخمول أو الخمود، ولذلك يجب التيقّظ دائماً، والعودة سريعاً إلى المصدر، حتى لا تموت البطارية التي تحرِّك سيّارتنا! ب- المَلِك الذي لا نهاية لمُلكه: إنّ المصدر الذي تدعو إلى الإرتباط به كأفضل علاج من أمراضنا النفسية. أو المحافظة على صحتنا النفسية، ما مالك المُلك يؤتي المُلك مَن يشاء وينزع المُلك ممّن يشاء بيدهِ الخير وهو على كلِّ شيءٍ قدير، فكلّ الممالك والحكومات والدول – مهما أوتيت من القوّة – سيأتي عليها زمان تنتهي أو تنهار فيه، إلّا سلطان الله تعالى وملكه، فهو في مدى الزمن وبعد أن يلفظ الزمن الدنيوي آخر أنفاسه، إنّه القوي بلا تذبذبات أو تأرجحات بين القوّة وبين الضعف، هو ملك ثابت، قوي، عزيز، دائمٌ لا يزول، ولا حول ولا قوّة إلا به. من وصايا العلاج النفسي التي أثبتت جدواها: "غصْ في فكرة الطاقة اللانهائية العُليا التي سوف تحقِّق لك كلّ ما تتمنّاه". ذلك أنّ تجربة التوسّل بالقوى الفقيرة والواقعة تحت هيمنة القوى العُليا لم يجدِ المتشبِّثون بها نفعاً. فالجبل لم يعصم ابن نوح من الغرق، على الرغم من ثقته العالية أنّ الجبل سيعصمه من الماء، وأموال قارون الطائلة لم تسعفه في اللحّظة التي كان يطلب فيها النجدة أثناء خسف الأرض به، لقد وقفت أمواله الطائلة عاجزة أمام قوّة الله. إنّ اللجوء إلى الطاقة العُليا اللانهائيّة، هو وحده الذي يحقِّق السلامة والنجاة: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) (هود/ 42)، و(لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) (القصص/ 82). في قبال هذه الصور المُلتقَطة لأصحاب الطاقات المنخفضة، يمكن التأمّل بصورة مقارنة بأولئك الذين ارتبطوا بالمصدر ارتباط وثيق كإسماعيل (ع)، الذي لم يتردّد في القول: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102). وكالمؤمن الذي قال لصاحب البستان الفخم: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ) (الكهف/ 40). ت- الرحيم الذي يهب الرحمة: قلْ في لحظةِ نضوب: "يا مَن لا تفنى خزائن رحمته.. إجعل لنا نصيباً من رحمتك"، وستدرك – لو بعد حين – كيف أنّ الماء المنهمر من السماء يتدفق على صحرائك القاحلة ليرويها! لقد كتبَ تعالى على نفسه الرحمة، و(كَتَبَ) في اللغة العربية تعني (أوجب) أو (فرض)، فإذا كان ربّ الرحمة التي وسعت كل شيء قد أوجبها على نفسه، فما عجبنا إلا من قانط أو يائس أو محبط، وإذا كان عزّ وجلّ لا يمنع أحداً من عطائه، سواء الذين سألوه والذين لم يسألوه، أو الذين أطاعوه والذين عصوه، فهذا يعني في مفهوم الصحة النفسية، أنّه تعالى يحقِّق لنا حالة (التوافق) أو (التوازن) كلّما اختلّ الميزان، وشطّت القدم، وخرج السائر عن مساره، وسدّت الطرق إلا الطريق المفتوح عليه. إنّك لو تلمّست مواقع رحمة الله في حياتك، لرأيت أنّها رفدٌ لفقرك، وتجديد لحياتك، وإطالة لعمرك، وتمويناً لك بالصحة والعافية والتوفيق والأمن والطمأنينة والعفو والمغفرة والهداية والاستقامة والراحة والسكينة. إنّ (الشخصية السوية) و(الشخصية المتزنة)، هما من أنماط الشخصية التي تستشعر الرحمة وتستحضرها وتتلمّس آثارها في كل شيء حتى في الكوارث والمصائب والنكبات. فلقد عرّف علماء النفس الشخصية السوية بأنّها التي تتمتّع بحالة ديناميّة تبدأ في قدرة الفرد على (التوافق المرن) الذي يناسب المواقف التي يمرّ بها، وهي وقرينتها الشخصية المتزنة التي تمتاز برزانة العقل وحكمة الاعتدال، تتمتّعان بقدرٍ عالٍ من الصحّة. ولا نعجب من اعتبار علم النفس المعاصر الدِّين عاملاً مهمّاً في إعادة الطمأنينة إلى النفس، حيث يؤكد عالم النفس (هايكو إرنست) أنّ عدداً متزايداً من الدراسات كشف عن وجود تأثير إيجابي وثيق ومتبادل بين الإيمان (التديّن) والحالة الصحية، فمّن يؤمن بإلهٍ خيِّر، أو بأي قوّة سامية، أو حتى بمعنى أعمق للحياة، فإنّه يتغلّب على أزمات الحياة، والإرهاق، والصراعات النفسية بسهولةٍ كُبرى، فالإيمان – بحسب رأي هذا العالم الذي نتفق مع ما يذهب إليه – يسهِّل استراتيجيّات تأقلم فاعلة، أي أنّه يؤثِّر (وقائياً)، ويسهِّل حصول (الشّفاء). وبلغة الاحصائيات، فقد تبيّن: إنّ التدّيُّن يؤثِّر في (84%) بشكل إيجابي في الحالات النفسيّة. و(13%) بشكلٍ حيادي. و(3%) ظهر أنّ التدَيُّن يضرّ بهم صحيّاً!! غير أنّنا إذا قبلنا نسبة التأثير الحيادي للدِّين، فإنّنا لا نقبل النسبة التي تُظهر الضرر الصحِّي له، إلّا إذا كان المراد من الدِّين شكله المتطرِّف والمتعصِّب والمتعسِّف والجامد المغلق، أو قبول بعضه ورفض البعض الآخر، وعلى أيّة حال فإنّ النسبة العالية للتأثير الإيجابي للدِّين كافية لاعتمادها كشهادة في مجال الصحّة النفسية. ث- الإرتباط بالمصدر إرتباطٌ بالقدير الذي لا حدّ لقدرته: كلّما ارتبطت بالسعة المطلقة، إتسعت آفاقك ورحب مداك، وإذا صحّت الدراسات التي تتحدّث عن حدّة البصر عند البدوي ابن الصحراء، فإنّ مرجعها أو منشأها هو هذا الإنبساط المترامي الذي لا تقف الحواجز أو الحوائل دون أن يرمي الإنسان بصره في أقصاه، وكذلك الذي يرتبط بالمصدر المطلق، فإنّه ينفتح على العوالم التي لا حدود لها، وبذلك فإنّ من المستغرب أن تجد إنساناً متديِّناً تديّناً حقيقياً وهو يعاني من الاضطرابات النفسية، نعم، هو قد يقايس شأنه شأن أيّ إنسان آخر، من ضغوطات الحياة، وأذى الناس، لكنّه يتعاطى مع ذلك كلّه بروحيّة (التقبّل) لا روحية التذمّر، الشكوى والاستياء، ويرى فيما يعانيه ويلاقيه مصادر إضافية للطّاقة والمناعة، وسيأتي شرح ذلك بإذن الله. إنّ الذي جعل (إبراهيم) (ع) يعيش الطمأنينة في الفترة الفاصلة بين حمله بالمنجنيق وبين إلقائه في النار، هو شعوره الحقيقي الصادق إنّه مرتبط بالقدير الذي لا حدّ لقدرته، بما في ذلك تحويل النار إلى بردٍ وسلامة. ولعلّك تعجب إذن تقرن هذا بدراسات نفسية مثيرة تصطلح على مَن يسير وسط النيران ولا يحترق، بأنّه يحمل (الواقي المقدّس) الذي يحميه من النار، أي شعوره بأنّه في ظلِّ قدرة الله وحمايته، واللافت في هذه الدراسات أنّها لا تعوّل على (قوّة الإرادة) فقط، لأنّ ذلك وحده ينتهي إلى الإجابة بحروق وجروح خطيرة، لكن الذي يسير وسط النِّيران وهو يحمل الواقي المقدّس: (القدرة الربانيّة) و(الحماية الإلهية) سوف يرى نفسه وكأنّه قادر على فعل ما يفوق قدرته الجسمانية، فيمرّ عبرَ النار من دون أن يمسّ. هذا إلى جانب دراسات أخرى تدعو إلى التحقيق المتعمِّق في أنّ الذين يطأون النار – بسبب اعتقادات خرافيّة – أنّها تُطهرِّهم، كانوا أقلّ تأثراً بالحروق من غيرهم! وبحسب الرياضات الروحية، فإنّنا يمكن أن ننسب هذا إلى رياضة (اليوغا) الهندية التي تقوم على استنفار طاقات الجسد الكامنة والمذهلة في الاستعلاء على الصعوبات القاهرة، ولكنّنا نميل أكثر إلى اعتبار الواقي المقدّس على أنّه نوع من الإحساس الداخلي الكبير بـ(معيّة الله) الذي يرفقه شعوراً جادّاً أنّ الله لن يُسلِّم عبده المُتّكل عليه والمفوِّض أمره إليه، المحسن الظنّ به، إلى أذىً، ما دام واثقاً كل الثِّقة أنّه الوحيد القادر على إنقاذه، وأنّ ثمّة فسحة لا تزال في أجله. فيونس (ع) وهو يغرق في ظلمات بطن الحوت والبحر واللّيل يتلمّس في الظلام الدامس المطبق نوراً شقّه بمناجاته الصادرة من أعماق القلب والقائمة على يقين ثابت أنّ خالقه وخالق الحوتِ وخالق الظلام والنور هو من بيده نجاته، حيث لا أمل في النجاة!! وعندما ربّت النبي (ص) على كتف صاحبه وهو في الغار ليهدِّئ من روعه ويخفّف من وطأة خوفه، كان يحمل نفس المشعل الذي حمله إبراهيم (ع)، وهو في طريقه إلى النار، حيث غلب (النور) (النّار)، ونفس المشعل الذي أوقده يونس (ع) في الظلمة المطبقة حيث قهر (النور) (الظلمة): (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (الأنبياء/ 87). أي كان على ثقةٍ كُبرى من أنّ الله لا يخيِّب رجاء مَن رجاه، ولذلك قال (ع): (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40). ومَن كان الله معه، كان (النورُ) معه و(السلامةُ) و(النّجاةُ) معه، بل كان معه كلّ شيء: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر/ 36). ج- الإرتباط بالمصدر إرتباطٌ بالرجاء وبالسعادة: لا نجد وصفاً دقيقاً ومليئاً بالايحاء لارتباط بالمصدر الذي يمثِّل مصدر الرجاء والسعادة، غير ما عبّر عنه الإمام زين العابدين (ع) في بعض مناجاته لله تعالى، حيث يقول: "ولا تقطع رجاءنا بمنعك، فتكون قد أشقيتَ مَن استسعدَ بك، وحرَمْتَ مَن استفردَ فضلك، وإلى مَن حينئذٍ منقلبُنا عنك، وإلى أين مذهبنا عن بابِك؟!"[1]. فالأمل الكبير الذي لا يخيب هو بالله، القريب الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويلبِّي استغاثة المستغيث المضطرّ – مِن أيّة بلوى أو شكوى – فيكشف عه السوء، ذلك أنّ الوقوف على باب أيّ كريمٍ لا يخلو من ذلّة، أما الوقوف على باب الله فاستشعار بالعزّة والكرامة، حتى وأنت في أقصى درجات التذلّل والخشوع بين يديه، فإذا أردتَ السعادة هبةً منه فإنّه لا يمنعها عنك، لأنّه إذا طردك عن بابه، فإلى أي باب تذهبْ؟ ولأنّه رفض الشركاء رفض تعدّد الأبواب وتعهّد أن لا يغلق بابه لذلك! فإذا طلبت السعادة من الله ووهبك تعالى السعادة، فإنّك حينئذٍ ترى الخير والجمال في أيِّ شيءٍ، وذلك هو سرّ السعادة الأكبر. قال التلميذ لأستاذه: لماذا يشعرُ الجميعُ بالسعادة إلا أنا؟! قال الأُستاذُ: لأنّهم تعلّموا كيف يرون الخير والجمال في كلِّ شيء! قال التلميذ: ولِمَ لا أرى الخير والجمال في كلِّ شيء؟! أجاب الأُستاذُ: لأنّ ما تعجزُ عن رؤيته بداخل نفسك تعجز عن رؤيته خارجها!! هذه اللّفتة النفسية عبّر (إيليا أبوماضي) عنها في حديثه عن النفس الجميلة المتفائلة التي تعيش الارتباط بالرجاء وبالسعادة في مصدرهما الأصيل، حيث يقول: أيُّهذا الشاكي وما بكَ داءٌ **** كيف تغدو إذا غدوتَ عليلا أيُّهذا الشاكي وما بك داءٌ **** كُن جميلاً ترى الوجودَ جميلا والذي نفسهُ بغير جمالٍ **** لا يرى في الوجود شيئاً جميلا فتمتعْ بالصُّبحِ ما دمتَ فيهِ **** لا تخفْ أن يزولَ حتى يزولا!! ومثلُ ذلك قول الشاعر (المتنبِّي): ومَن يك ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ **** يجد مُرّاً به الماءَ الزّلالا فهل تتصوّر أنّ عيسى (ع) كان مُصاباً بالزكام أو بمشكلة أنفيّة، أو حتى ذوقيّة معيقة، بحيث لم يشعر بجيفة أو نتانة جثّة الكلب المتفسِّخ التي شعر بها الحواريّون الذين كانوا في صحبته عندما فرّوا جميعاً بتلك الجثّة؟ نحن نؤكِّد بشكل قاطع أنّه شمّ الرائحة النتنة مثلما شمّها رفاقه، لكنّه وبسبب من روحه الجميلة التي تترصّد الجمال في كلّ شيء حتى في القبح نفسه، فقد لاحظَ بياض أسنان الكلب، فقال لأصحابه: ولكن انظروا: ما أشدَّ بياضَ أسنانه؟! لقد قالوا: ما أشدّ نتانة هذا الكلب!! فقابل صيغة تعجّبهم بصيغة تعجّب أخرى، فلم يكونوا يرون في الجثّة المُتفسِّخة شيئاً يمكن أن يكونَ جميلاً أو يوحي بالجمال، إلا أنّ عدسة عين عيسى (ع) المرهفة والتي تعوّدت إلتقاط الصور الجميلة لم تعدم الجمال في كومة لحمٍ متفسخٍ خالٍ من أيِّ جمالٍ! إنّ الدرسات النفسية المعاصرة تلتفت إلى هذا المعنى فتقرِّر "إنّ الأفكار الجميلة تُنشئ نفساً جميلةً"!! أي عندما تكون مستقبلاً جيِّداً، تصبح قادراً على رؤية الجمال الذي يحيط بك، وتملك حسّاً دقيقاً على استشعاره في كلّ شيء! وتؤكِّد هذه الدراسات أيضاً: "إنّ القدرة على رؤية الجمال في كلِّ مواقف الحياةِ هي التي تمنحُ حياتَنا معناها". يُروى أنّ أحدَ سجناء النازيّة كان يُعاني هو ونُزلاء السِّجن الآخرون من وجبة الماء النّتن الذي يُقدّم إمعانا في التعذيب النفسي لأعداء النازيّة، إلى أن تخيّلَ أنّ رأس سمكةٍ يطفو على سطح الإناء المملوء بالماء النّتن، فدرّب نفسه على رؤيةِ الجمال في الوجبة السيِّئة الرديئة بدلاً من أن يُركِّز على بشاعتها! وعلى هذه الأمثلة يمكن قياس غيرها، أو بمعنى أصحّ استيلاء نظرات جميلة مماثلة. يرى علماء النفس أنّنا إذا ركّزنا على ما هو قبيح فسوف نستدعي قدراً أكبر من القبح في أفكارنا، ومن ثمّ في مشاعر وأخيراً في حياتنا بأسرها، ويضربون لذلك مثلاً رائعاً، فيقولون: إنّ قانون الطّفو لم يكتشف بتأمّل غرق الأشياء وإنما بتأمّل طفوها!! وإنّ (أديسون) لم يتأمّل في الظلام بل بما يكتسحه ويقشعه ويزيحه، كان ما يهمّه ليس أن يضيءَ ليلَ الناس فقط فينتفعوا به أكثر، بل بما يجعل نهارهم أيضاً أكثر إضاءة ونفعاً!! وقد سُئلتْ (الأُم تيريزا): ما الذي تفعلينه يومياً في شوارع كلكتا؟ قالت: في كلّ يوم أرى رحمة الله في ظلِّ كل هذه المواقف المُحزنة!! في مفاهيمنا الإسلامية الأخلاقية، يُقابل الروح الجميلة في الأشياء غير الجميلة مفهوم (اللُّطف الخفيّ)، أي ما تراه جميلاً فيما هو غير جميل، وهذا هو أحد أهم علاجات الأمراض النفسية في مثل حالات القلق والكآبة والمَلل واليأس. إنّه ليس نوعاً من خداع النفس، أو حيل الدفاع عنها، أو تزييفاً للحقيقة، بل هو قاعدة (رؤية بياض الأسنان)! لقد طرح (عبيدُالله بن زياد) سؤالاً على السيدة زينب بنت علي (ع)، بعد مقتل أخيها الإمام الحسين (ع) في كربلاء: كيف رأيتِ صُنعَ الله بأخيكِ؟ قالت وهي تستحضر مفهوم اللّطف الخفي، الذي ما استحضره مؤمنٌ إلّا وفرّتْ نفسه قبلَ عينهُ: "ما رأيتُ إلّا جميلا"!! لقد قطعَ الأعداءُ رأسَ أخيها الحسين (ع)، ورضّوا جسده يخيولهم، ومثّلوا بجثّته، وكلّ ذلك لما يدمي القلب الإنساني مهما كانت عقيدته، ويجري العبرات، فأين الجمال في هذا؟! الجميلُ فيه أنّ زينباً (ع) لم تكن مسمّرة العين على المشهد الدموي المثير في كربلاء، بل هو على ما يمكن أن يزيح البشاعة عن أعين الناس حينها تتهاوى عروش الظلم في كلِّ وقت بجهاد المجاهدين، شهادة الشهداء، وتضحيات المُضحّين، ووعي الواعين. إنّ ارتباطك بالمصدر ابتغاءُ الرجاءِ والسعادة هو هذا، هو أنْ تكون لديك حاسّة جديدة إسمها حاسّة إلتقاط الجميل التي تصلح علاجاً للكثير من الأمراض النفسية. ح- الإرتباط بالمصدر ارتباطُ بالملاذ والملجأ: الإستعانة بالكبير، أو بالشرطي، أو بالسلطة، أو بالقضاء، أو الاحتماء بالعشيرة عُرف اجتماعي سائد في كلّ البلدان ولدى جميع الشعوب، فإذا ضعفت أو استُضعفت، فأنتَ مضطرّ لطلبِ الحماية ممّن هو أكثر منك قوّة وقدرة. في عالم الإيمان والتديّن، الأمر لا يختلف كثيراً، فبدلاً من أين تستنجد وتلوذ وتستعين بقوى صغرى (مهما كبرت)، فأنت هنا تستعين بمصدر القوّة، وبالقوة الكبرى التي تتصاغر دونها كلّ القوى، ولذلك فأنتَ دائم التطلّع إلى حماية اللهِ عزّ وجل لك حتى مع استعدادك واحتياطك، وما تملك من قوى ذاتية، فأنتَ قد تستعين بقواك أو القوى الظهيرة المساندة في دفع شر أو خطر مداهم، أو في استجلاب نفع عام أو خاص، ولكنّك لا تستطيع أن تحترسَ من المفاجآت أو المخبئات أو المجهولات، ولكي تعيش مطمئناً من هذا الجانب أيضاً لابدّ من الإستعانة بالله تعالى لأنّه (المفزع في الملمّات) و(القادرٌ على فتح الأبواب المغلقة)، والذي به (تُحَلُّ عُقد المكاره) ولقدرته (تُذَلُّ الصّعاب)، ولأنّه (المدعوُّ للمهمّات)، وهو الناصر والميسِّر وراحم مَن قصده من المسترحمين، ومغيث مَن استغاثة من المضطرِّين. يقول نبي الرحمة (ص): "إنّ اللهَ لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أن ينامَ، وباسطُ يدَه لمسيء النّهارِ أنْ يتوبَ باللّيلِ، ولمسيء اللّيلِ أن يتوبَ بالنّهار"[2]! كان يعقوب (ع) حين واجه أبناءه الذين غيّبوا يوسف (ع) عنه بالاستعانة باللهِ على مكرِهم، قائلاً: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف/ 18). لم يكن يهدِّئ خاطره بهذه الكلمات المخدِّرة أو المسكِّنة بحسب مَن لا يعرف قيمتها، بل ترك لنا وصفة طبِّية رائعة لمواجهة الحوادث الصعبة والأزمات الشديدة بالصبر الجميل، فما هو الصبر الجميل؟
[1]- الصحيفة السجادية، الدّعاء العاشر. [2]- رياض السالكين، ج 2، ص 501.

ارسال التعليق

Top