• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خُلق التعاون

خُلق التعاون
   القرآن الكريم توجد فيه آيات محكمات، أي "قواعد كلية"، وآيات مفصلات، أي "قواعد جزئية تفصيلية". استمع معي لهذه الآية الكريمة: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود/ 1)، الكليات مثل قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء/ 23). والجزئيات مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة/ 282). وهنا يأتي السؤال: هل الأخلاق من الكليات أم من الجزئيات؟ بمعنى: هل هي من كليات الدين أم جزئياته؟ الأخلاق من القواعد الكلية للشريعة الإسلامية، بل كل الأديان السماوية كانت الأخلاق من كلياتها. لذلك، يقول النبي (ص): "إنّما بُعثْتُ لأُتمّم مكارِم الأخلاق"، ما يدل على أنها في كل الشرائع السابقة. لابدّ أن تفهم الدين هكذا وتشعر بقيمة الأخلاق وأهميتها على هذا النحو، وتكون أحرص على الحفاظ على الكليات. إياك من أن تضيع الكليات وتصغرها، وتكبر الجزئيات، فتحدث فوضى في حياتك وفي دينك. لذلك، كان أبوبكر الصدّيق يقول: "إنّ الله لا يَقْبَل نافلة حتى تؤدّى فريضة". والنبي (ص) لمّا سُئل عن المرأة التي تقوم الليل ولكنها تُؤذي جيرانها قال: "هي في النار" لماذا؟ لأنّها لم تهتم بالكليات. خُلق هذا الموضوع من هذه القواعد الكلية، ومهم جدّاً، هو خلق التعاون. التعاون لفظة قرآنية وقاعدة كلية قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2). ثمّ ختم الله الآية بأمره سبحانه وتعالى بالتقوى والتحذير من شدة العقاب، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). والمعنى: احذروا مَغَبّة التعاون على الإثم والعدوان وتَرْك التعاون على البر والتقوى، ومن العاقبة في ذلك شدة العقاب لمَن خالف أمره وارتكب نَهْيه وتعدّى حدوده. وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم في ما بينهم بعضهم بعضاً، وفي ما بينهم وبين ربهم، فإن كل عبد لا يَنْفَك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق. فأمّا ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاوناً على مرضاة الله وطاعته، التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بهما وهما البر والتقوى، اللذان هما جماع الدين كله. والمقصود من اجتماع الناس وتَعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علماً وعملاً. فإنّ العبد وحده لا يستقلُّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه، فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائماً بعضه ببعضه مُعيناً بعضه لبعضه.

فالإنسان ضعيف بوصفه فرداً، قوي باجتماعه مع الآخرين. وشعور الإنسان بهذا الضعف يدفعه حتماً إلى التعاون مع غيره في أي مجال، فأمر الله العباد أن يجعلوا تعاونهم البر والتقوى. ومن العجيب، أنّ هذه الآية جاءت وسط آيات تتكلم عن صراع مع الآخر (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8). وعلى الرغم من العداء جاء الأمر قوياً (وَتَعاوَنُوا)، وطبّقها النبي (ص) عندما قال: "لو دَعَتْني قُريش إلى حلف الفضول لأجَبْت". هذا التعاون، أمرٌ من القواعد الكلية للشريعة، التي تُطبّق على الأفراد والجماعات والدول والمنظمات في جميع المجالات، التي فيها بِرّ من مبادرات: بحث علمي، مُذاكرة، مشروع خيري، إصدار قانون، داخل الأسرة، كلما تشجيع للآخرين.. كل هذا من التعاون. وقد جاءت كقاعدة كلية لم تخصص ديناً أو عرقاً أو جنساً لهذا التعاون، بل تخاطب الإنسان كله في كل العالم. وأحد أهم الأسباب في غياب المسلمين عن الوضع العالمي، هو غياب روح التعاون بينهم، وغياب ثقافة العمل كفريق. نحنُ ناجحون نابغون كأفراد، ولكن في العمل الجماعي غير ناجحين كمؤسسات. يمكننا حصر الكثير من النوابع على المستوى الفردي، ولكن: هل نستطيع أن نُعدّد كم مؤسسة ناجحة في العالم العربي؟ التدريب على التعاون يبدأ من داخل الأسرة، ويُولّد حُبّاً ورحمة، ويحمي الأبناء من الانحراف. استمع معي لهذه النماذج التي تؤكد لك هذا المعنى. سيّدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل (ع) كانا في بناء الكعبة قمّة التعاون بين الأب والابن، وتربية للابن على هذا الخلق العظيم خلق التعاون: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 127-128). بعدما جاء الأمر الإلهي لسيدنا إبراهيم ببناء البيت، سار إبراهيم (ع) إلى مكة المكرمة، فلمّا وصل إلى مكة وجَد إسماعيل يُصلح نبلاً له وراء زمزم، فقال له: يا إسماعيل إنّ الله قد أمَرَني أن أبني بيتاً. قال له إسماعيل: فأطِع ربك. فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تُعينني على بنائه. قال: إذن أفعل. فقط إبراهيم إلى مكان البيت، فجعل يَبْني وإسماعيل يُناوله الحجارة، وكلما أنْهَيَا بناء صف منها، ارتفعمقام إبراهيم به حتى يَبني الذي فوقه، وهكذا حتى تمّت عمارتها. وكذلك تم تطبيق هذا الخلق أيضاً بين النبي (ص)، وسيدنا علي بن أبي طالب (رض)، في بداية الدعوة. بل قد حدث هذا التعاون بين النبي (ص) وأبي طالب نفسه، عندما تعاون معه في تربية سيدنا علي، لمّا زادت عليه النفقة. إنها عائلة متعاونة. ولقد ضرب النبي (ص) وصحابته الكرام أروع الأمثلة الواقعية وأجلّها في روح التعاون والتكافل، كما ربّاهم الله تعالى على ذلك، لتنبعث فيهم عزائم التعاون الأخوي على مكارم البذل والإيثار والتضحية والفداء. مثال ذلك أيام حَفْر الخندق لمواجهة حصار الأحزاب. وقد بلغ من تلاحم الصحابة وصبرهم وتضحياتهم مبلغاً عظيماً وعجيباً من التعاون، في كل شيء من أحوالهم، على الرغم من الظرف العصيب، وما كان يكلفهم من الفزع والمشقة والكرب العظيم، الذي ليس له من توصيف مُبين إلا قول الله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) (الأحزاب/ 10-11). وقد كافأهم الله تعالى جزاء تعاونهم وصبرهم، فكفاهم القتال وردّ أعداءهم على أعقابهم مغتاظين خائبين: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب/ 25). ويُربّي الإسلام المؤمن على هذا الخلق العظيم والعمل بمقتضاه، كما يُبيّن القرآن الكريم والسنّة النبوية. فلقد قصَّ القرآن علينا أمثلة حيّة في ذلك للعبرة والاقتداء، كما في حال موسى (ع) يسأل ربه أن يعينه ويشد أزره بأخيه هارون: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (طه/ 29-32)، فاستجاب الله دعوته: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) (القصص/ 35). وفي مثال ذي القرنين الذي آتاه الله تعالى واسع السلطان وفتح البلدان، ومع ذلك يستعين بمن استنجدوا به على ظلز يأجوج ومأجوج وإفسادهم: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) (الكهف/ 95). ولأن تطبيق هذا الخلق يجلب السعادة للفرد والمجموع فقد أمر به النبي (ص) في كل الأوقات، بل وشبّه مَن يتحلّى بكامل الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يُؤمِن أحَدَكُم حتى يُحبّ لأخيه ما يحب لنفسه" (متفق عليه). ويقول عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه" (متفق عليه). ويقول النبي (ص) أيضاً: "مثل المؤمنين في تَوادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمّى" (متفق عليه). مَن منّا يحقق هذا المقصد الكلي من مقاصد الشريعة في بيته، مع أبيه وأمه، مع صديقه، مع كل الناس؟ هيّا، قُم وابحَث عمّن يحتاج، وتعاون مع كل مَن حولك في العمل التطوعي، وفي الجمعيات التنمويّة والخيرية، ولا تضيع هذا الخلق العظيم من حياتك. وأخيراً، أكثِر من دُعاء النبي (ص): "واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت".

ارسال التعليق

Top